رسالة الإمام الجنيد إلى عمرو بن عثمان المكي
رحمهما الله تعالى
* أوتِيتَ من العلم والحكمة أعلى منازله ؛ وتَنَاهيتَ من الرسوخ في المعرفة إلى غاية أماكنها، وأدنِيتَ في مجالس القرب إلى أزلف مواطنها ؛ وتُبّوئَ بك من كمال جوامع الأنباءِ إلى استيعاب معالمها، فجرى ذلك لك بالتمكين وأنت مستبصر ؛ وعلوتَ في سمو انتهائه مشرفًا مستظهرًا. قد تضمنته بقوة الاشتمال عليه فأفضى (1) إليك ؛ واستغنيت عن السعاية إليه بمنيع صولة التمكين، لأنك (2) لذلك كله بوضح الحق مستبين ؛ ولأنك فيما اخُتِلفَ فيه من العلم على صحة اليقين.
وجعلك الله مع ذلك ممن سعد به إخوانه، ونالوا البُغيَةَ من العلم بوصفه وبيانه وانكشفت لهم الحقائق المشفية من تعبير لسانه، وأنس منهم من غاب أو حضر بشرف مكانه.
بل جعلك الله نورًا يملأ بسنا ضيائه الخافقين ويلوح مضيئًا طالعًا على سائر الثقلين ؛ فينال عند ذلك كل فريق منهم حظه الكامل ويصل إلى مراده الشامل الفاضل، حتى تكون هذه الظواهر أموره التي ألبسها وبوادي أحواله التي أريد بها، وقد نظر فيها فوقفت به الضنه عن ظهوره، وتضمنته الصّون والحُجبَة والكتم عن حضوره.
وذلك سر تضل العقول عن الإشارة إليه ؛ وتنقطع الفهوم عن شيء من الورود عليه، هيهات هيهات طمست عن ذلك أطواق كوامل العلماء، وضلت عنه مقاليد أكابر الفهماء. فهو في تفرد توحده عليَّ، ويعزل قيومته تجرده. فكم من مؤمئ إليه بتوهمه، ومن مظهر التحقق (3) به بالطيب عنده أن يعرض لينطق به، تلجلج لسانه وتحير عند الإيماء به إلى بيانه. ويظنُ الجاهل إذا سمعه أنه قد أصاب وهو في عمياء مظلمة عند الخطاب، يكون في دعواه وحقيقة الحق تدفعه، ويوهم بوصفه السامع * في القصد إلى ما يقع الفهم به في النفاذ فيما أمر به، والترك لما نهى عنه.
وذلك بعض حق العلم على من حمله، فمتى اقتضيت لنفسك، يقع العلم لها قبل إعطائك منها حق ما للعلم. واجب احتجب عنك نفعه ونوره وبقى عليك رسمه وظهوره، وذلك حجة للعلم عليك وإن كان رسمه ظاهرًا (4) لديك.
فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقصر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت بك الإشارة إليك وانبسطت به الألسن من الثناء عليك فإن ذلك حتف لمن هذه الصفة صفته، وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته.
فلما سمع العالم من الحكيم ما نطق به، وقرع سمعه بيان ما شرحه له، أطرق مفكرًا ثم انتحب بعد الفكرة باكيًا، فطال بكاؤه وعلا نحيبه واشتد اضطرابه، فأقبل عليه عند ذلك الحكيم فقال له: الآن حين بدت شمس الحكمة تطلع عليك وواضح نورها يصل إليك، وعند ذلك تنجلي عنك ظلمات ما أعرضت عنه من علمك، وأغفلته من موانع العلل لفهمك، وإني أؤمل بذلك صلاح ما أفسدته والتلافي لحفظ ما ضيعته.
فلما سمع العالم إقبال الحكيم عليه بذلك، سكن من اضطرابه وهدأ من شد بكائه، ثم أقبل على الحكيم فقال: زدني من دوائك هذا فقد لاوَم جراحي، وقويت الأطماع في الوقوع لحجتي، فتخلصني بلطيف حيلتك ورفق حكمتك من وبال ما أنت أعلم بما كَمُن منه في سري، واستتر عني من خفيّ هوى الشر، فقد انطوى عني في سالف الأوقات الماضية خفيَّ مستبطنات كانت في السرائر كامنة وكشفت لي عنها بجميل نعتك وأوقفتني على ما بطن منها بلطيف رفقك.
قال له الحكيم: تحمد الله أبدًا فيما أنعم به عليك من اطلاعه إياك * على ذلك وإيقافه لك على مواضع خللك، فكن بالذل بين يديه خاضعًا، وافتقر إليه بالاستكانة والخضوع ضارعًا، فإنك لا تَخفَى مناجاتك له سامعًا، وإنك إذا كنت كذلك كان لك إليه شافعًا ؛ واعلم مع ذلك أن ألسنة الحكمة لا تنطق إلا من بعد أن يؤذن لها، وإذا نطقت وقع النفع لمن أسمع بها، وإنما مثل ذلك من فضل الله على خلقه، مثل غيث سمائه الذي إذا أنزله وأحيا (5) به ميت أرضه أما سمعت الله تعالى يقول « فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (6) وكذلك يحيي الله تعالى بألسنة الحكمة ما أمات الإعراض عنه في قلوب أهل الغفلة.
قال العالم للحكيم: أجل إن الذي وصفته كما وصفته، وإني أؤمل من الذي انتدبتني بلسان حكمتك وجاد عليّ تعطف رحمتك، أن تستنقذني من وبال التقصير بدلالتك، وتخرجني من ذلة التخلف بمصادفة رؤيتك.
وقد علمت الآن أن أربى إلى التكشف لي عما لزمني من وبال تركي للعلم بعلمي وتخلفي عما أوجبه حق العلم عليّ، وعما استتر في نفسي وانطوى بالاستخفاء في سري ما لم أكن له مدركًا ولا بما معي من العلم عليه واقفًا، وقد أشرقت الآن بقدر ما أيّدني الله تعالى به منك ومنَّ به عليّ، وكشفه لي بأسبابك على بعض ذلك، فبعلمي بالقليل من ذلك علمت أن عليَّ منه كثيرًا لم أدركه، وخَفيّ مستبطنات لم أره ولم أعرفه.
فاكشف لي أيها الحكيم من أمري عما أنت أعلم به مني، فإن الطبيب أعلم بداء السقيم من نفسه، وأحق أن يصف له من الدواء ما يكون سببًا لبُرئه (7).
قال الحكيم: قد بدت مطالعات الفهم تلحقك بمعرفة ما عليك من ذلك ولك، وبدت أوائل * معاني الصحو تلوح لعقلك، وبدت أوائل الإفاقة تسعى (8) بحركاتها لبعض ما في سرك. واعلم أن ضرر الأديان أشر من ضرر الأبدان ؛ وسقم الجوارح والأجسام أسهل من سقم القلوب والأفهام ؛ لأن علل الدين والآفات المعترضة على اليقين سبب للبوار، وموردة لأهلها على النار مؤذية إلى سخط الجبار، وما عدا ذلك إلى غيره وكان واقفًا فيما سواه من الأمراض والأسقام الكائنة في الجوارح والأجسام، فذلك ضرر يؤمل برؤه ويزول مكروهه وشره ويرجى من الله تعالى ثوابه وأجره. وأعلم أن الطبيب العالم المجرب والحكيم الناصح المؤدب أعلم بدنف الأبدان والعلل المخامرة بآفاتها للأديان، لأن المعبر عنهما يعبر عما يجد من ذاته، والواصف لما حلّ به من بلائه، مقصر عن بلوغ نعته لذلك، مختلف عن الوصف لما هنالك، ووصف المتطبب الخبير المجرب البصير يكشف لأهل الأمراض عما وجدوه، وينبههم عن زوال ما فقدوه، حتى كان الموصوف بعبارة اللسان منظور إليه بحقيقة العيان ... وإني أصف لك على أثر ذلك أمورًا تقّوي لك حالك وتبلغك غاية البغية من سؤالك والقوة بالله العظيم.
اعلم أيها المنسوب إلى العلم بوقوع الصحو لك تتبين حيرة السكرة. وبكون الإفاقة تقف على وقت الغمرة، وبصحة الذكر ينكشف لك وبال الغفلة، وبالسلامة والعافية يتميز لك وقت العلة.
فأعلم أن ذلك كله مشغل في حين كونه عن حقيقة معرفته، ضار لأهله بما لبسهم منه عن وجود حيرته إلا بحمله، عِلمٌ مزاجه اللبس والظلمة ليثبت الله تعالى بذلك عليهم الحجة.
فخلَ عن نفسك أيها المعنىّ بها والحريص على تعجيل * استنقاذها وبال السكرة والغمرة والغفلة والحيرة باستعمال ما أصفه لك، والإسراع إلى ما أحُثُّكَ عليه، والمبادرة إلى ما أشير به إليك، فإن صحة الصدقة وجودة القصد يؤديانك إلى المحل الذي هو باب المدخل فيما تحبه والمخرج مما تكرهه، ولن يحجبك عن بلوغ ما تريد – والقوة بالله – إلا بتقصيرك عن المجاهدة في واجب حق السعي عليك.
