الأربعاء، 20 مارس 2019

مفهوم العقل عند الصوفية


مفهوم العقل عند الصوفية

***


   أشرف الجمّال:

  ينطلق الفكر الصوفي من تصوراته الخاصة حول المعرفة والوجود وموقفه من الوحي في بناء مفاهيمه، منذ تبلورت حركة التصوف منهجياً في بداية القرن الثالث الهجري، إلى أن وصلت أوجها على يد ابن عربي الحاتمي الأندلسي كفلسفة إسلامية خاصة لتفسير العالم والوعي بالذات والوجود وقضايا اللاهوت والميتافيزيقا، ولا أكاد أكون مبالغاً حين أصف هذه الحركة بالإسلامية الخالصة؛ لأنها بالفعل بنت قواعدها ورؤاها وفق معطيات الوحي الإسلامي الخالص، ومن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومنهجه وأقواله وأفعاله، ولا يتعارض هذا مع فكرة الاستفادة كأي منهج من روافد أخرى كالأفلوطينية المحدثة وغيرها، والفلسفات الطوباوية الروحية المختلفة؛ فالاستفادة لا تعني الاقتباس والمطابقة ولا تنفي أصالة المشروع الفكري الصوفي وخصوصيته الإسلامية؛ على مستوى المنهج والتجربة والممارسة والتأويل والاصطلاح والسلوك، وعلى مستوى الوعي بالمقاصد والأهداف والطرق التي تؤدي للوصول لهذه الأهداف.

   وبالنظر إلى رحلة العقل الصوفي في إنتاج مفاهيمه الكبرى يمكن أن نصوغ فلسفته وفق عدة أسس ومبادئ ومجموعة من التصورات الرئيسة التي تشكل وعي الصوفي العرفاني بالقضايا المختلفة، وتحدد موضع العقل في هذه المنظومة الوجودية والمعرفية، وأهم هذه الأسس:
- أولاً: يؤمن الصوفي بوحدة الوجود بمفهوم التصوف لا بمفهوم الفلاسفة؛ فالفلاسفة قصدوا بوحدة الوجود الوحدة المادية بين الله والكون، فالطبيعة والله شيء واحد عندهم، أما وحدة الوجود عند المتصوفة فتقوم على تصور إثبات وجودين لا ينفي أحدهما الآخر، ويحتاج أحدهما لإثبات الآخر؛ وجود بالأصالة وهو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يتصف بالوجود إلا من كان موجوداً بذاته ولا يفتقر لغير ذاته ويستمد وجوده من ذاته. ووجود بالإضافة وهو العالم بكل ما فيه ومن فيه؛ لأنه يفتقر في وجوده إلى الصانع «الله»، فهذا العالم موجود وغير موجود في آن واحد؛ موجود بالله ومعدوم بدونه سبحانه، فهو أشبه بالظل الذي يفتقر لأصل الجسم في وجوده، ومن ثم فكل ما في الكون تجلٍّ لأسماء الله وصفاته بما فيها العقل الإنساني، الذي هو تجلٍّ للعقل الإلهي والمعرفة الإلهية، ومن هنا يكتسب العقل الإنساني شرفه ومكانته.

   وبما أن أسماء الله وصفاته متعددة وتجمع في بنيتها التضاد للإحاطة والكمال؛ كالظهور والبطون والرحمة والانتقام والقبض والبسط، فإن تجليات الحقائق التي يصل إليها العقل مختلفة، فيمكن للحقيقة في سيرورة تجليها أن تظهر في الضدين؛ في الموت والحياة؛ في الظهور والاستتار؛ في الخير والشر، في الحسي والمجرد. الحقيقة دائماً تتلون وتتشكل كالماء بلون الإناء، وكلما تعددت المحال تعددت تجليات الحقائق في مجاليها، والعقل بنوره هو الذي يكشف ويستبصر الحقيقة في زحام هذه الاختلافات وتلبيس هذ التلوينات، دون مصادرة أو دعوى باحتكار هذه الحقيقة؛ فالطرق إلى الله متعددة بعدد أنفاس الخلائق، والصوفي ابن تجربته الروحية الفردية التي تمنح صاحبها خصوصية في التجلي قد تختلف عن خصوصية الآخر، ومن ثم فالعقل الكلي الإنساني واحد لكنه يفصح عن هويته في الكثرة، وقد تكون الحقيقة العقلية هي مجمل حاصل نشاط العقل الإنساني في كليته وليس في ميراثه الفرداني من تأملات واستدلالات وتجارب.  
- ثانياً: الغاية من خلق الإنسان عند الصوفية تتضمن تصورات عدة؛ أسماها وأعلاها قيمةً معرفة الله، ومن ثم فالعقل باعتباره وسيلة ضرورية ورئيسة في اكتساب المعرفة له منزلة كبرى في الوعي الصوفي، فلا يمكن تهميشه أو إلغاؤه؛ لأن ذلك يتنافى ومقاصد الدين والغاية التي خُلق لأجلها الإنسان.

