العقل والنص والتأويل
المصدر:
***
قال الإمام علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: «القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال».«[1]»، وقال أيضاً: «القرآن لا ينطق
بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال».«[2]».
إن هذه العبارات التي يؤسس من خلالها الإمام علي رضي الله عنه فهماً واعياً بطبيعة
النص، والعلاقة التي تربط بين النقل والعقل، تُعد مدخلاً واعياً لإدراك أن هناك
فرقاً كبيراً بين (النص) و(تأويل النص)، أو بين الدين كوثيقة إلهية وبين الفكر
الديني الذي هو إعمال للعقل في إنتاج معاني ودلالات هذه الوثيقة، وفيما يُقبل من المتدين
تقديس الدين فإنه لا يُتصور أبداً ولن يكون مقبولاً في الوعي تقديس الفكر الديني،
للمسلم أن يقدس القرآن لكن ليس له أن يقدس التأويل البشري لأي من المفسرين لهذا
القرآن، فالفكر الديني منتج بشري قابل للمراجعة والأخذ والرد والاعتراض، بل
والانقلاب عليه جملة واحدة وفق شروط الجدل العلمي المؤيد بالأدلة والبراهين،
التأويل حق بشري إنساني لكل إنسان يتلقى هذا القرآن، باعتباره نصاً إلهياً موجهاً
له شخصياً؛ لأن القرآن كلمة الله للعالمين، ولن يكون هناك شخص محاسباً يوم القيامة
نيابة عن شخص آخر، فإذا كان هذا الحساب بمفهومه الإسلامي فردانياً يحدد مسؤولية
الإنسان الفرد تجاه أفعاله، فلا يحق لأحد أن يسلبه هذه الفردانية في فهم القرآن
وتأويله، الذي سيترتب عليه التزامه الخلقي والديني، ما لم يكن هذا الفهم وذلك
التأويل معارضاً لحرية الآخرين وحقوقهم، أو معادياً للإنسان وحقوقه المادية
والأدبية.
التأويل والنص متلازمان
ولا يمكن أن ينفصلا؛ فلا نص بلا تأويل، ولا تأويل بلا نص، ففي القرآن تعاليم
وأخبار وأحكام ومعارف لا حصر لها تنطوي على معان ودلالات، هذه المعاني تفصح عن
حقائقها من خلال وسيط برزخي بين الوحي والإنسان؛ وهو اللغة العربية التي نزل بها
هذا النص، بكل ما تملكه اللغة من قواعد وبنى تشكل نظامه وشفرات وعلامات وسياقات
داخلية وخارجية، تعمل بدينامية فيما بينها، تفاعلاً جدلياً يقتضي من العقل
الإنساني أن يكون في مستوى هذا البناء الديناميكي للنص، متسلحاً بخبراته ومعارفه
لاستنطاق النص وفك شفرات المعنى، وإنتاج الدلالة من خلال آليات القراءة المتنوعة؛
كالإزاحة والاستبعاد والتقريب والتقرير وفصل الحقيقي عن المجازي أو وصلهما، ومعرفة
المحكم من المتشابه، أو رؤية أحدهما في الآخر، وإدراك تلوِّي الدلالة واستعصائها
بين الأصلي والثانوي، والواقعي والرمزي، والمباشر والملغز، والعام والخاص، والوصفي
والتكليفي. ولا يمكن هنا أن تتحقق عملية التأويل وفق ضوابط صحيحة لإدراك المعنى من
خلال القراءة الحرفية الظاهرية فقط، تلك التي لا تدرك علاقات الألفاظ وجدلها وتبادل وظائفها في الإفصاح عن المعاني؛
فقد يلعب المجازي دور الحقيقة، وقد يتخفى المشكل في الواضح، والمتشابه في المحكم،
والوصفي في الإلزامي، والمطلق في التاريخي، والعكس صحيح تماماً؛ عملية التأويل هنا
تمارس وظيفتها من خلال «النص – العقل – اللغة - السياق بمفهومه الواسع»؛ وهي
استنزال إنساني للمعنى الإلهي مقاربةً، لا يقيناً حتمياً ينفي ديمومة النص وثراءه
المطلق ومناسبته لكل زمان ومكان. ويدَّعي احتكار المعنى الإلهي والقبض عليه.