فاحذر ثم احذر أن تكون على شيء من ذلك مقصرًا، أو ألفاك وقتًا وأنت عنه فاتر راجع، فإن مطيتك الموصلة لك إلى بغيتك صدقك في إقامة المناصحة في محل مجاهدتك ؛ فقد أوقفتك على وجه المنهج والمدرجة وقربتك من المسير على أوضح المحجة.
وأعلم أيها الرجل الحاذر المحثوث المبادر أن الإقامة المانعة لك ولنظرائك بعد الحمل للعلم وطول السعاية فيه ودوام العناية بجمعه والاستكثار من الحمل له، الميل إلى التأويل والدخول به فيما خفي من النفس من الميل إلى الدنيا والركون إليها.
وهم في ذلك على معاني مختلفة: فمتأول متبين الأغماض والأعراض فيما استكن في خفايا نفسه، فمضى فيه على ما عليه منه والعلم بنكته. ولا يتركه في كثير من الأوقات ويستتر ذلك عليه في بعض أوقاته.
ومتأول قصد الصحة والتحقيق فيما تأوله، ولحقه في ذلك الميل من حيث لم يستدركه، وانطوى عليه ما عليه فيما قصد له، وكان عنده الذي عمد له وتأوّله أولى به من غيره فمضى على ذلك، وهذا نعت حاله، فكان مما قصد له في التأويل على معنى الصفة الأولى (9) التي تُبين لصاحبها خفي أغماضه وطوي ما في نفسه إذ جعل العلم ذريعة وسببًا إلى ذلك، فلبس حيلته وتحمل بلبوسه وأظهر بالتأويل * أثر العلم ودعا إليه ونصب نفسه للشهرة به ليعلم الناس ما علم منه.
فلما عُرف موضعه ومكانه وسُمع منه وأقبل الناس عليه نحوه، استحسن اجتماع العوام عليه وثناء الجاهلين بما ليس فيه، فقوى عليه بذلك سلطان التأويل، وأوهم نفسه حظ اجتماعهم وانبساط ثنائهم وكثرى تعظيمهم وحسن قبولهم له، بما ظهر من نفسه وتحسن به، مما يعلم الله تعالى منه خلاف ما أسّره وأضمره، فلما استوى له ذلك عند العوام والجهلة، وكثر حمد الحامدين.
بالغلط والغفلة، مال إلى ما في نفسه من أخذ العوض على ما نشر من علمه، ورضي بما تعجله من ذلك ثوابًا لعلمه، وصار بائعًا للعلم بالثمن اليسير والخطر القليل، ورضي بالدنيا عوضًا من الآخرة ومن ثواب الله تعالى على الأعمال الصالحة، في جملة من ذمّة الله تعالى في كتابه وقصَ علينا من بيانه على لسان نبيه >. قال الله عزّ وجلّ « وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ » (10). وقال تعالى « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ » (11).
فذمّهم الله تعالى وقصّ علينا في كتابه وصرّح بذلك إلى العقلاء من عباده، وبينّه بيانًا محكمًا قويًا لئلا يكون لمحتج في ذلك حجة، ولا لقائل فيه مساغ ولا مدافعة.
ثم إن الله تعالى قصّ علينا قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبرنا بما نعتهم به وبما أخذ عليهم من ترك الدنيا والتشمير إلى الآخرة، وألا يأخذوا على شيء من ذلك ثمنًا ولا يريدون عليه أجرًا. ولأن حق العلم وحق تأديته إلى الخلق ألا يكون لشيء منه جزاء إلا ثواب الله عز وجل عليه * والجنة التي جعلها دار من اتقاه وأطاعه قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: « قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ » (12). وقال تعالى: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى » (13).
وكذلك قصَّ علينا في قصص الأنبياء عليهم السلام، قال نوح « قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ » _ « وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ » (14) وقال « إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي » (15). ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى.
وهذه سيرة الأنبياء عليهم السلام في الأمم وسيرة العلماء في الناس ألا يأخذون (16) على شيء من العلم ثمنًا ولا يطلبون على شيء بما يعلمون أجرًا وسيما ( ما ) أخذه العلماء على العلم سحتًا وسيما ما أخذه الربانيون والأحبار مع نهيهم عن ذلك فقال تعالى « لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (17) والأخبار في النهي عن ذلك كثيرة والاستقصا في ذلك من الحجة يطول وصفه وقد تبين لك بعض ما فيه كفاية وبلاغ والله الموفق.
وأما الطوائف التي تأولت ورأت أن الذي تأولته هو الحق فإنهم قوم لحقهم الزلل من حيث غاب عنهم (18) علم الحقيقة ؛ ونالهم من المشكلات التي لا تبين لأهلها إلا بعد التورط فيها والانغماس في مكروهها ؛ جعل القوم أئمتهم فيما تأولوه رجالًا (19) قلت مناصحتهم لأنفسهم ولم يصادفوا صواب الحقيقة فيما عمدوه ؛ قالوا: بالخلق إلينا فيما عَلمِناه أشد الحاجة ؛ وعلمُنا إقامة الحق في سائر الخلق ؛ فمن ذلك تقديم الأئمة والمشورة عنهم والتقّوى بهم. (20) وكذلك الأمراء والرؤساء وعظماء أبناء الدنيا.
فجعلوا السعي إلى الخلفاء والأمراء والحكماء وعظماء أبناء الدنيا عملًا لهم يحتسبون به ويؤملون ثوابه، وجعلوه من أجلّ الأعمال وأعظمها قدرًا، وأوفرها عندهم ثوابًا، فحملوا العلم إليهم وطرقوا به أبوابهم، وسعوا بما حملوه منهم إلى من لم يطلبهم له ولم يدعهم إليه ولم يعرفهم به * فلحقهم في أول الأمر ذلّ السعاية، والتوسل إلى الحُجَّاب، ومهانة الوقوف على أبوابهم، فمن بين مأذون له ومن بين مردود، قد لحقتهم المذلة، وعلتهم العقوبة ولبستهم الذلة، ورجعوا بخضوع المذلة.
فلم يزالوا كذلك في نَصَبِ الغدو والرواح، وذلك سبب الهلكة والاجتياح، حتى وصلوا إلى الذي قصدوا، ونسوا الإله الذي عبدوا، وأوردتهم الغفلة والنسيان موارد الأموات، وغمرتهم كثرة العلل والآفات واتصلت بأبصارهم وقلوبهم فتنة ما أعد أبناء الدنيا لأنفسهم وآثروه على أمور آخرتهم من بهجة رونقها ونضرة زينتها ولوعة زهرتها.
واعلم أيها الباحث عن واجب العلم وشرفه، والطالب للمصافاة بخالص الأعمال لسيده، أن أقدام القوم عن مناهج الحقيقة انحرفت، وأن قلوبهم على صحيح الإرادات ما استوت، وأنهم مالوا بخفي ما في النفوس على جميل ما أظهروه وإلى محبة علم الخلق به وتعظيمهم عليه وإجلالهم من أجله. وأحبوا اجتماع الخلق عليهم وإشارتهم إليهم (21)، حتى تصوّب آراؤهم وتصدق أقوالهم وتكبر غايتهم ويتصل الثناء لهم ؛ وإن قصر عن شيء من ذلك عنهم كرهوا وإن لم يقع لهم ما يحبون (22) غضبوا، ولا تسل عن فرط الغضب منهم والرضا والتعتب منهم على من خالف مواقع الهوى. وصفهم بكل ما هو فيه يطول به الشرح ويطول به الكلام، وقد شرحت لك من وصفهم ما انبسط به لساني . وأجري لك من نعتي وبياني وفي ذلك كفاية.
فالبس الآن أنت جلابيب الحذر وتدرع بأدرع الخوف، وخذ على نفسك جُنة التقوى، وقم لله تعالى على نفسك بدوام الرعاية، ودوام التفتيش وشدة المحاسبة وجودة التحصيل وصدق البحث، وصل سراَ * مع ذلك بدوام الذكر وقَوِيّ الفكر.
فكن ممن جاهد في الله عزل وجلَ حق جهاده، وممن أثنى الله تعالى عليه من صالحي عباده، مع ما يقع لك من الوعد الجميل والثواب الجزيل. قال الله عز وجل:
« وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ » (23) وقال الله تعالى
« وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا » (24).
فهاتان آيتان موجبتان لمنالات الخير ووقع الهداية والرشد، فخذ بحظك الأوفر من العمل بهما واللزوم لما أمر الله تعالى فيهما. وكن على حذر من موافقة شيء مما تقدم به النعت من ذلك التأويل وخطأ الرأي، فإن ذلك مؤدي إلى إحباط العمل وشدة الندامة في المنقلب.
قال له العالم: أيها الحكيم قد أتيتَ على الذي في نفسي، وبلغتَ مدى ما كان يجول في صدري، وزدتَ على ذلك من الوصف أشياء عرفت فضلها، وانكشفت لي صواب العلم بها، وأرجو أن يكون ذلك من فضل الله تعالى ورحمته لي، وقد جعلك الله تعالى سببًا لتنبيهي على أمور لولا مِنةُ الله تعالى علىّ بك فيها لذهب بي التقصير عن العلم بها، حيث ذهب بمن تقدم وصفك له، فأوقفني حقيقة علمك بها على زلله وخطأ رأيه.
وقد أنعم الله علىّ بما أيّدني به منك، وعظّم عندي قدر ما جعلك الله له أهلًا وموضعًا من شرحك لما تقدم من نعته ووصفه، من أحوال الطبقات الثلاثة المتأولين، وما وقع لهم من الخطأ في القصد والميل بالعلم إلى غير منهجه، وإلى الانحراف فيه عن سواء السبيل وقد احتجت أن تصف لي العاملين لله تعالى بحقيقة * العلم القائمين بحقه، الصادقين فيما حملوا منه وفيما قلدوه من تأديته، الممدوحين بنشره وبما نقلوا إلى من دونهم منه ؛ والمحتسبين في تعليمهم الناس على صحة الإرادة وصلاح (25) النية وجميل السيرة، الذين لم تمل بهم الأطماع ولم يفتنهم الاختداع، ولم تعرج بهم الأهواء، ولم تسترقهم إرادات النفوس ؛ ولم تعطف بهم الدنيا ؛ ولم يجر عليهم الزلل والخطأ، وكانوا في ذلك كله على صحة المعنى.
قال الحكيم: ابشر بما فتح الله تعالى لك من باب السؤال، ويسرك له من صحة المقال، فإن ذلك إن شاء الله تعالى سبب لك إلى ركوب الأعمال ومباشرة في حقيقة قصدك، واجعل توسلك إلى الحكمة واستدعائك جميل الأفعال، ومؤديًا لما أؤمله لك إلى تمهيد صدقك، فأخلص (26) الإرادة لله تعالى. ما تحب منها تحصين سرك من العلل المانعة عنها ؛ وأصلح الضمير بإجمامه لما يجب لها، فإن الحكمة لمن اشتملت عليه فيها الرغبة، واستولت على خالص سره المحبة، أشد عطفًا وحنينًا وميلًا من الأم الشقيقة (27) والأب الرفيق.
وكأني مع ذلك أرى سحابًا من العلم غدقة منبسطة عليك، مونقة قد أظلك غمامها، وقويت لك الآمال باستتمامها، فاستمطر (28) الغيث الكائن فيها بدوام الوقوف بحضرة فنائها، وأدم الاستغاثة بمنزّل الغيث ومنشر السحاب وكاشف الضر ومعتق الرقاب ؛ واعلم أنه جل ثناؤه يحيي بقطرة من غيث رخمته، موات ما أنزلها عليه من بريته ؛ فتحرّى (29) طلب الحياة تكون السقيا، فإن أوائل تلك الغمام توجدك الشفا، وإن غدق ما بها يغسل عن سرك الميل إلى الدنيا، ومباشرته بجسمك * يغسل عنك سائر الأدواء، وذوقك لسائغ طعمه يميت من نفسك الهوى.
وأعلم أن الله تعالى إذا أراد عبدًا سهل له السبيل ووطأ له التثقيل (30) وأسرع به في الترحيل وبلّغه المنزل الفضيل ومنحه الحظ الجزيل. وإني أؤملك من الذي عرضك لنجح السؤال وصحيح القصد في المقال أن يبلغك بفضله عليك ورحمته إياك، منازل المنتجبين من أوليائه، والأصفياء المستخلصين من عباده.
وأنا واصف لك إن شاء الله تعالى ما سألت عنه، من نعت أهل الحقائق من أهل العلم، العاملين به، الصادقين في القصد إليه، المجتهدين في إقامة حقه، المريدين للعلم لما وجب عليهم منه، والذين لم تفتنهم فيما قصدوه أطماع الدنيا، ولم تمل بهم عن الأخذ بحقيقته، ولم يستفزهم الغواة من الأعداء، « أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ » (31) أعلم أن ما أوتي (32) المحققين من أهل العلم من العمل في أول الطلب إصلاح النية وصحة المراد والموافقة فيه للنفوس فيما بدا من إرادة الطلب، فلم يبيحوا أقدامهم السعي، ولم يتحركوا في ذلك بالجوارح، إلا من بعد ما أحكم جميل النظر لهم بالانبساط فيه ؛ فسهوا فيه على أصل ما أدبهم العلم في أول الأمر، ومضوا على صحة الحال وشهادة العلم بذلك ؛ وألزم صحة ما يبدؤ (33) به الحق قلوبهم، الإشفاق والحذر والتقية، فضمّهم وجود ذلك، وألزمهم حصر الجوارح وضبط السرائر ودوام الصمت، وخافوا مع ذلك أن يكونوا قد قصروا عن واجب حق السعي في طلب العلم، واشتد تحصيلهم على النفوس، وصحبهم جميل الذكر ودوام الفكر * في مواطن السعي فحماهم ذلك عن الانبساط عن معاشرة الطالبين له، والساعين معهم فيه فكانوا بحال والحاضرين معهم بحال، كلما بدا من غيرهم لغو أعرضوا، وكلما بدا من سواهم غفلة أو لعب خافوا وحذروا، وكلما ظهر لهم من غيرهم مزعج يجري إلى تأكيد حالهم وتشديد ضبطهم لما عليهم يدعون لمن حضرهم بالسلامة، ويحبون لهم الصلاح والاستقامة، لا يؤذون الناس ولا يحقرونهم ولا يغتابونهم ولا يذمونهم، بل يشفقون عليهم إذا رأوا منهم الزلل، ويدعون لهم إذا بدا منهم الخلل، يعرفون المنكر وينكرونه ويتجنبونه، ويعرفون المعروف ويحبونه ويستعملونه، لا يزدرون المقصّرين لكثرة وجوده، ولا يغمصون (34) مَن دونهم لما به من حالهم حمدوه، بل يعرفون ذلك بدلالة العلم عليه، ولا يخفى عليهم من القوم ما نسبهم الحق إليه. فصواب ذلك وخطؤه لهم بالعلم مميز (35) والسلامة من رؤية مكروه ذلك لهم صاحب (36)، وفيما ألزمهم الإشفاق والتقوى شاغل (37) ولهم على طلب العلم مقبل (38)، ألسنتهم بحمد ربهم عند سماع العلم ناطقة، وقلوبهم إلى اعتقاد العمل به مبادرة، وآذانهم بحسن الإصغاء إليه سامعة، وأبدانهم بالخدمة لله تعالى ساعية، أحسنوا على جميل السيرة جمعه، وبالوفاء بفضل الله تعالى عليهم فهمه، ولم يزالوا بدوام السعي إليه وشدة الإقبال عليه وبكثرة اللزوم لمن العلم حاضر لديه، حتى أخذوا منه بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر، فلما بلغوا منه إلى ما به يستعينون، وغاية ما إليه يحتاجون، وبحقائقه في سائر الأوقات يعملون، رجعوا إلى تفتيش ما كتبوا وإلى البحث عما منه طلبوا، فكان مانعًا لهم من السعاية (39) جامعًا لهم إلى الخلوة بالعبادة، ووقفت بالناس إليهم الحاجة، وعرف موضعهم بجميل الإرادة وعرف * أماكنهم من العلم ؛ وشرفت أحوالهم من الفضل، وانبسط ذلك ونشأ وظهر ذلك وبدا، فمن بين خال بعلمه متشاغل عن الخليقة بعبادته مؤثر (40) للعمل فيما فتح الله تعالى عليه منه، ولا يريد بإدامة الخدمة لله تعالى بدلًا، ولا بالخلوة بما فتح الله تعالى له من ذلك حولًا ؛ ومن بين من حضرته في نَشرِهِ العلم النية، وقويت له على تعليمه العزيمة، وسنحت له في ذلك رؤية الفضيلة، فانبسط في نشر العلم محتسبًا، وكان في العمل لله تعالى بذلك مخلصًا، يرغب إلى الله عزّ وجلّ في جميل الثواب، ويؤمّل من الله تعالى جميل العائدة في المآب، مصحوبًا (41) في ذلك بمصادفة الصواب، إذا قال نطق بقوة العلم، وإذا سكت سكت بوقار الحلم، وإذا قصد إلى البيت قّرب منال الفهم، إذا كثروا عليه أحب نفعهم، وإذا تفرقوا عنه نصحهم، يؤدي إليهم ما حمل من العلم بلسان فصيح وبيان صحيح، بقلب نصوح وقول صادق، ولا يعجل على من جهل، ولا يكافئ من زلّ وأخطأ، ولا يواقف بالمرآءة (42) أحدًا، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتجاوز عمن يتعدى عليه، لا يريد على شيء من أعماله من الخلق أجرًا، ولا يميل إلى مَدحةٍ ولا ثناء، يجتهد لله تعالى في إخلاص إعماله ويريد وجهه بجميل أفعاله، لا يقبل الدنيا ممن يبذلها له، ولا يُعّرج على من انبسط بها إليه، يضع الدنيا حيث وضعها خالقها، ويغنيه منها ما قسمه له رازقه، لا يشغل منها بما يزول، ولا يعمل فيها بما لا يدوم، منصرف بقلبه عن زينتها، منحرف عن كل ما دعى إليها من بهجة رونقها، يكفيه ما قلّ وصفًا، ويجزيه ما سلم واستوى.
يقف منها عند الشبهات، وينصرف عن الأمور المشكلات، بل هو للحلال البين تارك، وفي الأخذ لما لابد منه * مقتصد، قد آثر فيها وفي كل ما دعى إليها الزهادة، ولزوم الكَدّ والعبادة.