    ويميز الحكيم الترمذي بين ثلاثة أنواع من مقامات العقل: أولها عقل الفطرة، وثانيها عقل الحجة، وثالثها عقل التجربة. ويعلق التستري على قوله تعالى حكاية لحوار الكفار في جهنم: «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير».«[1]» بقوله: «معنى ذلك أنهم كانوا يعقلون في الدنيا بعقل التدبر والتجارب وهو العقل الغريزي، أما عقل الاقتداء والاهتداء في الدين فقد اعترفوا بفواته وحرمانه، ومن ذلك أننا نرى العلوم على قدر العقول، أما عقل البصيرة فهو على قدر الإيمان، ولا حد له ولا نهاية؛ لأن الله لا حد له ولا نهاية، وهكذا منازل السالكين والعارفين، وليس للترقي انتهاء».‏«[2]»

- ثالثاً: تنقسم العوالم المدركة في التصور الصوفي إلى ثلاثة عوالم: عالم المُلك؛ وهو عالم المدركات الحسية، ويشمل الكون وظواهره وأسبابه وأعيانه، ووسيلة إدراكه العقل. ثم عالم الملكوت؛ وهو عالم الحقائق الغيبية والمجردات الملكوتية، ووسيلة إدراكه القلب، لأنه فوق استعداد العقل البرهاني، ثم معرفة الله سبحانه وتعالى ووسيلتها الروح. وليست هذه التقسيمات حدِّية تفصل بين آفاق المعرفة ووسائلها، وإنما هي على اتصال دائم ومتبادل وفاعلية مشتركة في تحقيق قيم الإدراك وتَعَيُّن الوعي بالحقائق، لأن الإنسان كُلٌّ متكامل، وهو النسخة الكونية الصغرى، وهو أيضاً كتاب الله الصغير، ومحل ظهور التجلي الإلهي الصفاتي والأسمائي.
   ومن الملاحظ على هذا التقسيم أنهم رتبوا عوالم الوجود تصاعدياً؛ فبدأوا بالكون المشاهد وانتهوا إلى الله، بدأوا بموضع الإنسان النسبي وانتهوا إلى المطلق، كم أنهم حددوا مجال حركة العقل بإدراك كل ما يخضع للمشاهدة والتجريب في عالم المادة، إذ العقل يعتمد على الحواس الخمس التي تُعد نوافذه لرؤية الكون وإدراك ظواهره، أما الغيبيات فمن الشطط أن يكون العقل هو وسيلة إدراكها لأنها لا تخضع لمشاهدته أو تجريبه، وفي هذا إدراك لطبيعة العقل وأدواته في إنتاج المعرفة ووسائله في الفهم والاستقراء والاستدلال. ومن جهة أخرى فإنهم عابوا على الكلاميين حصرهم لوسائل المعرفة في العقل والنقل فقط، وإهمالهم مفهومي (القلب والروح) كوسيليتن فاعلتين في التلقي والحصول على المعارف التي تتخطى الملموس والمشاهد.

   أما بالنسبة لدور العقل وإعماله في الوحي فقد لاحظوا أن الوحي له وجهان؛ وجه للسماء من حيث نسبته إلى الله المطلق، ووجه للأرض من حيث إنه مرسل للإنسان، فعلموا أن للعقل الإنساني دوراً فاعلاً في قراءة الوحي وتأويله، ولاحظوا في الوحي الأحكام كما لاحظوا الإنسان وفكرة الزمن وتغير الواقع، فلم تصدر عنهم فتاوى متطرفة معادية ومهينة للآخر. وانطلاقاً من إيمانهم بفردية التجربة الصوفية الروحية وخصوصية التجلي سمحوا للعقل أن يغوص وراء حرفية اللفظ القرآني، وأدركوا أن هناك جدلاً بين العبارة والإشارة، وكلما اتسعت الإشارة ضاقت العبارة، فراهنوا على العقل والحدس والكشف في إنطاق المسكوت عنه، وكانوا أرحب تأويلاً للنص وتسامحاً مع الآخر؛ إيماناً بتعدد تجليات الحقيقة، لذا ربما كان التصوف هو المذهب الإسلامي الوحيد الذي خلا من دعاوى التكفير ووسم المخالفين بالبدعة والهرطقة.

   لقد حاول الصوفية بذكاء النظر إلى جوهر الوحي ومقاصده الكلية، ولم يقفوا مع الفروع الفقهية التي جمَّدت الوحي وانتقلت به من العرفان إلى الحاكمية، وأنتجت في الوعي مفهوم الإله المتسلط لا إله العرفان والمحبة الذي طالما جاهد المتصوفة للتأكيد على حقيقته هذه. تلك النظرة العرفانية للإنسان والله والعالم كان لابد لها أن ترتكن لقراءة جمالية للوحي لا القراءة الفقهية الصماء. ومن ثم استطاع الصوفية أن يعيدوا للوحي مركزيته العرفانية والجمالية في قراءتهم له، وأن يستردوا مفهوم الروح في سيرورة التدين والوهج والمغامرة الكشفية، وعبَّروا عن ذلك بمعجمية خاصة تعوِّل على الرموز وانفتاح الدلالة إشارة إلى اتساع دلالة الحقائق وتنوعها، وليس جمودها وحصرها حرفياً والوقوف مع الظاهر. يمكن القول باختصار إن الصوفية جاهدوا لاستعادة روح الوحي والوقوف مع جوهره الحقيقي الذي ينبع من تصورهم عن الحب وعن دور الإنسان في الوجود (وهو المعرفة)، فأصَّلوا لاستعادة إسلام الرسالة لا الإسلام التاريخي الذي كرَّس له الفقهاء والأصوليون والسياسيون عبر التاريخ. إن هذه الروح السارية في الدين تُعد ميراثاً هاماً للشعوب، بدونها تقع الشعوب تحت سطوة المادة بجفائها وجفوتها، وينتقل الفعل الأخلاقي من الوازع الجمالي إلى دائرة الإلزام والقيد، وتصبح الثقافة خالية من المعنى بخوائها من الإشراق والنورانية التي تتجاوز ظلمة الجمود، وبدون هذه الروح أيضاً يتحول الدين لقيد شكلاني لا يربط أواصر الوعي بالسماء، ولا يلبي حاجة الإنسان للإطلاق وتخطي غرائزه جمالياً، وقد يصل الأمر لموت المعنى والقيمة انتصاراً للآلية الوجودية، وهو ما جرى مع المسيحية الغربية، إذ تحولت إثر هزيمتها أمام الفكر العلماني لمجرد أداة شكلانية تسد ثلمة الفكر والعقل الجمعي لإجابة السؤال الميتافيزيقي عند العامة، وهو ما حدا بكثير من الغربيين للبحث عن طاقة روحية بديلة وخلاقة في ديانات الشرق القديمة كالبوذية والهرمسية بل وفي النزعات الصوفية، وما أكثر مترجمات الغرب لأعلام التصوف الإسلامي كابن عربي وجلال الدين الرومي وابن الفارض والشيرازي وغيرهم.

***
 المصدر: ( العقل العربي بين النص واللاهوت والتاريخ - تأليف أشرف الجمال )


[1] - الملك، 10.
[2] - الصوفية والعقل، ص 69.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...