واللغة هنا، باعتبارها
وسيطاً برزخياً بين الإلهي والبشري، ترتبط في الفهم بقضايا اللاهوت الإسلامي،
وبطبيعة تصورات الألوهية عند متكلمة العرب؛ فعند المجسمة والحنابلة كانت المطابقة
بين لغة القرآن والله، فقالوا إن القرآن قديم وأزلي، ومن هنا أخذت بعداً إطلاقياً
مقدساً، فيه إيمان ضمني بالحلول بين الله واللغة، مما قلص كثيراً من دور العقل في
استنزال حقائق هذه اللغة، وخنق فعل القراءة والتأويل بثبوتيتها. في الوقت الذي قد
ميَّز الأشاعرة بين معاني الوحي ككلام أزلي يتعلق بالذات الإلهية، وبين الألفاظ
المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء، وحدوث هذه الألفاظ وخلقها. وعند المعتزلة
أخذت اللغة طابعاً تجريدياً؛ يتناسب وفكرتهم التنزيهية حول الأسماء والصفات وطبيعة
تصورهم اللاهوتي عن الذات الإلهية التي ليس كمثلها شيء؛ ومن هنا أخذت اللغة طابع
العقل الإنساني للفكر نفسه؛ كجوهر مجرد، فهي الوجه الآخر للعقل، وأصبح هناك حلول من
نوع مغاير بين اللغة والعقل، فجعلوا العقل حاكماً على النقل، ووسعوا من دائرته
ومساحة حريته في التأويل، ورد الحقيقة إلى المجاز. وعند المتصوفة أخذت اللغة بعداً
عرفانياً حيث الإله العرفاني لا الحاكم - بعكس الفكر الأصولي- ومن هنا كانت اللغة
براحاً عرفانياً ومغامرة للاكتشاف وإعمال الحدس والخيال. فلا يمكن فهم لغة القرآن
تحديداً بمعزل عن قوانين اللغة والنظام اللغوي، أو بمعزل عن تموضع هذه اللغة في
الفكر اللاهوتي الإسلامي. وحينما نرغب في تحرير النص ينبغي أن نحرر العقل أولاً من
هذه القوانين الدوجمائية التي سوَّر بها الأصوليون النص القرآني، عبر قراءتهم
الحرفية وتفسيرهم للنقل بالنقل وجعلهم النص مفارقاً للعقل، ولا يمكننا القبول
بخلود النص مع الإيمان بفكرة القراءة الواحدة، بل بتنوع القراءات وتعدد التأويلات
عبر مراوغة اللغة وثرائها واستشكالها وتدفق المعنى. علماً بأن هناك من يرى – وأتفق
معهم – بأنه لا تضاد بين العقل والنص؛ لأن النص في بنائه اللغوي مبنيٌّ بناء عقلياً
ليفهمه عقل المتلقي، وإلا كان غير حجة على العقل الإنساني، ولكان هناك مبرر مقبول
لرفضه، أو الكفر بسماويته ومصدره الإلهي، إذا ما كان مبنياً بناء مخالفاً لمعقولية
العقل ووسائله في الفهم وإنتاج المعنى.
«ويُعدُّ نموذج الشافعي
في أصول الفقه تأسيساً أيديولوجياً لحصر دلالة النصوص الدينية على ما يسمح به
لغوياً من دلالات لها ما يقابلها من معان وتفسيرات في الأحاديث والآثار السنية.
وهكذا، مصداقاً لذلك، يصعب على من يريد أن يتحرر من عقال هذا الرّبط (بين دلالة
النص والتفسير اللغوي وحجية الحديث) أن يتجنب المسألة اللسانية والإشكالات المرتبطة
بها المستثمرة في القول بأن العلم هو فقط علم بالنص وفقاً لقواعد اللغة العربية
والحديث دون إمكان فتح الدلالة على آفاق أخرى اجتماعية وتاريخية».«[3]»
وإلى هذا المعنى كان
اتجاه ابن تيمية ورفضه التام لإعمال العقل في القرآن، واقتناعه بأنه لا بد من أن
يؤخذ النص الديني بحرفيته، في إطار السماع والارتباط التام بنصوص القرآن والسنة، فلا
مجال للتحرر من تلك السلطة الثقافية والهيمنة الدلالية النصية التي أسَّس لها النموذج
الأصولي للشافعي. ويأخذ عبد الوهاب المسيري على التفسيرات الحرفية أنها تؤمن بأن
العقل الإنساني قادر على الإحاطة بمعنى القرآن إحاطة كاملة شاملة، ويرى أن هذه
التفسيرات «ترى الإله متجسداً في النص المقدس، وفي المفسِّر صاحب القول الفصل،
الذي يكتشف التطابق التام بين النص المقدس والواقع التاريخي العلمي، كما أن المفسر
الحرفي للقرآن يرى نفسه باعتباره صوت الله، ويخلع على تفسيره، ومن ثم على نفسه،
القداسة».«[4]»
وإذا كان البحث يعني
القدرة على طرح الأسئلة فإن السؤال الذي يفرض نفسه: إذا كانت دعوات الإصلاح تتطلع
لتحرير العقل المسلم من قيوده تجاه تأويل النص، وتفعيل دوره في تصالحه مع الواقع