يرحمُ مَن مَالَ برغبته إليها ويرثي لمن أقبل بطلبه عليها، لا يراها حظًا لمن طلبها، ولا ثمنًا لسعي من اشتغل بها، ينظر إليها بعين زوالها، وبِقرب انتقالها، فهذا محل الدنيا عنده، ومكانها في العلم بها لديه، وهو مع ما وصفته لك دائم العزلة، كثير الخلوة، متصل الجد والخدمة، يجد راحة قلبه وقرة عينيه وسرور فؤاده، فيما خلص من صالح العمل إلى سيده، وَأمّل عائدة ثوابه في معاده. فإذا ظهر للناس في وقت اجتماعهم عليه، وطلبهم للعلم العتيد لديه، ظهر بجميل النية وصحيح الإرادة ؛ فكان ذلك عنده بعض الأعمال المقربة الصالحة، فهو لا يخلو من حال هو بها في الخلوة متعبدًا، وإلى الله تعالى فيما يقرب إليه مجتهدًا، ومن حاله أن تكون قد حضرته النية. ويبرز للخلق فيكون لعلمه ناشرًا، ولهم مما علمه الله تعالى معلمًا. والوجل والخوف من الله عزّ وجلّ في أحواله، والحذر والإشفاق دائمًا لا يفارقه، يقوم بشرائط علمه، ويعدل في قوله وحكمه، هو من أقوم الناس بالأحكام وأعلمهم بالحلال والحرم، وأبصرهم بشرائع الإسلام، يقع على آثار المرسلين، ويتبع سنن الأولياء والصالحين، لا يميل إلى بدعة، ولا يقصر عن الأخذ بالسنة، بعلم بارع محكم قوي، وحال واضح بَيّن مُستو (43)، متوسط بجميع المذاهب، متحري لَأقومَ الآراء، لا يميل إلى الكلام، ولا يخطر به منه اهتمام، لا يطعن على الأئمة ولا يذمها، ويحب لها من الصلاح ما يعمّها، يرى السمع والطاعة ولا ينزع يدًا من جماعة، يرى أنّ الخروج على الأئمة من فعل الجهلة الفاسقين، والغواة المارقين، الذين يريدون الفتن، ويبتغون الفساد في الأرض، أولئك العداة والفساق والظلمة الُمرَّاق، الذين سلكوا غير سبيل الهدى، واستصحبوا الغواية والرَّدى، * ومالوا بالفتنة إلى الدنيا. وقد رفع الله عزّ وجلّ عن ذلك أقدار العلماء وجعلهم أئمة هداة نصحاء، أخيارًا أبرارًا أتقياء خلصاء سعداء نجباء سادة أجلة عظماء حلماء كرماء أولياء، جعلهم الله أعلامًا من الحق منشورة ومنارًا للهدى منصوبة، ومناهج للبرية مضروبة، أولئك علماء المسلمين وأمناء المؤمنين وأجلة المتقين، فيهم في نوائب الدين يُقتَدَى، وبنورهم في ظلمات الجهل يُهتدى، وبضياء علمهم في الظلماء يُستضئ، جعلهم الله عزّ وجلّ رحمة لعباده، وبركة على من شاء من بَرِيتّهِ، يَعلَم بهم الجاهل ويَذكرُ بهم الغافل، ويرشد بهم السائل، ويعطي بهم النائل، ويزيد بهم العامل، ويبلغ بهم إلى المحل الفاضل، ويحث بهم الراحل، ويمكن بهم القوي الكامل ؛ أولئك الذين عمروا بالذكر لله تعالى أعمارهم. وقطعوا بالعمل الفاضل الزكيّ آجالهم، وبقوا بذلك للخليقة محمود آثارهم، ووضحت للبرية ضياء أنوارهم، فمن اقتبس من سنا نورهم استضاء، ومن قفا على آثارهم اهتدى، ومن أتبع سير ما هم عليه سعد، ولم يشق، أحياهم الله تعالى حياة دائمة, ويتوفاهم وفاة سالمة، وأنسوا بما قدموا به إلى الآخرة ؛ جعل الله خواتم أمورهم أفضلها، وأحوالهم التي قبضوا عليها أجملها.
وبعد أيها السائل عن نعت المحققين من العلماء العاملين بالعلم في مدة البقاء، فقد وصفتُ لك بعض أحوالهم ونَعَتُ لك كثيرًا من جميل أفعالهم، ولو أردتُ بلوغ الاستقصاء لوصفهم، وذكر ما يستحقونه من نعتهم، لطال بذلك كتابي، واتسع به جوابي، وفيما أجري لله تعالى ذكره من ذلك كفاية لمن اهتدى، وبلاغ لمن عمل بما هو أولى.
قال العالم للحكيم: أيها الأستاذ العطوف (44) الرحيم والمعلم الناصح الحكيم، لقد أزعجت بوصفك * للقوم قلبي، ومَلأتَ بالخيفة صدري، وعرفتُ بذلك موضعي وقدري، وخفتُ أن يعجز عن حمل ما عرفته صبري، لما بينته من شدة تقصيري، ودوام تخلفي، فاحتقرت عند المعرفة نفسي، وأيقنت بَلِيتّي ونقصي، فكيف لي بما أكون به من ذل التخلف خارجًا، وعن مذموم أخلاق نفسي راحلًا، وفي أوائل طريق القوم داخلًا، فإني أرى الوقوف عن ذلك مأثمًا، والبقاء مع الحال التي أنا عليها مغرما.
قال الحكيم: لقد سألت عن شأن عظيم وأمر عالم جسيم، يسهل على العاملين بفضله ركوب الأهوال في طلبه، وحمل الأثقال والتغرب من الأوطان، والخروج عن الأموال، وقلّ من قويت فيما عند الله تعالى رغبته، إلا سهل عليه بذل بدنه ومهجته، ولم يعظم عليه شيء في بلوغ بغيته.
فكن أيها السائل عن منازل النجباء ودرجات العلماء وأحوال الأئمة العظماء المُقَفّين على آثار الأنبياء، على ترك لكل سبب عن منهاج القوم يعطفك عن سبيل الهداية والرشد ويمنعك.
فكن إلى الله تعالى راغبًا فيما إليه يرفعك، واعلم أن ملاحظتك بالرغبة إلى ما قلّ من الدنيا أو كثر، حجاب لك عن الآخرة، وعلة على ملاحظتك في حين نفاذ البصيرة ؛ فنحّ عن ملاحظة الضمير ما يورثك رؤيته النقص والتقصير، وصفّي الضمائر وطهر السرائر بتجريد الاعتزام وإجمام الاهتمام، تفردًا منك بماله قصدت، وفي إدراكه رغبت، فإن في إصلاحك لما بطن من سرك إحكام لما أعلن وظهر من جهرك. فإياك أن تميل إلى شيء وإن قل خطره، فيميل بك عن محمودٍ وضح لك أمره، فإن أغبن الغبناء من باع كثير ما يبقى، بقليل ما يغني، ومن شغل نفسه عن أمور الآخرة بأمور الدنيا. واجعل أيها الرجل الطالب لفضل الأحوال والمذاهب أول ما تبدأ من عملك، وتقرب بفعله إلى ربك، الزهد في الدنيا والإعراض عن كل ما مالت إليه النفس من قليل أو كثير، فإن قليل ما ملت به إليها، يأخذ من سرك * ويشغل من قلبك ويعترض على ذكرك ؛ وعلى قدر قوة ما معك من مواد القليل منها وضعف، كذلك تكون قوة المعترض منه وضعفه، وعلى حسب الواقع من ذلك يحتجب عنك فهم ما قصدت الهمة، وإنما تؤثر الأعمال وتحصن القلوب، إذا انقطعت عوارض الدنيا عنها، فإذا اعترض منها شيء وإن قل، فهو المراد والعمل معًا، وكان ذلك يبعد المحاضر والأفهام، ويوقف الحال عن لحوق الاستتمام، فأحذر ما عاطفك منها، ومال بك وإن قل قدره إليها، تخلص (45) بتخلصك من ذلك إلى سويّ الحال وصحة الفعل والمقال.
فقال له العالم: وضعتُ لنصحك خدي، وجمعتُ له همي وفرغتُ له قلبي وتبينت فيه رشدي، وقد أمّلتُ برشد هدايتك وحقيقة دعايتك وصدق مناصحتك، أن يبلغني الله تعالى إلى كل ما أؤمِله وغاية ما أطلبه وقد رأيت ينابيع الحكمة الجارية من مكنون سرك على لسانك، واصلة إلىّ ببعض ما تقصدني به، وقد ذقت سائغًا من مائه، فأوجدني انتعاشُ تبينه محبة نفعك لي به، فزدني منه ما تقوى به الحياة الباعثة لي، من موت ما مضى من الحال، إلى مستقبل ما وقع من الانتقال، فإني لم أجد شيئًا أرجع به فيك إلى الله تعالى، إلا مناجاتي له بجميل مجازاتك عني ومكافأة لك بما هو له أهل وولي، وبعد إيقاظك لي أيها الحكيم من رقدة الغفلة، وإنباهك لي من وسن السهو والسنة، فقد وجدت (46) استقلالًا إلى استدراك الفهم عنك، يحملني ما وجدت منه إلى العمل ببعضه، ووجدت مطالعات ما بقي عليّ من التقصير، يزجرني عن الوقوف عنها لمحكم بيان وعلم إيقان، فأما ما بين ما سنح من تيسير الله تعالى للعلم، وبين ما نبه العلم عليه من النهوض إلى ما بقى .
...
المصدر : كتاب رسائل الجنيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق