الأحد، 31 مارس 2019

تصوف الجمال والاعتدال في سيرة مربي الرجال: أبي الحسن الشاذلي

تصوف الجمال والاعتدال في سيرة مربي الرجال: أبي الحسن الشاذلي




دة. ربيعة سحنون
باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة
    لقد باتت الحاجة ملحة وصار الأمر ضروريا التوسل بالتصوف ومبادئه وأخلاقياته في علاج الإشكاليات الراهنة، وتقديم الحلول الناجعة لمعضلات العصر، انطلاقا من اعتبار التصوف ليس  مجرد حالة معرفية وجدانية فحسب، بل هو تجربة وخبرة إنسانية وحمولة تراثية، تتميز بالصفاء الروحي والقيم الأخلاقية التي يمكن الاستفادة منها على مختلف الأصعدة، ومن الضروري إعادة التذكير بأهمية التصوف الوسطي المعتدل، حيث يجب إبراز حاجة الأمة إليه لتعزيز خصوصياتها وهويتها، فهو الكفيل بترميم التصدعات، وترشيد السلوكات، وتصحيح التصورات، والانفتاح والتسامح، ونبذ التطرف والعنف والتعصب.
    ومن جهة أخرى، فالتصوف يوثق ويرسخ قيم الهوية الوطنية، وثقافة التعايش ومحبة الآخر والتسامح والحوار، ويعمل على تنمية روح الانتماء للوطن، والمساهمة في كل ما من شأنه المحافظة على مكتسباته واستقراره ووحدته الترابية، كما يمكنه أن يقدم نماذج قائمة سبق لها أن لعبت هذه الأدوار، وهو الظاهر من خلال كلام جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، يقول مبرزا مزايا التصوف: "إذا كان عامةُ المسلمين وخاصَّتُهم من العلماء والعارفين على تعاقب العصور والأجيال قد اهتموا بالتصوف منبعا وسلوكا، وتشبعوا به قولا وعملا، حتى أكسبهم ما أكسبهم من القوة والصلاح، فإنهم اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الاهتمام، والتعرفِ إلى فضائل التصوف ومزاياه، والاستمداد من الطاقة الإيمانية والأسرار الربانية الكامنة في المبادئ الصوفية، لعلاج ما آلت إليه أحوال المسلمين أفرادا وجماعات من فتور في المبادئ الخالدة، واغترار بالتيارات الفكرية المادية، واندفاع وراء سرابها الكاذب وبريقها الخادع، ووقوع في أشراك الخلاف والنزاع والصراع، ومهاوي الفرقة والشتات والإعراض من الاعتصام بحبل الله المتين".[1]
    ومبادئُ التصوف هذه نقلها إلينا رجال عرفوا الله سبحانه وتعالى حق المعرفة، والتزموا بالإسلام في وسطيته واعتداله، وانفتاحه على الآخر، دون تزمت ولا تشدد، ولقّنوه وربّوا عليه أجيالا حملت مشعل الصلاح والهداية، والتربية على الأخلاق الأصيلة والرفيعة التي نادى بها ديننا الحنيف، وخير ما يستدل به على هذه النوعية من الرجال: مجدد التصوف بالمغرب سيدي أبي الحسن الشاذلي.
    فهو صوفي من الطراز الأول، طرازِ أئمة التصوف الإسلامي كالإمام أبي القاسم الجنيد وغيره ممن سلكوا سبيل العلم والبصيرة، فكان لهم الميراث النفيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾،[2] فهو لم يسع إلى مجد شخصي أو سياسي، حيث لم يكن يرغب في الخروج من عزلته التي كان سعيدا فيها بعبادة ربه، إلى أن أتاه الإذن الرباني، بأن يخرج للناس لينتفعوا به، وهذا شأن أولياء الله، ليس لهم اختيار مع اختيار الله، فقد انطوى اختيارهم في اختياره سبحانه وتعالى".[3]
    كانت شخصيته تمثل الشخصية الإسلامية المعتدلة التي لا تتحرج عن أكل الطيبات وشرب البارد، ولبس الحسن من الثياب...، على أن تكون من كسب حلال لا شبهة فيه، فكان يعمل في الحرث والغرس والحصاد وتربية الماشية، حيث يأخذ ما يحتاج إليه ثم يتصدق بالباقي على الفقراء والمحتاجين.
    وكان رضي الله عنه يقول لتلميذه أبي العباس المرسي: "اعرف الله وكن كيف شئت، يا بنيْ برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن، فقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله. ودخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا منه وأمسك ملبسه وقال: يا سيدي ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الفاخر الذي عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة، فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فاعطوني.[4]
    وكان يقول لتلاميذه ومريديه: الزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب، واخضع لسيد واحد تخضع لك الرقاب.[5]
    كل الذين عرفوا أبا الحسن الشاذلي أو كتبوا عنه أشادوا بعلمه وبأساليب تربيته، وبقدرته على الغور في أعماق النفس الإنسانية، ومعلوم أن مخاطبةَ الناس ودعوتَهم لإصلاح أحوالهم، وللعمل على تهذيب نفوسهم، وتنمية عقولهم ووجدانهم...، كل ذلك يحتاج إلى مواهب فطرية، وإلى تزود بالعلم والمعرفة...، لأن المربي كالطبيب لا يمكنه أن يعالج الناس بدواء واحد، لاختلاف أمراضهم البدنية...، فأبو الحسن الشاذلي رحمه الله قطع مراحل طويلة في إعداد نفسه إعدادا يؤهله لإرشاد الخلق وهدايتهم، ويؤهله للقيام بدوره التربوي والإصلاحي على أحسن وجه وأكمله، ذلكم الإعداد الذي جعله يعظم في نظر من يجتمع به، أو يتحدث إليه، ويقدر مكانته العلمية والتربوية والإصلاحية...[6]
    قام بتكوين نفسه تكوينا متينا، حيث اغترف من ينابيع علوم عصره؛ قرآنا وحديثا، وفقها، وأصولا، ولغة، وأدبا، ومنطقا، وتسلح بمعرفة آداب المناظرة والجدال، و "درس مذاهب التصوف، وتعرف على رجاله، لا من خلال الكتب فحسب، بل بالاتصال المباشر عن طريق الرحلة وامتطاء متن الأسفار مهما شقّ الطريق، وبعدت الديار. رحل بين المغرب والمشرق، واتصل بكبار العلماء، والمفكرين والعلماء والزهاد والعباد...".[7]
    قال ابن عطاء الله السكندري: "ولقد أخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر قال: مكثت أربعين سنة يشكل عليّ الأمر في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه، ويزيل عني إشكاله حتى ورد الشيخ أبو الحسن، فأزال عني كل شيء أشكل عليّ".[8]     
    ولم يكن لمثل هذه الإشكالات في طريق القوم أن تزول لولا المشرب السني الوسطي المعتدل لمسلك الإمام الشاذلي في التصوف، فقد كان "يدعو إلى ضرورة العودة بالتصوف إلى الالتزام بالقرآن والسنة، محاولا في سبيل ذلك إدخال تغيير جذري في المفاهيم الصوفية التقليدية، التي طالما أُوِّلت بما يخالف ذلك المنبع الذي يتمسك به المسلمون. فأصبح الشاذلي يؤكد دوما على البعد الأخلاقي للتصوف، ويحذر مما اشتهر بين صوفية الأندلس والمشرق من طلب للخوارق والشطحات الفكرية، التي من شأنها أن تبتعد عن منطق الأصول التي تجمع المسلمين، وهي القرآن والسنة...، فجوهر التصوف –عنده- ليس في الرسوم والأشكال، وإنما هو في النوايا والأعمال، وخير العمل ما ساهم في نفع المسلمين، وساعد على وحدتهم في هذه الظروف".[9]      
    تلكم الوحدة التي تجلت في مبادئه الصوفية الراقية التي شكلت أسس طريقته، والتي انتشرت في المشرق والمغرب على حد سواء، فقد بنيت "... على طلب العلم وكثرة الذكر مع الحضور، وكانت بهذا الاستحضار الذي هو الجمع، أسهلَ الطرق وأقربَها، وليس فيها كثير مجاهدة، لأن ما في النفس من النور الأصلي يتعاضد ويقوى بنور العلم لمن يشتغل به أو بنور الذكر، حتى يندفع به ما فيها من الرذائل، ويزداد إقبالها على حضرة القدس، وإدبارها من الدناءة، حتى تنمحق عنها بالكلية، ويحرق الذكر من القلب ما سوى المذكور...".[10]
    كان رضي الله عنه يدعو إلى طريق الله تعالى بصبر ويقين وحكمة، وبتوسط وجمال واعتدال، دون زيغ أو خروج عن الشرع، أو هروب من التكاليف، "ومن أتاه يسأله النصيحة يوضح له أنه لا يملك القدرة على فرض شيء أو منع شيء، لأنه ليس برسول، ولأن الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة، فليس على السائل إلا التزام جانب الشرع، وحارب كل من ادعى أنه وصل إلى مقام يُسْقط عنه التكاليف الشرعية، مبينا أن الأنبياء والمرسلين، وهم أقرب البشر إلى الله سبحانه لم ترتفع عنهم التكاليف".[11]
    قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الطريق القصد إلى الله تعالى أربعة أشياء، فمن جازهن كلهن فهو من الصديقين المحققين، ومن جاز منهن ثلاثا فهو من أولياء الله المقربين، ومن جاز منهن اثنتين فهو من الشهداء الموقنين، ومن جاز منهن واحدة فهو من عباد الله الصالحين:
أولها: الذكر، وبساطه العمل الصالح، وثمرته النور.
الثاني: التفكر، وبساطه الصبر، وثمرته العلم.
الثالث: الفقر، وبساطه الشكر، وثمرته المزيد منه.
الرابع: الحب، وبساطه بغض الدنيا وأهلها، وثمرته الوصلة للمحبوب.[12]
    جمع الشاذلي في طريقته بين العلم والعمل، والقلب والعقل، والروح والجسد، في اعتدال وتناسق وتناغم بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر،  وكان ينصح بالتوسط في الأمور اعتمادا على قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾، ويعلن لمريديه قائلا: "لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتها، أو تنحل أعضاؤك لها، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة، أو بالفكرة، أو بالإرادة، أو بالحركة".[13]
    وعلى الرغم من علو كعبه في تحصيل العلوم وتلقينها، وتفوقه في المعارف وإدراكها، فإنه لم يصنف كتبا، واعتبر تربية المريدين أفضل من تأليف الكتب وتدوين المصنفات، و "... أن كتبه هي تلاميذه، وأنه خير له أن يخرج على يديه تلميذ يفهم علومه وروحانيته، من أن يؤلف كتابا قد يقرؤه البعض أو لا يقرؤونه، وقد يفهمه البعض، ويعجز عن فهمه البعض الآخر".[14]
    لهذا كله كُتِب للطريقة الشاذلية الانتشار والذيوع والاستمرار، "وما الأعداد الغفيرة من أتباعها في أيامنا الحاضرة إلا خير دليل على الأثر المهم الذي تركه الشاذلي ومشايخ الطريقة في هداية الناس على مر العصور. وقد تمكن هؤلاء المشايخ من إعادة كثير من المنحرفين إلى سواء السبيل، كما نجحوا في نشر الإسلام بين الوثنيين، وحافظوا على مكارم الأخلاق من الاندثار، وخففوا من الويلات التي كانت تصيب المواطنين والأمصار، وأقبلوا على العبادة والجهاد، فكانوا رهبان الليل وفرسان النهار، فنالوا إعجاب الناس ورضاء الجبار، وألفت في مناقبهم وأخبارهم الأسفار، لقد أفرغوا من قلوبهم السوى، وطردوا عن نفوسهم الهوى، وأقبلوا بكنه الهمة على المولى، قاصدين وجهه الكريم، فمنحهم بجوده وإحسانه الفتح العظيم، وجعل مأواهم برحمته جنة النعيم.[15]
    وما بلغ الإمام الشاذلي هذا المقام ولا حاز هذه المنزلة في طريق التربية الروحية إلا  لكونه شكّل مدرسة للتصوف المعتدل، ذلك التصوف الذي يستقي مبادئه من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، والتخلق بأخلاق الإسلام، بعد التسلح بعلوم الشريعة، فكان مسلكه الصوفي صرخة متجددة في طريق الله تعالى، غيرت الأفكار، وصححت المفاهيم، وأعادتها إلى أصولها، "لهذا لم يكن غريبا أن يقبل عليه الناس من كل حدب وصوب، يغترفون من علمه، ويتأدبون بآدابه، ويستمعون إلى دروسه ومواعظه وتعاليمه، ويلتمسون منه الدعاء والبركة، فاتسعت حلقات دروسه، وكثر أتباعه ومريدوه، فكان إذا جلس للدرس والوعظ تحلقوا حوله بالعشرات، وإذا سار أو انتقل ساروا في ركابه بالمئات".[16]
    وختاما، فقدشكّل التصوف عبر تاريخ المغرب المدرسة التي تُعلِّمُ الإنسان كيف يتعامل مع الأكوان، فقد أذاق الإنسان حلاوة الإسلام عبر القرون، فهو معين لا ينضب، ومفتاح عودة الأمة إلى النجاح، وهو طريق النصر، وفلسفة حياة لإسعاد النفس، يمتلك من المقومات ما يجعله قادرا على استئصال مكامن الشر، وما مسلك الإمام الشاذلي رحمة الله عليه إلا خير مثال على وسطية وجمال واعتدال التصوف...

[1] من الرسالة الملكية التي وجهها جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه إلى المشاركين في ندوة الطرق الصوفية: دورة الطريقة التجانية. مجلة دعوة الحق، العدد 254/ربيع الثاني- جمادى الأولى 1406ھ/ يناير- فبراير1986م، ص: 5.
[2] سورة يوسف، آية 108.
[3] درة الأسرار وتحفة الأبرار في مناقب وأقوال الإمام أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي، محمد بن أبي القاسم الحميري المعروف بابن الصباغ، تحقيق: أنس عطية الفقي، مركز جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا للتصميم العلمي والنشر، القاهرة، د.ط، 2010، ص ص: 13-14.
[4] لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن، تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم ابن عطاء الله السكندري (ت709ﮬ)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1426ﮬ/2005م، ص: 134.
[5] القطب الشهيد عبد السلام بن بشيش، عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، د.ط، 1997م، ص: 104.
[6] شخصية أبي الحسن الشاذلي ومكانته، عبد القادر العافية، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب،  العدد 345، ص: 5.
[7] المصدر السابق، ص: 4.
[8] لطائف المنن، ص: 63.
[9] تجليات الفكر المغربي، دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب، عبد المجيد الصغير، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 1421ھ/ 2000م، ص ص: 179-180.
[10] المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، أحمد بن محمد بن عباد المحلي الشافعي (ت بعد 1153ﮬ)، المكتبة الأزهرية للتراث، د.ط، د.ت، ص ص: 140-141.
[11] الطريقة الشاذلية وأعلامها، محمد أحمد درنيقة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، د.ط، 2009م، ص: 11.
[12] رسالة الأمين في الوصول لرب العالمين، يليه الوصايا، للقطب الفرد العارف سيدي أبي الحسن الشاذلي قدس الله سره، تحقيق وتخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الحقيقة للبحث العلمي، القاهرة، مصر، ط1، 1430ﮬ/2008م، ص: 9.
[13] طبقات الشاذلية الكبرى المسمى جامع الكرامات العلية في طبقات السادة الشاذلية، أبو علي الحسن بن محمد بن قاسم الكوهن الفاسي (ت1347ﮬ)، وضع حواشيه: مرسي محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1426ﮬ/2005م، ص: 33.
[14] أبو الحسن الشاذلي (2)، جمال الدين الشيال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، العدد العاشر، السنة السادسة، صفر 1383ﮬ/1963م، ص: 12.
[15] الطريقة الشاذلية، 253.
[16] أبو الحسن الشاذلي، جمال الدين الشيال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، العددان  الثامن والتاسع، ذو الحجة. محرم 1383ﮬ/ ماي. يونيه 1963م، ص: 15.

الممارسة الصوفية والكمالات التحقيقية للعقل المؤيد[1]

الممارسة الصوفية والكمالات التحقيقية للعقل المؤيد[1]


د. طارق العلميباحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة 

    ليس يخفى على ذي تحصيل كيف أن هذه الآفات التي تقف دون القرباني في ابتغاء الوصول إلى معرفة الله، تستلزم أن يطلب الوسائل التي تعالجه وتقيه من هذه الآفات في مجال يغني عمله ويحييه، ويسمو به درجات وهو مجال «التحقق بمعاني العمل»، فلزم أن يحل محل «أهل السمع» في مواصلة السير إلى المطلوب من يعد حقائق الألوهية ثابتة لا «بالنظر» و لا «بالسمع» وإنما ب «بالذوق»، وأن يستبدل بالقربان العملي الذي حل محل المقاربة النظرية، تقرُّب متميز عنه عرف باسم «القرب».    فلما كان هذا النوع الثالث من التقرب هو سير أحث وأرفق إلى معرفة الألوهية، لزم أن تكون روابطه أقوى تقييدا وأكثر تعقيدا من ضوابط القربان التي ذكرنا أنها أشد تركيبا من معايير المقاربة، فبالإضافة إلى انضباط القرب بمبدإ العقلانية النظري، ومبدإ الاشتغال السمعي اللذين سلف تفصيلهما، فإنه ينضبط بمبدإ ثالث، إليه يرجع أساسا الحفظ من آفتي التظاهر والتقليد، ونطلق على هذا المبدإ اسم «مبدإ التحقق الأفضل»، ونصوغه كما يلي:* مقتضى التحقق أن يخرج المتقرب من التعلق بفرائض العبادة ويبذل الوسع في تطهير النفس، وذلك عن طريق إقامة العبادة بعد أداء فرائضها على الوجه الأفضل مع المقاومة.    يتبن على أن هذا مبدأ يمكن استنباطه من المقدمة الأولى للعقل المؤيد الذي سبق ذكرها، ويستفاد منه أن التحقق لا يحصل إلا بطريق الإتيان بالنوافل المعززة للفرائض. وقد بينا أن النوافل التي يؤديها المتقرب على طريق الاختيار تقيه التوقف في العمل الشرعي، هذا التوقف الذي من شأنه أن يجر إلى التراجع والنقصان، وإذا ما قوي المتقرب على مواصلة السير إلى مطلوبه الأسمى بفضل هذه الزيادات في الأعمال، أخذت تلابسه أحوال خاصة هي «أحوال المحبة»، وعلى هذا، فالتحقق في جوهره هو «تجربة المحبة»، وتتخذ هذه المحبة وجهين: «وجه محبة المتحقق لله»، و «وجه محبة الله للمتحققين».

أ‌-   إن محبة المتحقق لله تورثه وصف العينية:  قلنا بأن العينية هي إدراك ذوات الأشياء بملابستها، وإن إدراك الملابسة غير إدراك الملامسة النظرية بل وغير إدراك الاشتغال بالفرائض وحدها، فيكون إقبال العبد على النوافل موصلا إلى إدراك الملابسة، لأن المتقرب يأخذ في «التعرف» على الأشياء لا من جهة تمييز أوصافها كشأن المقاربة، ولا من جهة الانتفاع بأفعالها كشأن القربان، وإنما من جهة أن هذه الأوصاف والأفعال تنزل منزلة معان وقيم تفتح له باب مزيد التعبد لله، ومزيد إظهار المحبة فيه، إذ لا يرى وصفا ولا فعلا إلا ويجد أنه جهة تستحق أن يتوجه منها إلى الله، فيستشعر روح العبادة في كل شيء.    وقد أثبتنا من قبل، أن جوانب الشيء التي يقع منها توجه المتقرب إلى الله هي بالذات مظاهر تعين خَلقيتها وتحقق خُلقيتها، وأن مظاهر التعين الخَلقي والتحقق الخُلقي هذه هي العمدة في معنى الذات ومعنى الحقيقة، وعليه، يتبن أن من أدرك الأشياء على مقتضى هذه المظاهر الخَلقية والخُلقية، حصل إدراك الملابسة الذي هو إدراك ذواتها أو حقائقها.       ولما كان تبين مظاهر التعين الخَلقي للشيء يؤدي إلى معرفة أوصافه المميزة، وتبين مظاهر التحقق الخلقي يؤدي إلى معرفة أفعاله النافعة، اتضح كذلك أن من أدرك الأشياء بطريق الملابسة، كان أقدر على تمييز أوصافها من المقارب وعلى الانتفاع بأفعالها من القرباني.    وعلى هذا، يكون المتقرب بالنوافل المتحقق بتجربة المحبة متعرفا على الأشياء بطريق الملابسة العينية، فحق له أن يعتقد وجود كل حقيقة يتعرف عليها في تجربته الحية التي هي تجربة محبة، وحق لمن تلقاها منه أن يحسن الظن به ويعتقد وجودها.ب‌- إن محبة الله للمتحقق تورثه وصف العبدية:    فقد ذكرنا أن العبدية هي إدراك التبعية الأصلية بطريق «الخلاص» الذي هو الشعور بالافتقار في الأوصاف الخَلقية والشعور بالاضطراب في الأفعال الخُلقية، فيكون إقبال العبد على النوافل موصلا إلى إدراك التبعية الأصلية، لأنه يأخذ في ترك التبعيات المختلفة للأوصاف والأفعال بما يتولد في نفسه من شعور بشمول المنة الإلهية لها جميعا.    وقد أثبتنا من قبل أن مسالك المتقرب في التحرر من التبعيات الوصفية هي أسباب التجلي الرزقي الاستجابي لها، وعليه، يتبين أن من أدرك الأوصاف على مقتضى الأسباب الرزقية وأدرك الأفعال على مقتضى الأسباب الاستجابية، حصل له إدراك التبعية الأصلية.    وبما أن تبين أسباب التجلي الرزقي يؤدي إلى معرفة العبد للأوصاف المخلوق بها، وأن تبين أسباب التجلي الاستجابي يؤدي إلى معرفة الأفعال المأمور بها، اتضح أن من يدرك التبعية الأصلية يكون أقدر على إدراك حقيقة ذاته من غيره، مقاربا كان أو قربانيا.    على هذا يكون المتقرب بالنوافل الفائز بمحبة الله مدركا للتبعية الأصلية، ومدركا لذاته بواسطة هذه التبعية، ولما كان لا يدرك ذاته إلا بفضل التبعية الأصلية، ثبت أن مرد تعرفه على هذه التبعية هو تعرفها هي له، وليس تعرفه هو عليها، فيكون إذن أولى بوصف «المقرب» منه ب «المتقرب»، فوجب إذ ذاك أن يستسلم للحق بالحال والمقال كلما تعرف له في تجربته الحية التي هي تجربة محبة الله له، ووجب على الغير تصديقه كلما ألقى إليه بمعاني هذه التجربة.    وقد ذكرنا من قبل كيف أن أهل النظر المجرد أفاضوا في بناء الأدلة لتحصيل المعرفة بالألوهية، وفي تنويع أساليب هذه الأدلة وأشكالها، حتى إن الواحد منهم قد يتقلب بينها متخليا عن بعضها بعد أن كان متمسكا به، وراجعا إلى بعضها بعد أن كان تاركا له، دون أن يحصل قط الإجماع على يقينية دليل واحد. كما أن أهل النظر العملي القرباني، وإن كانوا أوفق في إدراك عدم فائدة الدليل الذي لا يستند إلى الاشتغال بالفرائض في تحصيل اليقين بالألوهية، وفي إدراك قرب الأدلة العملية المبنية على هذه القيم الاشتغالية إلى هذا اليقين من الأدلة النظرية، لأنها تتجه إلى الاستدلال على الأفعال الإلهية، بدل الاستدلال على ذات الله وحقيقته، أما أهل النظر الذوقي الذين التزموا التجربة الحية ودليل المحبة، فقد تبينوا أن الوجود الإلهي الذي تدعي الدلالة النظرية لأهل المقاربة والأدلة العملية لأهل القربان إقامة البرهان عليه، لا يمكن أن يعرف بهذه الأدلة لأنها مفتقرة إلى هذه المعرفة التي تنصب دليلا عليها، وإنما هذا الوجود الصحيح عند أهل الذوق ليس الدليل على وجود الله، وإنما الدليل على وجود العبد، ليس إثبات الربوبية وإنما إظهار العبودية، ليس البحث في أفعال الألوهية وصفاتها وذاتها، وإنما البحث في أفعال العبد وأوصافه وماهيته، هذا البحث هو وحده الكفيل بأن يجدد الإيمان ويخرج الحظوظ من النفس، فيقبل العبد على حقوق ربه إقبال العارف بالله على الله.    وعليه، فإن تحقق المقرب (أو التحقيق القربي) هو تجربة محبة ذات وجهين: أحدهما المقرب لله التي تؤدي إلى إدراك أعيان الأشياء عن طريق إدراك الذات (أو العينية)، وثانيهما محبة الله للمقرب التي تفضي إلى إدراك الذات عن طريق إدراك التبعية الأصلية (أو العبدية). ولما كان إدراك أهل التحقيق للأعيان متوقفا على إدراك الذات، فقد أطلق عليهم اسم «أهل الباطن»، ولما كان إدراك الذات عندهم متوقفا على الإدراك للتبعية الأصلية، فقد سموا لأجل ذلك ب «أهل الذوق» لكن البعض حملوا هاتين التسميتين على دلالات تخرج بهما عن مقتضاهما، فنسبوا أهل التحقيق إلى «الإغراق في الذاتية» و «الكلف بالغموض» و «معارضة العقل». ونحن نذكر الآن الجوانب التي فات هؤلاء إدراكها من تجربة التحقيق، حتى وقعوا في تحريف الأسامي عن مواضعها والتحامل على أصحابها.  هـــــــوامــش   
[1] طه عبد الرحمن:  العمل الديني وتجديد العقل، ص ص: 157-161. 

أهل الباطن وإبطال دعوى الذاتية والغموض

أهل الباطن وإبطال دعوى الذاتية والغموض


د. طارق العلمي

 باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

  إذا كان حقا أن في تسمية «أهل الباطن»[1] ما يدل على طريق الصوفية في معاناة الأشياء معاناة داخلية، وفي صرف العبارات عن معانيها الظاهرة إلى معان أخرى، خفية، فقد أسيء استعمالها من لدن البعض، حتى صاروا يدلون بها على اختيار طريق الذاتية المتسيبة وطريق الغموض المتكلف.إبطال دعوى الذاتية.  لا يقف أهل الغرة في مقصودهم ب «الذاتية» عند حدود الدلالة بهذا المفهوم على أهل الباطن يكابدون المعنى الذي يدركونه، بكلية جوانحهم، وإنما تجاوزا هذا إلى ادعاء أن المعنى المدرك لهؤلاء لا يمكن تبليغه للغير على الإطلاق لخلوه التام من كل ضوابط التصور الموضوعي.لو تذكرنا ما قيل بصدد العقل المؤيد من أنه يطوي في نفسه قيم التسديد ومعايير التجريد بعد تحويلها مرتين وتشكلها مرتين، لا تضح لنا أن ما يقال له «الموضوعية» ليس إلا عملية انتقائية وتجزيئية يجريها العقل المجرد في صلب المعنى الذي يدركه المتحقق، والذي يرد في سياق التأثر بقيم العمل، بل بقيم الاستغراق فيه، فليس معيار الموضوعية مقطوعا بالكلية عن تجربة المتحقق، بقدر ما يظهر فيها متلونا بمعايير عملية وبأخرى فوقها أكثر منها تغلغلا في العمل، لا ينفك عن هذه ولا تلك إلا بعمليات وقرارات اصطناعية. وإذا صح أن «الموضوعية» مشتقة بأساليب الاشتغال التجريدي من المعنى المدرك في التجربة الصوفية، فأي الأمرين أولى بالتقديم والاعتبار، أهو الموضوعية المجردة أم التجربة المؤيدة، لا سيما إذا ثبت أن لهذه التجربة موضوعيتها الخاصة؟ نعلم أن المتحقق لا يبتغي بتجربته إدراك صفات الأشياء كالنظر المجرد، وإنما إدراك ذواتها وحقائقها، ولا يتأتى له ذلك إلا بإيجاد وسيلة على قدر هذا القصد، فينبغي أن تكون أقوى من الموضوعية المجردة التي لا تناسب إلا الأوصاف، وإذا نحن تذكرنا ما قيل بصدد الإدراك الذي يطلبه الصوفي، علمنا أنه لا يحصل إدراك أعيان الأشياء إلا بواسطة إدراك «التبعية الأصلية». وواضح أنه ليس شيء أشمل ولا أكمل من إدراك هذه «التبعية الأصلية»، ولا أوفى بشروط المعرفة الصحيحة وبضوابط الموضوعية السليمة، ومن كان له حظ فيه، فكيف يفوته إدراك موضوعية مجردة جزئية ومتعثرة هي، على الأصح، تبعية مصطعنة غايتها المنازعة. وعليه، فالتجربة الباطنية عند الصوفي لا يستفاد منها قط الانفعال المتصرف بالتشهي والتبخيث، وإنما التزود بمعايير عملية حية دالة على التبعية الأصلية، يعمد صاحب العقل المجرد إلى محو آثار العمل منها وإخراجها عن دلالتها المباشرة على التبعية الأصلية باصطناع تبعية فرعية يسميها «الموضوعية» تحجبنا في التبعية الأصلية.   إبطال دعوى الغموض.  

     لا يقف أهل الغرة عند حد اعتبار «الغموض» ناشئا عن الدلالات غير المباشرة للتعبير التي أخذ بها أهل الباطن، وإنما يتعدون ذلك، فينسبونه إلى تحللهم من كل القيود الدلالية، ونفض يدهم من كل الضوابط الخطابية.ويمكن الاعتراض على هذه الدعوى من جهتي اللغة والتجربة.  

  أ-من جهة اللغة، ليست كل دلالة غير مباشرة دلالة غامضة، ولا كل دلالة غامضة دلالة غير مباشرة، حتى يصدق في حق الصوفي أن كلامه مستغلق على الدوام، وليس الانتقال من الدلالة المباشرة إلى الدلالة غير المباشرة عنده انتقالا خارجا من الطرق المعهودة في التخاطب العربي الطبيعي، حتى يعد كلامه ضربا من اللغو والعبث.  

  وإنما الذي فات من يدعي غموض العبارة الصوفية هو أن الأساليب العربية التي يتبعها الصوفي في بناء العبارة وتوليد الدلالة، ليس مما ألفوه في ممارستهم العقلية واللغوية. ولا غرابة أن نجد أن أشدهم تحاملا على التعبير الصوفي هم أهل العقل المجرد، لأن بعد هذه الأساليب عن مألوفهم يزيد عما هو عليه عند أهل العقل المسدد، وتشمل هذه الأساليب الاصطلاح والتعبير والتفسير. 

   -أما أساليب الاصطلاح، فقد اتبع الصوفية في وضع المصطلح طرق التماثل والتقابل والتدرج، نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: أسلوب تطابق الصيغة مع تباين المضمون والمادة (القبض/البسط)، وأسلوب تطابق الصيغة مع تدرج المضمون وتباين المادة (الشريعة/الطريقة/الحقيقة)، وأسلوب تباين الصيغة وتطابق المادة مع تدرج المضمون (العبادة/العبودية/العبودة). 

   -وأما أساليب التعبير، فقد وظف الصوفية بأقصى ما يمكن التوظيف في عباراتهم وإشاراتهم كل الإمكانات التبليغية والوسائل البلاغية من أساليب مراعاة مقتضى الحال، والأخذ بالدلالة الاشتقاقية واللغوية، والتجوز والتشبيه والمقابلة والجناس والطباق والتورية وغيرها.  

  -وأساليب التفسير، فقد كانوا يتبعون الأصول اللغوية للألفاظ والدلالات الاشتقاقية للصيغ الواردة فيها، ويتبعون آثار هذه الأصول والدلالات في توجيه الدلالات العرفية والعلمية، كما كانوا يأخذون بأساليب الانتقال والاستدلال المألوفة للناطق العربي.  

  وإذا نحن علمنا أن أغلب هذه الأساليب الاصطلاحية والتعبيرية والتفسيرية كالارتباط بالوزن الصرفي والارتباط بالمعنى اللغوي والاشتقاقي والارتباط بالاستدلال الطبيعي يختص بها اللسان العربي بوجه لا يشاركه فيه غيره، أدركنا أن تكون المعاني والإشارات الصوفية واردة في سياق من التقيد والتأثر بالخصوصيات التبليغية للغة العربية، بحيث لا يمكن فهمها حق الفهم من غير استحضار هذا السياق الخاص بتمامه وباستيعاب كامل آلياته. ولما كانت أساليب الاصطلاح والتعبير والتفسير التي يتبعها أهل الممارسة العقلية المجردة، بدعوى أنها تتصف ب «الشمولية» و «البرهانية» و «الموضوعية» تخرج عن هذه الأساليب العربية، فقد صارت حجابا لهم يمنعهم من تبين وجوه الدلالات في العبارات الصوفية، فنسبوا بسبب هذا الحجاب اللغوي الغموض والاستغلاق إليها، بدل أن ينسبوا القصور إلى حسهم اللغوي. 

   ب-من جهة التجربة، فإن الحجاب بينها وبين أهل العقل المجرد أعظم، هذا الحجاب الذي يتناول أيضا أهل العقل القرباني، وإن كان بدرجة اقل، لدخولهم في العمل وخروج أولئك عن اعتباره.   فلو تأملنا في بنية العبارة الصوفية، لوجدناها تقوم على التسليم بمبادئ عامة ثلاثة: أحدها «وجودي»، والآخران «خطابيان».      -أما المبدأ الوجودي، فمقتضاه أن التجربة الوجودية لا يمكن نقلها من حيث هي تجربة نقلا لغويا إلا أن تترك أوصاف الوجود –هذا التمايز الذي غاب عن غيره من أهل النظر وأهل السمع- استطاع أن يأخذ بمسالك في التعبير غير مسالك النظر المجرد، مسالك لا تصور الحقيقة ولا تجردها، وإنما تشير إليها وتقربها، وذلك بصرف الألفاظ عن مقتضياتها المألوفة إلى معان أُخر بينها وبين المألوفة قدر من الصلات والمناسبات.    وباستبدال لغة الإشارات بلغة العبارات، يكون أهل التحقيق وعوا ما لم يعه غيرهم من أهل المقاربة وأهل القربان وهو حقيقة التشبيه الاضطراري والخفي للغة الإنسانية الذي سميناه ب «العورة اللغوية»، وعملوا على مجاوزته والتبصير به. فبدل أن يخفوا هذا التشبيه الملازم للغة على المستمع، حتى يعتقد أن التعبير الملقى إليه، يدل بالحقيقة على معناه، فيسولوا له تجاوز فروق التمايز بين اللغة والوجود، كما هو الشأن عند أهل النظر وأهل السمع، فإنهم يلقون إليه بالتعبير بوصفه لا يدل بالحقيقة وإنما بالمجاز، فيأخذ المستمع حذره ويعتصم بالتنزيه.- وأما المبدآن الخطابيان اللذان يضبطان العبارة الصوفية فهما التاليان: 

   - مقتضى المبدأ الأول أن الكلام المفيد ينبغي أن يوافق مقتضى الحال. فلقد تبنت لنا الحقائق التالية في الممارسة الصوفية وهي: أن الصوفي لا يأتي من الأقوال إلا ما كان موافقا للأعمال، وأن الاجتهاد في الأعمال تنتج عنه تجارب حية تدعى «الأحوال»، وأن الأحوال تقابلها معارف مناسبة لها، يلزم عن هذه الحقائق أن كل عبارة ينطق بها الصوفي تكون موافقة لحال معرفية معينة، وهذا بالذات مقتضى المبدإ الخطابي الأول.  

  - مقتضى المبدأ الثاني أن مقامات الكلام متفاوتة. من المعلوم أن التجارب الحية أو الأحوال مراتب متعددة ومتفاوتة فيما بينها، وأن لكل مرتبة من مراتب الحال معرفة خاصة بها، يلزم عن ذلك أن عبارات الصوفية وإشاراتهم تختلف باختلاف أحوالهم المعرفية، وهذا هو مقتضى المبدإ الخطابي الثاني.    على هذا، تكون شروط الإفادة والوضوح في الكلام الصوفي وفي عموم الخطاب الطبيعي واحدة، بحيث لا يخفى مدلول العبارة فيهما على من يشارك القائل في مقتضى الحال، أو سبق له حصول العلم به، وإنما على من ليس له نصيب من المشاركة في الحال أو من العلم به. فليست إذن عبارة الصوفي بأقل وضوحا ولا أكثر غموضا من عبارة الناطق العادي.    يترتب على هذا، أن العلة في نسبة الغموض للعبارة الصوفية ليست هي الخرق لمبادئ التخاطب المألوفة فيها، وإنما هي في عدم مشاركة الصوفي في مقتضى حاله، إذ لا يطلع عليه من اكتفى بمقتضيات الحال الخاصة بالنظر المجرد، ولا من اقتصر على مقتضيات الحال الخاصة بمنزلة الدخول في العمل. ومن لم يخرج إلى الاستغراق في العمل ويحصل التجربة، فلابد وأنه واجد الغموض في كل عبارة يلقيها إليه الصوفي، ولو أخرجها هذا له على وجوه متعددة، لأن الغموض ناتج عن تعذر المشاركة في التجربة أو تعذر حصول العلم بها، كما أن من لم يدخل قط في العمل كصاحب العقل المجرد (أو المقارب) لابد وأنه يجد الغموض في العبارة العملية الشرعية لأن مقتضيات حال الاشتغال الشرعي متعذرة عليه.   

هوامــش
[1] طه عبد الرحمن: العمل الديني وتجديد العقل، ص ص: 161-165.

الإخـلا ص سرٌّ بين العبد وربه

الإخـلا ص سرٌّ بين العبد وربه


دة.ربيعة سحنونباحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    لا تُقبل الأعمال الظاهرة والباطنة إلا به، وعليه مدارها وبه كمالها وثوابها، لا يعلمه أحد من المخلوقات، ولا يطلع عليه إلا الحق سبحانه وتعالى، مطلوب ومرغوب فيه، يبلغ به صاحبه من الدرجات العلى ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فهو من أعمال القلوب، وفحواه "أن يقصد الإنسان بقوله وعمله وجهاده وجه الله، وابتغاء مرضاته، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو مظهر أو تقدم أو تأخر، ليرتفع المرء عن نقائص الأعمال، ورذائل الأخلاق، ويتصل مباشرة بالله"[1].    الإخلاص هو الدين، ومفتاح دعوة المرسلين، إنه محور دعوتهم ولبّها والغاية منها، قال تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾[2]، وقال جل وعلا: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص﴾[3]، وقال جل شأنه: ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾[4].    جاءت الأحاديث النبوية الشريفة من أجل توجيه العبد إلى الإخلاص في جميع أعماله، وتُحذِّره من أن يقصد بعبادته ثناء الناس ومدحهم، وتُبيِّن أن كل عمل لم يتصف بالإخلاص لله تعالى فهو مردود على صاحبه، وتوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى ظاهر أعمال العبد، بل ينظر إلى ما في قلبه من النوايا والمقاصد، لأن الأعمال بالنيات والأمور بمقاصدها[5].    أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)[6].    يعد هذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وأصلا من أصوله، لأن مدار الأعمال كلها على نية صاحبها، والأمور بمقاصدها، والنية هي قصد العمل تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لرضائه وثوابه، من غير التفات للخلق، والتماس رضاهم، ورجاء نفعهم، بل يكون الإنسان حريصا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة والكبر.    والإخلاص دليل كمال الإيمان، فقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) [7].    وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطَت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعلّه يفرُجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنتُ أرعى عليهم، فإذا رُحت عليهم فحلبتُ، بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتها قد ناما، فحلبتُ كما كنت أحلُب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدميَ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبُهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء. وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله، اتق الله، ولا تفتح الخاتم ، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرُزّ، فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي، فعرضت عليه حقَه، فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها، فجاءني، فقال: اتق الله، ولا تظلمني وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه، فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج ما بقي، ففرج الله عنهم)[8].    فمتى أخلص المؤمن عمله لله عزّ وجل، وابتغى به وجهه، فكانت حركاته وسكناته وعبادته الظاهرة والباطنة خالصة لوجهه الكريم، حلّت عليه السكينة والطمأنينة، ونزل الفرج والنجاة من الكرب والشدة، والمُخلص موعود بالنجاحين: نجاح في الدنيا ونجاح في الآخرة، وليس هناك من طريق يجمعهما إلا طريق الإخلاص، الذي شكَل دأب الصالحين، وعنوان العارفين، وعمدة المتصوفين، وبرهان السالكين لطريق الله عز وجل، الذين عملوا على تخليص عبادتهم، مما يمكن أن يكدر صفاءها من الحظوظ النفسانية، واعتبار الخلق في معاملة الحق.    قال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه: "الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس، والإخلاص عند المحبين ألا يعملوا عملا لأجل النفس، وإلا دخل عليها مطالعة العوض، أو الميل إلى حظ النفس، والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال، وعدم السكون والاستراحة إليهم في الأحوال، وقال بعض المشايخ: صحِّح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة"[9].    كما جاء عن الإمام الجنيد قوله: "إن الله عز و جل يُخلص إلى القلوب من بِرِّه، حسبما خلُصت القلوب به إليه من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك"[10]، ويضيف بأن: "الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيهلكه"[11].    وقال سهل التستري: "نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا"[12].    فالصوفية جعلوا من إخلاص العبادة لله وحده شعارهم، وخاصية من خواصهم، نظروا إلى الله تبارك وتعالى بقلوبهم، ابتغوا رضاه، فكان الله عز وجل "غايتهم يتوجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبغون إلا رضاه، وما يبتغونه أجلّ وأعلى من كل ما يبتغيه طلاّب الحياة، تقوم الدعوات على هذه القلوب التي تتجه إلى الله وحده، خالصة له، لا تبتغي جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه"([13]).    وصدق الحق تبارك وتعالى إذ قال: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا)[14].وكلام العلماء والعارفين في الإخلاص أكثر من أن يحصى، وكلهم يؤكدون عظيم أهميته وكبير أثره.    قال أبو القاسم القشيري: "الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب صفة حميدة عند الناس، أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى، ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، ويصح أن يقال: الإخلاص التوقي عن ملاحظة الأشخاص"[15].    فالإخلاص روح الأعمال وأساسها، وسبب لمغفرة الذنوب ونيل الرضوان، والعصمة من الشيطان، وهو مفتاح أعمال البر، كما قال الجنيد: "إن لله عبادا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع"[16].    وجعل الإمام السيوطي المخلصين لله تعالى في منزلة المقربين لله عز وجل، لأنهم عملوا الطاعات والعبادات، وابتغوا بها وجه الله سبحانه ورضاه، قال: "والقيام بالأوامر والنواهي لله وحده، لا لجلب ثواب ولا لدفع عقاب، وهذا حال من عبد الله لله، خلاف من عبد الله للثواب وخوف العقاب، فإنما عبد لحظ نفسه، وإن كان هو محبا أيضا، لكنه في درجة الأبرار، وذاك في درجة المقربين"[17]     وللإخلاص عند ابن عجيبة ثلاث درجات: "درجة العوام والخواص وخواص الخواص. فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق عن معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية، كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور، وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية، وإخلاص خواص الخواص: إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم تحقيق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، أو محبة وشوقا إلى رؤيته"[18].     ومهما اختلفت درجات الناس ومنازلهم وتباينت في مرتبة الإخلاص لله عز وجل، فإنهم مجمعون كلهم على أن الله سبحانه هو المستحق لأن يقصد دون سواه، فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو وحده المطلوب والمقصود، لأنه الخالق الهادي المطعم المسقي الذي يغفر الذنوب والخطايا، "فمن كانت هذه صفاته وتلك أفعاله، فإنه الذي يستحق العبادة دون سواه، وهو الذي ينبغي أن يكون المقصد والمعاذ والملاذ، والتوجه إليه وقصده بالعبادة حقه الخالص الذي لا يشركه فيه أحد، فهو الذي يستحق العبادة خوفا ورجاء، ورغبة ورهبة، وتوكلا واعتمادا..."[19].



[1] إسلامنا، السيد سابق، ص: 37.
[2] سورة البينة، الآية 5.
[3] سورة الزمر، الآية 2-3.
[4] سورة الزمر، الآية 11.
[5] حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 205.
[6] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم 1.
[7] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852هـ)، عن الطبعة التي حقق أصلها: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ورقّم كتبها وأبوابها وأحاديثها: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1424هـ/2004م، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس، رقم 10.
[8] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من برّ والديه ، رقم 5974.
[9] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري، أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة( ت1224 هـ)، تحقيق: محمد عزت، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ط، د.ت ، ص: 50  .
[10] تاج العارفين، سعاد الحكيم،  ص: 112.
[11] المرجع السابق، ص:113.
[12] تعطير الأنفاس من حديث الإخلاص، سيد بن حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1421هـ/2001م، ص: 86.
[13] المصدر السابق، ص: 102.
[14] سورة الكهف. الآية 28.
[15] الرسالة القشيرية، القشيري، ص ص: 207-208.
[16] تاج العارفين، ص: 113.
[17] تأييد الحقيقة العلية، السيوطي، ص: 53.
[18] إيقاظ الهمم، ابن عجيبة،  ص: 50 .
[19] مقاصد المكلفين فيما يتعبَد به لرب العالمين، أو النيات في العبادات، عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1401هـ/1981م، ص: 369.

قبسات من درر العارفين

قبسات من درر العارفين 


 دة. ربيعة سحنون     باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة    صُنِّف كلام الصوفية ضمن السهل الممتنع، الذي لا يسبر غوره ويدرك مغزاه إلا أهله، العارفين والصالحين الواصلين، عبروا به عن مواجيدهم وأحوالهم، تكلموا بعد أن ذاقوا حلاوة القرب والوصال، واستشعروا لذة السير والسلوك في طريق الحق رب العالمين جل وعلا، ففتح سبحانه مغاليق قلوبهم، ومكّنهم الباري تعالى من ناصية القول، فعبَّر كُلٌّ على حسب مقامه والوارد عليه من تجليات ونفحات.    كانت أحوالهم وأقوالهم وكراماتهم ومقاماتهم دررا ولآلئ ونجوما يهتدي السائرون إلى طريق الحق بنورها، تكلموا في آداب السلوك، وبينوا كيفية الدخول إلى حضرة ملك الملوك، جلّ في علاه، غاصوا في خبايا النفس البشرية، فخبروا داءها ودواءها، عالجوها بالفكر وبالذكر، فترقّتِ الأرواح وارْتقت، متخلقة بالأخلاق المحمدية، ومتأسية بأحسن الفضائل وأرقاها وأحبّها إلى الباري جلت قدرته.    ولضرورة الاقتداء والاهتداء بسِيرَ الصالحين وأقوالهم، ستضم هذه السلسلة قبسات من درر العارفين، والأولياء والصالحين، حتى نقف على كلامهم، ونُحَصِّل الإفادة المرجوة من سَيْرِهم وبلوغهم أرقى المقامات وأسماها.16) أعجوبة الدهر ونادرة العصر: أبو الحسن اليوسي (1040- 1102)فاضت قريحته رحمة الله عليه بنفحات ودرر عرفانية ربانية، انتقينا منها:    * إن شأن المبتدئ في طريق الله أن يصحح أولا عقيدته، باعتقاد الحق على طريق الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام أهل السنة: فيعتقد يقينا أن الله تعالى موجود غير معدوم، قديم غير مخلوق، باق لا يفنى، مخالف للخلق، لا يشبهه شيء، غني لا يفتقر، واحد في ملكه، لا شريك له ولا معين، قادر ومريد، بقدرة وإرادة يتعلقان بكل ممكن خير أو شر، نفع أو ضر، لا تأثير بغيره تعالى في شيء، عالم بعلم، محيط بكل موجود وكل معدوم، حي بحياة، سميع بصير، بسمع وبصر يتعلقان بكل موجود، متكلم بكلام يعم كل معلوم، من غير جارحة في شيء من ذلك، ولا مشابهة لمخلوق. ويعتقد أن الله تعالى له التصرف في الممكنات بكل ما شاء من إيجاد وإعدام، وإعزاز وإذلال، وتنعيم وتعذيب وغير ذلك...، ولا يجب عليه شيء لعبيده إلا ما جعل لهم تفضلا وامتنانا، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ودليل ذلك كله هذه المخلوقات. فكما أن الصنعة تدل على الصانع، إذ لولا وجود الصانع لما وجدت الصنعة، كذلك المخلوقات تدل على الخالق، إذ لولا وجود الخالق لما وجدت المخلوقات، إذ لا قدرة لمخلوق على إيجاد نفسه ولا غيره، فنقول: لولا وجود الله تعالى لما وجد شيء من الحوادث، لا نحن ولا غيرنا، ولو لم يكن قديما لكان مثلنا، فلا يوجد شيئا، ولو لم يكن باقيا لكان فانيا، فلا يكون قادرا ولا خالقا ولا إلها معبودا[1].    * فالأشياء مخلوقة للعبد، والعبد مخلوق لحضرة ربه، فإن قام بما خلق له من حضرة مولاه، بالعكوف على طاعته، ولزوم ذكره، والقيام بين يديه، والإعراض عما سواه، كان لله وكان الله له، فأصبح من الفائزين. ومن أعرض عن ذكر ربه نشب في شبكة الدنيا وفتنتها، واستحوذ عليه الشيطان، فأصبح من الخاسرين[2].    * واعلموا أن من أعظم منن الله تعالى على عبده معرفة ربه، ومعرفة نفسه، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة، فمن عرف الله آمن به وأطاعه، ولم يزل راجيا له، خائفا منه، فلا يقنط من رحمة ربه، ولا يأمن مكره، وتوكل عليه في كل شيء، واكتفى به عن كل شيء. ومن عرف نفسه لم يثق بها ولم يستحسن قط حالتها، ولم يتابعها على هواها...، ومعرفة الله المذكورة هي معرفة جلاله وجماله، وقهره وقدرته واختياره، وأنه الفاعل لما يشاء يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويهدي ويضل، ويعز ويذل، ويقرب ويبعد، ويشقي ويسعد، فبمعرفة ذلك، واتصاف القلب به حالا، يحصل ما ذكر من الرجاء، والتخوف والأنس والهيبة وغير ذلك. ومعرفة النفس هي معرفة أنها خسيسة ساقطة على الشهوات العاجلة، أمارة بالسوء، جاهلة بالعواقب، لا تجري إلا فيما يعود على صاحبها بالضرر، إلا من عصمه الله من شرها، وقليل ما هم. ومن عرف الدنيا وأنها ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وأنها لا قدر لها عند الله...، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، وإنما هي متجر ربح أو خسر، لم يركن إليها ولم يعبأ بها، ولم يكن همه فيها إلا الاشتغال بالربح، وهو العمل الصالح المؤدي بفضل الله إلى الجنة، دون الخسر، وهو العمل السوء المؤدي إلى النار. ومن عرف الآخرة وأنها دار القرار اشتغل بها، ومن عرف الجنة وما فيها من النعيم المقيم طلبها وسعى لها سعيها، ومن عرف النار وما فيها من العذاب الأليم، هرب منها بالبعد عن أسبابها...[3].    * وعليكم بالتسليم والرضا بحكم الله تعالى في كل شيء، والتأدب مع الله في مملكته، والفهم عنه في حكمته، فمن رفعه الله منكم أو من غيركم بعلم أو حال، أو أظهره للناس، فسلموا له ولا تحسدوه، ولا تستبعدوا فضل الله عليه إن سبقتموه إلى الطريق واجتهدتم، أو لقيتم الناس أكثر منه، فإن فضل الله لا يحد بزمان ولا يتقيد بشخص...، وكذا من رفعه الله في الدنيا بملك أو وزارة، أو ولاية أو حسبة، أو شرطة أو قضاء، أو مال أو جاه، أو نحو ذلك، فلا تنازعوه ولا تبغضوه لذلك، فإن الله تعالى هو المتصرف في ملكه وفي عباده، يرفع من يشاء ويذل من يشاء، فمن نازع في شيء من ذلك فقد نازع الله تعالى...[4].    * وليعلموا أن العبيد في كدحهم وطلبهم أربعة: طالب لله تعالى، وذلك بالاجتهاد في طاعته، امتثالا لأمره، وقياما بالأدب بين يديه، والتزاما لأحكام العبودية مع المحبة له والاشتياق إليه، راجيا من ذلك محبته ورضاه وقربه، فهذا خير العبيد عند الله تعالى...، وطالب للآخرة، وذلك بالاجتهاد في طاعته تعالى، امتثالا لأمره تعالى، وطلبا لما أعده الله تعالى لعباده المطيعين من التنعيم في الدار الكريمة، وطلبا للنجاة مما أعد للعصاة من الجحيم، فهذا أوسط الناس، لم يصل إلى درجات المقربين، ولم ينحط إلى درك المجرمين...، وطالب للدنيا من أبوابها، كالحرث والتجارة، فهذا في وسط أهل الدنيا لا عار عليه عندهم، وإنما العار عليه عند أهل البصائر، حيث باع النفيس الباقي بالخسيس الفاني. وقد يقيم حدود الله فيكون من القسم الذي قبله، وقد يخوض فيها بيده فقط، وقلبه مع الله قائما بالآداب الشرعية والحقيقية، فيكون من قبيل الفريق الأول. وطالب للدنيا من غير أبوابها، فإن كان ذلك بنحو الاشتغال بالتدبير والتقصيص والبحث، فهو حمق منشؤه شدة الرغبة في الدنيا والحرص عليها، والتشوف إلى كثرتها، والطمع في استعجالها، مع الفوز بالراحة عن الكد في أسبابها...[5].    * واعلم يا أخي أن الركون إلى العلوم أو المعارف في نيل الوصول غلط، وكذا حديث الوصول لا يخلو من فضول، وشهوة تمنع من الوصول، وسوء أدب لا يبقى معه محصول. وذلك أن أدب العبد الذي يرجو معه الفلاح، هو قيامه بالحق لا طلبه للحظ. وحق الله تعالى إنما هو التعبد بامتثال أمره بعد معرفته...، فحق العبد أن يكون همه في القيام بهذا الأمر، امتثالا لأمر سيده ومولاه، وطاعة له، وقياما بواجب حق ربوبيته، وسيادته، لا لشيء آخر. ثم لا عليه أن يتشوف إلى غيره بطريق الفضل منه لا لشيء آخر، ولكن ليكن همه واغتناؤه، القيام بالحق لا نيل الحظ، والله تعالى أكرم من أن يقوم العبد بخدمته ولا يقوم له هو تعالى بقسمته في الدارين، حسّاً ومعنىً...، فمن طلب النهايات في البدايات فاتته النهايات، وإنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول، فعليك يا أخي بتحقيق الأصل، وهو القيام بالأدب، ولا يخفى عليك مبذول، وبابه محلول...، فالعبد إذن بين يدي مولاه في كل حين وفي كل حالة، ثم هو لا مطمع له في أن يترقّى إلى ربه بأزيد من كونه عبدا، إذ لا مخرج له عن هذا الوصف ولو بلغ ما بلغ، فإذا علم العبد هذا من نفسه، وعلم ما بينه وبين ربه، علم أنه واصل إلى ربه بطريق الحقيقة...[6].

الهوامش

[1] رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة: فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، د.ت، 2/ 339.
[2] المصدر السابق ، 2/ 325.
[3] نفسه، 2/ 328-330.
[4] نفسه، 2/ 357.
[5] نفسه، 2/ 372-373.
[6] نفسه، 2/ 454-456.

التربية الصوفية وأثرها في تزكية النفوس

التربية الصوفية وأثرها في تزكية النفوس


ذ. عزيز بوزغيبة
باحث بالرابطة المحمدية للعلماء 
     تداولت معظم الكتابات التي اشتغلت بدراسة الفكر الإسلامي الحديث عن مصطلح التصوف في مجموعة من جوانبه المعرفية والموضوعية، وتولت بذلك مهمة البحث عن جذوره التاريخية العريقة في الأصول الإسلامية خاصة وفروعها عامة، وعملت بذلك على كشف حقائق عرفانية زادت التصوف الإسلامي في العصر الحاضر عمقا وثراء، وكرست جهودها من أجل وضع هذا المصطلح داخل إطاره الشرعي بعد أن عرف جدلا وتهافتا كبيرين بين المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين، حول مفهومه، ومصطلحاته، ومصادره، وأبعاده المنهجية والمرجعية. وإن كان في حقيقته وجوهره من صميم الإسلام، محاولة منها للتأكيد بأن الجذور التاريخية لهذا المصطلح ترجع إلى البيئة الإسلامية أصالة ومضمونا.
     وتجدر الإشارة ابتداء إلى أن هذه الكتابات قد اختلفت في تحديد الدلالة المعرفية والموضوعية لهذا المصطلح، لتنوع معانيه وأهدافه ومقاصده، وإن كانت هذه الاختلافات لا تعدو أن تكون من قبيل التنوع وليس من قبيل التضاد، تشترك في ذات المتصور، وهو مراعاة حدود الشريعة الإسلامية السمحة، مع التفاني في ذكر الله عز وجل والتوجه لحضرته الربانية. وقد تحدث الإمام الصادق عرجون عن هذه الاختلافات الواقعة في تحديد معنى هذا المصطلح بقوله: "اختلف الناس منذ القدم في تعريف التصوف واشتقاقه؛ فقد أحصى بعض الباحثين أنه درس أكثر من خمسة وستين تعريفا للتصوف"1.
     وعلى الرغم من شيوع مصطلح "التصوف" في عصرنا الحاضر؛ إلا أنه لم يكن مُستخدماً وشائعاً، ولم يكن معروفاً في كتابات المتقدمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما سبق ذكره في المقالات السابقة؛ بحيث لم تكن الحاجة ماسة إلى تدوينه وجعله علما مستقلا بذاته في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع وأرباب مجاهدة، يستشعرون معاني التصوف بحكم قربهم واتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، مربي القلوب ومعلمها.
     أورد صاحب "كشف الظنون" في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام القشيري جاء فيه: "اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة"2.
     وتأتي عملية إفراد علم التصوف بالتصنيف والتأليف والكتابة فيه من قبل جمهور غفير من العلماء والفقهاء والمفكرين بعد أن هيمنت المادة على الإنسان، وانحطت القيم الأخلاقية، وانتشرت الأهواء والصراعات، وتهافت الناس على الدنيا تهافتا كبيرا، وبالتالي لم يجد الإنسان اليوم أمامه من حل سوى الدخول في أحضان التصوف قصد الحصول على طمأنينة القلب، واستشعار معاني الإيمان الصادق الخالص، التي يحس يوما بعد يوم أنها تغيب عنه.
     وفيما يلي محاولةٌ لتسليط الضوء على مصطلح التصوف ومصطلح التربية أو التزكية، وبيان لمعناهما لغة واصطلاحا، وتحديد أبعادهما المنهجية، ومضمونهما التربوي، وحمولتهما الشعورية.
     تعددت معاني مصطلح التصوف الإسلامي واتسعت، ولم يعد ينطبق عليه حدّ واحد"3؛ له معان خاصة ومطالب مخصوصة، فلا يدرك أبعادها ومقاصدها، ولا يفهم معانيها وتوجهاتها، إلا من كان له معرفة وإلمام بهذا العلم القلبي الباطني. وقد حاول نيكلسون جمع تعريفات التصوّف فألفى ما يربو عن التسعين تعريفا4. فهناك من يعطيه معنى أخلاقيا ذوقيا، كما ذكر الإمام الهروي الصوفي بقوله: "واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم أي علم التصوف أنه هو الخلق، وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد، وهو بذل المعروف وكف الأذى"5. وبمفهوم الآداب والسلوك إلى حضرة ملك الملوك، يذكر الإمام محمد بن أحمد المقرئ رحمه الله تعالى بقوله: "التصوف هو استقامة الأحوال مع الحق"6. وقيل بأن التصوف "هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل"7. وبمفهوم رفع الهمة والتوجه إلى حضرة ملك الملوك يقول أبو نعيم في الحلية: "التصوف هو وقف الهمم على مولى النعم"8. وبمفهوم التجرد من العلائق وإخلاص النية يقول السراج الطوسي في اللمع بأن الجنيد لما سئل عن التصوف قال: "أن تكون مع الله بلا علاقة"9.
     من خلال هذا التعريفات المتنوعة لمصطلح التصوف الإسلامي، يمكن القول إن التعريفات السابقة رغم تنوعها تؤكد جميعاً على أن مصطلح التصوف هو العلم بتزكية النفوس وطهارة القلوب، حتى ترتقي إلى حضرة ملك الملوك ومعرفة خواطر النفس وأمارتها ودقائق تلوناتها وفطامها عن شهواتها، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "مبدأ التكليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب...، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد ولنفع العباد في الأجل والمعاد...، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب"10. فوظيفة التصوف هو جعل كل الأعمال والتكاليف خالصة لوجه الله، والاهتمام بطهارة القلوب وتخليصها من قيود الغفلة.
     وبهذا المعنى يكون التصوف هو الملاذ الحصين الذي يضمن للإنسان النجاة من آفة النفوس؛ لما يحمله من نفائس نورانية تجعله يتجاوز عقبات النفس وأماراتها المهلكة، وبالتالي يكون التصوف بهذا المعنى هو علم الإخلاص الباطني الذي يهتم بإعداد الإنسان؛ أي صناعة إنسان وإعداده إعداداً متكاملاً دينياً و دُنيوياً في ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، ووفق منظور التحقق بمقامات أولياء الله الصادقين في مقامات القرب. وقد أنشد بعضهم:
علم التصوف علم لا نفاد له      علم سنــــيّ سمـــــاوي ربــــوبيّ
فيه الفوائد لأربــــــاب يــــعرفها      أهل الجزالة والصنع الخصوصي[11]


الهوامش
[1] التصوف الإسلامي تاريخه ومدارسه وطبيعته، أحمد التوفيق، ص: 5.
[2] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، 1 /414.
[3] شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون، ص: 54.
[4] في التصوف الإسلامي وتاريخه، نيكلسون، ترجمة: أبو العلاء عفيفي، المجلة الآسيوية، 1906، ص ص: 203-247.
[5] موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والصوفية، للإمام عبد الحفيظ بن مالك عبد المكي، ص: 33.
[6] كشف المحجوب للهجويري، ص: 236.
[7] مصطلحات التصوف من واقع كتابات معراج التشوف إلى حقائق التصوف، عبد الحميد صالح حمدان، ص: 3.
[8] حلية الأولياء وطبقة الأصفياء لأبي نعيم الصفهاني، 1 /32.
[9] اللمع، أبو نصر السراج الطوسي، ص: 45.
[10] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز  بن عبد السلام، دار الكتب العلمية، 1 /198.
[11] التعرف لمذهب أهل التصوف، لأبي بكر محمد الكلاباذي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1980م، ص: 106.

بين الشريعة والحقيقة

بين الشريعة والحقيقة


حورية بن قادة باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.مما يتردد كثيرا في الحقل الإسلامي: مصطلحا الشريعة والحقيقة، أو علم الظاهر وعلم الباطن، ولتأكيد المعنى الذي أُريدَ بهذين العلمين، وحتى نضع أنفسنا في الإطار الصحيح بعيدا عن كل تحريف وتخريف، وعن كل زيغ وتدليس، نورد هذه الحقيقة مما هو صريح في حديث جبريل عليه السلام، الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث ورد فيه تقسيم الدين إلى ثلاثة أركان، حيث قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلا"، فقال له: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان: قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره". قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..."، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمر أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".[1]فركن الإسلام: هو الجانب العملي؛ من عبادات ومعاملات وأمور تعبدية، ومحله الأعضاء الظاهرة الجسمانية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالشريعة، واختص بدراسته السادة الفقهاء.وركن الإيمان: وهو الجانب الاعتقادي القلبي، من إيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر...، وقد اختص بدراسته السادة علماء التوحيد.وركن الإحسان: وهو الجانب الروحي القلبي؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وما ينتج عن ذلك من أحوال وأذواق وجدانية، ومقامات عرفانية، وعلوم وهبية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالحقيقة، واختص ببحثه السّادة الصوفية".[2]فالإتيان بالأعمال الظاهرة في الصلاة، والتزام أركانها وشروطها، وغير ذلك مما فصّل فيه الفقهاء يمثل جانب الشريعة، وهو جسد الصلاة.وحضور القلب مع الله تعالى في الصلاة يمثل جانب الحقيقة، وهو روح الصلاة.فأعمال الصلاة البدنية هي جسدها، والخشوع روحها، وما فائدة الجسد بلا روح؟ وكما أن الروح تحتاج إلى جسد تقوم فيه، فكذلك الجسد يحتاج إلى روح يقوم بها. ولهذا قال الله تعالى: ﴿قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾.[3]قال الإمام القشيري في ذلك: "الشريعة أمر بالتزام العبودية، والحقيقة مشاهدة الربوبية، وكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيَّدة بالشريعة فأمرها غير محصول، والشريعة جاءت بتكليف من الخالق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدّر، وأخفى وأظهر".[4]ومن هنا ندرك التلازم الوثيق بين الشريعة والحقيقة كتلازم الروح والجسد، والمؤمن المتحقق هو الذي يجمع بين الشريعة والحقيقة، وهذا ما يصبوا إليه الصوفية، مقتفين بذلك أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.ولذا يقول الصوفية في قواعدهم المشهورة: "كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة".[5] فالشريعة شجرة تثمر الحقائق، ولا حقيقة بدون شريعة، كما لا ثمار بدون أشجار.وفي ذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من تصوف ولم يتفقه، فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف، فقد تفسّق، ومن جمع بينهما فقد تحقق".[6]وقد علق الشيخ أحمد زروق على كلام الإمام مالك قائلا:"تزندق الأول: لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام.وتفسّق الثاني: لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله، ومن الإخلاص المشترط في العمل لله.وتحقّق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك".[7]ورمى ابن تيمية من أنكر علم الباطن بالكفر، وبأن منكِر هذا العلم شرّ من اليهود والنصارى؛ فالمرء في قوله إذا قال: "أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى. وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بُعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، فهو كافر وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن، الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها، هو علم بحقائق الإيمان الباطنة. وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة".[8]وذكر الإمام الشاطبي في "الاعتصام" أن أبا علي الدقاق- وكان من أقران الجنيد- قال: "كنت مارّا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف: كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر".[9]وقال حاجي خليفة متحدثا عن علم التصوف: "ويقال له علم الحقيقة أيضا، وهو علم الطريقة؛ أي تزكية النفس عن الأخلاق الردية وتصفية القلب عن الأغراض الدنية، وعلم الشريعة بلا علم الحقيقة عاطل، وعلم الحقيقة بلا علم الشريعة باطل، فعلم الشريعة وما يتعلق بإصلاح الظاهر بمنزلة العلم بلوازم الحج، وعلم الطريقة وما يتعلق بإصلاح الباطن بمنزلة العلم بالمنازل وعقبات الطريق، فكما أن مجرد علم اللوازم ومجرد علم النوازل لا يكفيان في الحج الصوري، بدون إعداد اللوازم وسلوك المنازل، كذلك مجرد العلم بأحكام الشريعة وآداب الطريقة لا يكفيان في الحج المعنوي بدون العمل بموجبيهما".[10]فهذه العلوم متلازمة تلازم الأرواح للأجساد، ولا يصح أحدها من دون الآخر، وقد أشار إلى ذلك أيضا، الشيخ أحمد زروق، حيث قال: "صِدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه، ولا يصح مشروط بدون شرطه، ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾.[11] فلزم تحقيق الإيمان، ﴿وإن تشكروا يرضه لكم﴾.[12] فلزم العمل بالإسلام. فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه لله تعالى، ولا هما [الفقه والتصوف] إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا كمال له إلا بها. فافهم".[13]وقال ابن قيم الجوزية في معرض حديثه عن مصطلحي الفناء والبقاء: "... من فنى فقد تأهل للبقاء بالحق، وهذا البقاء هو بَعْدَ الفناء، فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة، فشمّر إليه سالكا في طريق البقاء، وهي القيام بالأوراد، وحفظ الواردات، فحينئذ يُرجى له الوصول".[14]وقال ابن عربي: "لما رأى القوم أنهم عاملون بالشريعة خصوصا وعموما، ورأوا أن الحقيقة لا يعلمها إلا الخصوص، فرّقوا بين الشريعة والحقيقة، فجعلوا الشريعة لما ظهر من أحكام الحقيقة، وجعلوا الحقيقة لما بطن من أحكامها".[15]وقال أيضا: "اعلم أن الله خاطب الإنسان بجملته وما خصّ ظاهره من باطنه، ولا باطنه من ظاهره، فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم، وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم، إلا القليل فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرا وباطنا فما من حكم قرّروه شرعا في ظواهرهم إلا ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم، أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرائع، فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهرا وباطنا، ففازوا حين خسر الأكثرون. ونبغت طائفة ثالثة ضلّت وأضلّت، فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم وما تركت من حكم الشريعة في الظواهر شيئا، تسمى الباطنية، وهم في ذلك على مذاهب مختلفة، وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتاب "المستظهر" له في الرد عليهم شيئا من مذاهبهم وبيّن خطأهم فيها، والسعادة إنما هي مع أهل الظاهر وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن، والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن وهم العلماء بالله وبأحكامه".[16]فالدين الإسلامي إذن، عُني بالظاهر والباطن، وعنايته بالباطن أكثر، لأن الباطن هو الأساس وهو المقصود، ولقد تحقق السلف الصالح، من الصوفية بالعبودية الحقّة، والإسلام الصحيح، إذ جمعوا بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن، فشكّلوا بذلك نماذج في الكمال الخلقي.فالدين إن خلا من حقيقته جفّت أصوله، وذوت أغصانه، وفسدت ثمرته.

  
الهوامش

[1]- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، رقم الحديث: 1.
[2]- حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 303.
[3]- سورة البقرة، الآية: 110.
[4]- الرسالة القشيرية في علم التصوف، أبو القاسم القشيري (ت465ﮪ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ- 2005م، ص: 82-83.
[5]- حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 304.
[6]- المصدر السابق، ص: 361-362.
[7]- قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2007م، ص: قاعدة: 4، ص: 24.
[8]- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ابن تيمية، دار البعث، قسنطينة، ص: 104.
[9]- الاعتصام، الشاطبي (790)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الدار الأثرية، عمان، الأردن، ط2، 1428-2007م، 1/151-152.
[10]- كشف الظنون، حاجي خليفة، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط:1428ھ- 2007م، 1/344.
[11]- سورة الزمر، الآية: 7.
[12]- سورة الزمر، الآية: 7، قوله تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى... الآية﴾.
[13]- قواعد التصوف، أحمد زروق، قاعدة: 4، ص: 22.
[14]- مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار الحديث، القاهرة، ط: 2005م، 3/297.
[15]- الفتوحات المكية، ابن عربي، المطبعة الميمنية بمصر التابعة لدار الكتب العربية الكبرى، 1329ھ، 2/563.
[16]- المصدر السابق، 1/334.

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...