والمشكلات التاريخية التي تواجهه، وتخليصه من الجمود والأصولية الدوجمائية التي
هيمنت على النص بقراءتها الحرفية الظاهرية، وفرضت نفسها على الخطاب الديني منذ
قرون طويلة، أفلا تكون مثل هذه التطلعات دعوة لانفلات التأويل واتباع الهوى
والمذهبية والذاتية التي تنفي موضوعية القراءة، والشطط في ترجمة معاني النص
واستنتاج دلالاته وأحكامه، بحيث تهدم النص كمرجعية من الأساس، وتفتح المجال للعقل
بلا حدود أو ضوابط تحكم علاقته بالنص وتؤطر لعملية التأويل؟
والإجابة تتضمن أن
التأويل هو علم بالأساس له قواعده وأصوله التي توجه فعل القراءة وتضمن سلامتها
وموضوعيتها، والتأويل رغم انفتاحه العقلاني الذي سمح بالتعددية يتضمن شروطاً وأسساً
معرفية لتصل به إلى المعنى المقصود في النص، أو إلى أقرب دلالة تسمح بها اللغة
والسياق، لذا يمكننا القول إنه إذا لم يكن هناك تأويل محدد لأي نص؛ لأن عملية
التأويل تخضع لعوامل ذاتية وموضوعية متداخلة تسمح بالتنوع والمخالفة والمغايرة، إلإ
أنه على الأقل هناك تأويلات خاطئة يمكن استبعادها، يكون الخطأ فيها جلياً ولا شك
فيه، يُخرج التأويل إلى دائرة التأوُّل ولَيِّ ذراع النص واستنطاقه قسراً، وهو ما
يخالف موضوعية التأويل، ونعني بها الموضوعية النسبية؛ لأن الموضوعية المطلقة أمر
يبدو من المستحيل تحققه. ومن أهم ضوابط التأويل تعويله على المعطى اللغوي واتفاقه
مع اتساق النص وسياقاته المختلفة، وانسجامه مع علاماته اللغوية؛ أي أن أي تأويل
لابد أن يجد له برهاناً في النص لغة وسياقاً، وإلا كان إنزالاً قهرياً من وعي
المؤول على النص بما لا تسمح به لغته؛ يقول إيكو: «إن التأويل اللائق هو الذي يحظى
بتأييد من علامات النص».«[5]»
ومما يتفق عليه أهل
التأويل أن علاقة الكلمة بمدلولها ليست أبدية في ثبوتها، بل رهينة السياق أو
المقام الذي أُدرجت فيه. والسياقات والمقامات متنوعة وغير متناهية، فالكلمة لا
معنى لها خارج السياق، ولا يمكن أن تحدد دلالة الخطاب إلا في ضوء إدراك سياقه الداخلي
وسياقه الخارجي معاً، أيضاً ينبغي أن يعي المؤول في استنتاج الدلالة قصدية المرسل
أو المتكلم كما أشار الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، فهذه القصدية تشكل البنية
الأساسية لجوهر المعنى والتي تسمح أحياناً بإعطاء هوامش دلالية ثانوية تتحدد
أهميتها في الخطاب من أجل تحقيق الفهم في ضوء علاقتها بالدلالة الأصلية، وهذه
الدلالة الأصلية هي ما تشكل بنية التطور التاريخي لأي دلالة تنتجها التفاسير المختلفة
عبر التاريخ، فقولنا بتاريخية الوحي نعني به إمكانية اختلاف التأويلات من عصر لعصر،
وفقاً لتنوع الظروف واختلاف المعارف والوقائع، ولا يعني مطلقاً نفي الدلالة
المركزية للنص، أو فوضى التأويل غير المبرهن والذي لا يعضده السياق الخطابي لغوياً
ومعرفياً وتاريخياً، مع الإدراك الواعي أنه لا توجد مطابقة حرفية بين النص والتأويل،
وإنما هي مقاربات تستند لأدلة أسلوبية ومعرفية بثوابت الخطاب ومقاصده الكلية
ورهانات اللغة والوعي. ومن ثم يمكن للنص أن ينتج قراءات لا نهائية، وهو ما يعني
ثراء هذا النص وسيرورة عطائه. ويتسع مفهوم السياق وفقاً لتصورات النظرية المعاصرة لقراءة
النص ليشمل السياق المقامي، والسياق اللغوي النصي، والسياق الثقافي الذي يشكل وعي
القارئ والمفسر، والذي تزامن أيضاً وقت ظهور النص لأول جماعة من المخاطبين،
والسياق التاريخي للنص والمفسر معاً، فالنص ليس وثيقة مفارقة للواقع ومتعالية عليه،
ولا هو وثيقة معزولة تماماً عن المتلقي أو القارئ الذي يُعد فاعلاً رئيساً في بنية
الخطاب ذاته؛ باعتباره القارئ المفترض الذي تتغياه الرسالة وتقصده بالخطاب، وتراعي
بنية وعيه وشروط لغته وطبيعة عقله وآليات هذا العقل في إدراك الرسالة، أو من خلال
عملية التأويل التي تمثل جدل عقله مع النص وإنتاج معانيه المفترضة والممكنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق