‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات صوفية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات صوفية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 11 أبريل 2019

موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )



موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )





وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم الفكرية التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق والصنعة والصانع فأي كفر أعظم من هذا وأي نقص ينسب إلى الله أعظم من ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، والصوفية أهل الحق براء من ذلك .

فوحدة[7]الوجود التي يرمز إليها بعض الصوفية أمر معنوي وعلم رباني يتعلق بتحقيق الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله عرفوا ذلك وتحققوا فيه بنور رباني وقد قيل فيه ( أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ، وعرفوا ذلك أيضاً بتحققهم بالتبعية المحمدية حيث قال الله لنبيه في كتابه :

" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "[8]

... الآية فالبصيرة المشار إليها هي الؤية القلبية والمشاهدة الباطنية لحقائق الأمور وبواطن الأشياء فيكتسب صاحبها علماً لا مطمع للحصول عليه بالفكر أو بالعقل أو النظرة الحسية ،فنظر رحمك الله إلى قوله تعالى لنبيه :

" عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "

... الآية فليس هذا النور وتلك المشاهدة القلبية خاصة بالنبي r وآله ولكن يشاركه في هذا المشرب من اتبعه بحق وهم خواص أمته فمن لم يتحقق بتلك التبعية المحمدية في الأقوال والأفعال والأحوال ، أو قل في ( الإسلام والإيمان والإحسان ) أو قل في (عمل الظواهر من الوقوف عند الحدود ، وفي عمل البواطن من التوكل والرضا والتعلق بالمعبود ، وفي عمل السرائر من الأذواق والمعارف والتحقق بأسرار الوجود ) وإلا فلا مطمع له بالوصول إلى مراتب الكمال ومقامات الرجال لأنه مقيد بالوهم والخيال وبالنفس الأمارة التي تتغطرس وتتكبر فتظن أنها تخرق الأرض وتبلغ الجبال طولاً وما هؤلاء بالنسبة للرجال الكمل من ذوي المعارف والأسرار إلا بمنزلة الصبيان .

فليس المراد بوحدة الوجود عند هؤلاء الصوفية وجودين قديمين اتحدا ولا قديم وحادث اتحدا تعالى الله عن ذلك فإنه سبحانه لا يحل في شئولا يمازج شيئاً ولا شئ في ذاته في خلقه ولا من خلقه في ذاته ، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود ولا يحمله شئ ولا هو حامل لشيء استوى على عرشه بذاته استواء يليق به ، مطلق في ذاته وصفاته وأفعاله لا تقوم صفاته إلا بذاته ولا تفارق ذاته صفاته تنزه عن أوصاف خلقه قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "

وكل من يتكلم في التصوف من غير أن يتذوقه ويتحققه وينصب نفسه قاضياً وحاكماً قاسياً على أولياء الله من رجال التصوف الإسلامي ويصدر حكمه فيهم بما عنده من الجهل بحقائقهم ويؤول كلامهم الذي لا يفهم معناه على مراده هو ، لا على مرادهم هم إنما ذلك لخبث في طويته أو جهل مركب أو هما معاً فلا يؤخذ بقوله في شأن الصوفية والتصوف الإسلامي لأنه جاهل بذلك إذ ليس من اختصاصه .

فقد قال أحد الصالحين ( إن كل من يتكلم في التصوف أو يحكم عليه من غير أن يعرف حقائقه ويتذوق معانيه إنما هو جاهل بالتصوف والصوفية فمثله كمن رأى جرة مملؤة مغلقة ورأى النحل يحوم حولها فحكم على ما في باطنها من تحويم النحل عليها من غير أن يتحقق بما فيها ) .

والنحل هو الإشارات والرموز التي توحي بأن هناك شيئاً لا يستطيع من يراه التعبير عنه لدقته وغرابته بين العامة لأنه من أسرار الله تعالى ، كما قال ابو هريرة رضي الله عنه ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني هذا البلعوم ) صحيح رواه البخاري وقال الإمام زين العابدين :-

إني لأكتم من علمي جواهره        كيلا يرى ذاك ذو جهل فيفتـنا

وقد تقدم في هذا أبو الحسن    إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يارب جوهر علم لو أبوح به        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي     يرون أقبـح ما يأتونـه حسنـا

وأما الأشخاص الذين حكموا على ما في الجرة خطأ فهم الذين يتكلمون في التصوف بغير علم ولا تحقق ويزعمون أنه على علموان لهم يداً على أهل الله وأوليائه وهم مخطئون لأنهم لم يعرفوا التصوف ولم يلموا بمصطلحاته ورموزه وعباراته.

وقد قال الشيخ محي الدين بن عربي في الباب 314 من الفتوحات المكية : " لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته ، والملك عن ملكيته ، ويتحد بخالقه تعالى ، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً ، وصار الحق خلقاً ، والخلق حقاً ، وما وثق أحد بعلم ، وصار المحال واجباً ، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً " كما قال في ذلك شعراً :

ودع مقالة قوم قال عالمهم        بأنه بالإله الواحـد اتحـدا

الاتحاد محال لا يقول بـه           إلا جهول به عن عقله شرداً

وعن حقيقته وعن شريعته          فاعبد إلهك لا تشرك به أحدا

فانظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة ، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه ، وإما فهم على غير حقيقته... فليتقالله من يطلق لسانه على أهل الله تعالى ( راجع اليواقيت والجواهر جـ1 ص80 –81 ) ، وهذا أيضاً غير ما أشار إليه الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات جـ4 ص372-379 (ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له) .

وقد قال الشيخ علوان الحموي ( ت 936هـ ) في أحكام النظر صـ187 ومن ذلك ما أثر من كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه. فقال معلقاً على المعنى : مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء ، ولا يحل فيه شيء ، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فاوله .

ومن التأويل الواعي ما قاله الشيخ ابن تيميه : ( في مجموعة الرسائل والمسائل صـ 86 ) : " إذا قال قائل إلا ورأيت الله فيه " ، أو قبله وبعده ، بمعنى ظهور الصانع آثار الصانع في صنعته .

فهذا القول صحيح ـ بل القرآن كله مبنى على هذا ، وهو سبحانه نور السموات والأرض

أما الشيخ الهجويري (ت. 470هـ) في كتابه ( كشف المحجوب صـ115) تعليقاً على هذه العبارة فقد قال : " إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع " وقال أحد العارفين : ( أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص البصر ، والشهود من خصائص البصيرة ) ن فليتدبر ذلك من يهاجمون الصوفية ، وليتعظوا بمقولة الشيخ ابن تيمية ، وغيره من أهل المعرفة والبصيرة .

فعلى كل حال سنترك كل من يطوي خبثاً وإساءة لأولياء الله الذاكرين الله كثيراً من رجال التصوف الإسلامي سنتركه إلى الله يوم تنكشف الأستار ، وتبرز الأسرار فيعرف حين ذلك ما عندهم من الحقائق وما عنده من الخيال ، ولكن بعد أن يقطف ثمرة الخسران من القطيعة والحرمان ويندم حين لا ينفعه الندم . قال عليه الصلاة والسلام في شأن الذاكرين حديثاً له معناه ( لا يتحسر أهل الجنة في الجنة إلا على ساعة مرت في الدنيا لم يذكروا الله فيها ) وقال تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) سورة الرعد / 28 .

فماذا نقول لأمثال هؤلاء إلا (أنهم نيام عن الحقائق فإذا ماتوا انتبهوا) فبدلاً من أن يثوبوا إلى رشدهم ويذكروا ربهم ويصحبوا هؤلاء الصادقين الذن امر الله بصحبتهم قال تعالى :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "[9]

فبدلاً من ذلك أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم لتمطر على الذاكرين والصالحين مطر السوء فرحماك اللهم فأنت أرحم الراحمين .

بما سبق لخص أحد المفكرين نشأة التصوف في الإسلام ويؤيد هذا الرأي عن نشوء التصوف ما ذكره العلامة القشيري حيث يقول الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في رسالته ( الرسالة القشيرية )[10] :-

( أعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله r لم يتسم أفضلهم في أجيالهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله r إذ لا فضيلة لهم فوقها فقيل لهم ، ( الصحابة ) ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة ( التابعين ) ، ورأوا ذلك أشرف سمة ، ثم قيل لمن بعدهم ( أتباع التابعين ) ، ثم أختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ( الزهاد والعباد ) ، ثم ظهرت البد وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم ( الصوفية ) واشتهر هذا الأسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة .

وهكذا يتبين لنا أن التصوف نشأ مع اللإسلام وولد معه ، لأنه جزء منه وليس بشيء زائد عليه بل هو التطبيق العملي والجانب الروحي منه ، وهو لا يمت بصلة إلى ما يقوله أعداء الإسلام عنه أنه مأخوذ عن الأمم الأخرى ، بل ما هو في واقع الأمر إلا حال النبي r وآله والقرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية ، وما الصوفي إلا المسلم الذي يكون في حاله مع الله ومع الناس أقرب شئ إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصفوة أصحابه . 
...

المصدر: الصوفيــة والتصــوف في ضوء الكتاب والسنـة

تأليف الشيخ السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي

الحب الإلهي عند الصوفية



الحب الإلهي عند الصوفية 





فاتح عساف

ارتبط مفهوم الحب الإلهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بالصوفيّة ، والواقع أن مفهوم الحب الإلهي لم يكن إبداعاً صوفيّاً من حيث المبدأ ، فقد ورد مفهوم الحب الإلهي أول ماورد في القرآن الكريم ، حيث خاطب الله عباده المخلصين بقوله أنه " يحبهم ويحبّونه " ( 21 ) ، وقد ورد العديد من الآيات في القرآن الكريم تؤكّد حب الله للمؤمنين بحيث يشمل هذا الحب جميع مجالات الحياة التي يحياها المؤمن ، وقال تعالى " والله يحبّ الصابرين " ( 22 ) ، وقوله " والله يحب المحسنين " (23) وقوله تعالى " فإن الله يحب المتقين " ( 24 ) . وهذا بعض مما ورد في القرآن الكريم والذي يبيّن أن الله تعالى هو الّذي بدأ بمخاطبة المسلمين ليبيّن لهم طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الله وعباده ، وهي علاقة تقوم على مبدأ الحب الّذي يمنحه الله لعباده ، إذا كانوا من الصّابرين ومن المحسنين ومن المتقين .



كانت بداية الحب إلاهيّة ، من الله تعالى للإنسان ، ولكن هل يمكن أن تكون هذه العلاقة متبادلة ، أي أن يحب الإنسان الله كما يحب الله الإنسان ؟ لانستطيع القول أن طبيعة هذا الحب يحمل في جانبيه تكافؤاً من نوع ما ، فإن حب الله للإنسان ليس كحب الإنسان لله ، فهناك دائماً الجانب الأقوى في هذا الحب وهو الله تعالى ، وهناك الجانب الأضعف وهو الإنسان ، ولايمكن تحت أي ظرف عقد مقارنة بين هذين الحبيّن ، فالله هو الخالق وهو المنعم بيده القوّة والملك ، وقد ورد في القرآن الكريم " ليس كمثله شيء " ( 25 ) فقد نزّه الله نفسه في هذه الآية الكريمة أن يوصف بما يصف الناس به بعضهم بعضا ، وما يحيط بهم في هذا الكون .

ومايمكن أن ينطبق على أنماط السلوك البشري ضمن الحدود البشريّة لايمكن أن ينطبق على الله تعالى ، لأنّه أكبر من أن يوصف بصفات وضعها الناس للتفاهم في ما بينهم ، وبالتالي فإن الحب من جانب الله للبشر ليس هو نفسه حب الإنسان لله ، وإن اتفقا بالمعنى إلاّ أن الطريقة تختلف ، وهذا مايشير إليه القشيري بقوله ( وليست محبة العبد له سبحانه متضمّنة ميلاً ، كيف وحقيقة الصمدية مقدّسة عن اللحوق والدرك والإحاطة " (26 ) فالإنسان ليس بيده سوى الطّاعة التي يجب عليه أن يقدّمها لله تعالى . فأذا كان الأقوى هو الذي يبادر بعرض حبّه على الأضعف : فإن دور الأضعف وهو الإنسان أن يبادر بالإستجابة لهذة الدعوة الكريمة وهي أن يحب الله شكراً له على نعمه . " وهذا الّذي يمثل جانب الطّاعة والخضوع لله ، فليس من العبادة في شيء أن يرفض الإنسان الإستسلام لله ، ويستكبر عن اتباع منهجه والإنقياد لشرعه " ( 27) ، وكما قال الله تعالى بأنه يحب المؤمنين من عباده فهو يطلب منهم أن يحبّوه ، ويقول تعالى" قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله " ( 28) ، وقوله تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حبّاً لله " ( 29) . نلاحظ في الآيتين السابقتين أنهما تطالبان المؤمنين بحب الله ولكن أي نوع من الحب ؟ إنه الحب القائم على الإيمان بالله وطاعته ، وتتحقّق طاعته باتباع أوامره وتجنب نواهيه ، لأن الله لايأمر إلاّ بالخير ، ومايحقّق الخير للإنسان .



أفرد الصوفيّون مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع

السلوك التي يتوجب على المؤمن إتباعها إذا أراد أن يحوزعلى حب الله ، وبدأت تظهر في عباداتهم وصلواتهم أشكال مختلفة من السلوك الإيماني الذي كان برأيهم يميزهم عن غيرهم من المسلمين .



قال أبو طالب المكي " أن المحبّة أكمل مقامات العارفين ... وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين " ويقول " فالمحبة تكون هبة من الله تعالى لأصفيائه من الأولياء ، وهي أكمل أنواع المقامات التي يحققها المؤمن " و " كل مؤمن بالله فهو محب لله ، ولكن محبته على قدر إيمانه ، وكشف مشاهدته ، وتجلي المحبوب له على وصف أوصافه " (30 ) . ويقول القشيرى أن الحب هو تفضيل الله لجماعة معينة من الناس هم عباد الله المخلصين بقوله " الحب حالة شريفة ، شهد الحق سبحانه بها للعبد ، وأخبر عن محبته للعبد " (31 ) ، ويرى القشيري أن الله تعالى إذا أراد أن ينعم على عبده بصورة عامة فإن هذه النعم تدخل في باب الرحمة الإلهية أمّا إذا تعلقت بخصوصها فإنّها تسمّى رحمة " (32 ) .



يعلم الإنسان أنّ الله يراه وهو يعمل ، ويسجّل عليه أعماله ، فمن عمل صالحاً بتقرّبه لله حظي بحبّه ، ويجب على الإنسان أن يرد هذا الحب بالإخلاص لله تعالى عن طريق الحب أيضاً . لأن الحب هو شكل من أشكال التعبير عن الشكر ، والله هو أحق مايجب على الإنسان أن يشكره على نعمه الكثيرة التي منحها للإنسان ، وأهمّها نعمة الإيمان ، ويدخل الإنسان في " حال المحبة " التي يصفها الطوسي بأنها هي حال " لعبد نظر بعينه إلى ماأنعم الله به عليه ، ونظر بقلبه إلى قرب الله تعالى منه وعنايته به ، وحفظه وكلاءته له ، فنظر بإيمانه وحقيقة يقينه إلى ماسبق له من الله تعالى من العناية والهداية وقديم حب الله له ، فأحب الله عزّ وجلّ " ( 33 ) .



يقول الطوسي أن أهل المحبة في ثلاثة أحوال : الحال الأوّل هو محبّة العامة ، وهذا ناتج من إحسان الله إليهم وعطفه عليهم . والحال الثاني وهو يتوّلد من نظر القلب إلى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته ، وهذا النوع من الحب يصل إليه الصّادقون والمتحقّقون . أما النوع الثالث من الحب فهو محبّة الصديقين والعارفين ، تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة ، فكذلك أحبّوه بلا علة (34 ) . إن الحال الثالث من تصنيف المحبين عند القشيري ينطبق تماماً على الصوفيّة ، لأن الصوفي إذا أحب الله ، فإنه لايحبه لغرض بنفسه ، فهو قد هجر الدنيا بما فيها ، وتحوّل إلى حال الزهد ، ولم يبق له في هذه الدنيا مايحبها ، فكان حبّ الله هو البديل الأسمى له ، ومن كان سعيه لله فقد أمن على نفسه في الدنيا والآخرة .

رابعة العدويّة



كانت رابعة العدويّة ( توفيت عام 185 هجريّة ) أوّل من قال بحب الله بلا علّة وهي من أقدم المتصّوفين في تاريخ التصوّف الإسلامي ، فقد وصلت في بدايات حركة التصوّف إلى مرحلة متقدّمة في حب الله ، ماجعلها تحمل لقب " شهيدة العشق الإلهي " ( 35 ) . فقد نذرت حياتها لحب الله ، بعد أن هجرت الدنيا ، واعتزلت حياة الناس ومن أقوالها :

أحبك حبين حب الهوى وحبّاً لأنّك أهل لذاكا

فأمّا الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا

وأمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولاذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا ( 36 )



ويشرح الغزالي هذه الأبيات لرابعة بقوله " ولعلّها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها ، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة ، وبحبّه بما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها وهو أعلى الحبّين وأقواهما " (37 ) .

وتحب رابعة الله تعالى لأنّه يستحق هذا الحب ، بل وصل بها الأمر إلى إفراغ نفسها من أي نوع من أنواع الحب الذي يمكن أن تكون أحد أهدافه مصلحة أنيّة ، أو لتحقيق رغبة دنيوية ، أما هي في هذا الموقف فلم يعد لها في هذه الدنيا أية مطالب ، ولم يعد سوى مطلب واحد بل هو أمل واحد ,هو تريد أن تعرف الله ، وهذه المعرفة هي أن يكشف الله لها الحجاب حتى تراه . وكانت رابعة تحرص على أن تثبت لنفسها ولمستمعيها أنّها لاتريد من الله شيئاً ، وأن حبها له ليس مرتبطا بمصلحة تسعى لتحقيقها حتى مع الله ، والبيت الراّبع يبيّن أنها حتى في حال حبّها لله فإنها ليس لها فضل في ذلك ، وإنّما هو لله تعالى . فالشّكر دائماً لله الذي يوجه عباده باختياره لهم كي يحبّوه . ويروى عن رابعة أنها قد أصيبت بمرض ، وقالت لزوّارها عندما سئلت عن سبب مرضها فقالت " والله ما أعرف لعلّتي سبباً ، غير أني عرضت على الجنّة فملت بقلبي إليها ، ، فأحسب أن مولاي غار علي فعاتبني ، فله العتبى " (38 ) .



وعندما يصل الصوفي إلى مرحلة أن يميل بقلبه عن الجنّة التي يعرضها الله عليه ، فماذا يريد أكثر من ذلك ؟ إن ماتريده رابعة هو مايريده جميع الصوفيّة هو حب الله دون سبب ، ودون نتيجة ، بل الحب للحب ، بل هو الفناء في الله (39 ) . وهو أقصى مايريده الإنسان من ربّه ومايطالب به نفسه . وفي إحدى الروايات عن رابعة أنّها رأت رجلاً يقبّل صبيّاً من أهله ويضمّه إليه ، فقالت له : أتحبّه ؟ قال نعم ، فقالت له : ماكنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغاً لمحبّة غيره تبارك اسمه . فصرخ الرجل وسقط مغشيّا عليه . وعندما أفاق قال : رحمة منه تعالى ذكره ألقاها في قلوب العباد للأطفال ( 40 ) .



فالحب لله من وجهة نظر رابعة كما تبينه الرواية السابقة تبين لنا موقفين بالنسبة لها : الأوّل : أنها تركت كل أشكال الحب الدنيوي ، والثاني : أن حبّها لله لم يترك في قلبها أي مكان مهما صغر لحب دنيوي ، فقد شغلها حب الله عن كل حب " لأن الصوفي بالمعنى الوجودي هو ذلك الذي يعزف عن الرضا لأنّه ينطوي على فكرة سلبية خالصة ، فتراه دائماً في خوف على أعماله " (41)

وقد وصل بها الأمر إلى مناجاة الله مناجاة الحبيب للحبيب تقرّباً لله والمبادرة بإعلان حبّها الدائم له قائلة " ألهي : أنارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلّقت الملوك أبوابها ، وخلا كل حبيب ٍ بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك . إلهي هذا الليل قد أدبر ، وهذا النهار قد أسفر ، فليت شعري أقبلتَ منّي ليلتي فأهنا ؟ أم رددتها علي فأعزى ؟ فوعزّتك هذا دأبي ماأحييتني وأعنتني ، وعزّتك لو طردتني عن بابك مابرحت عنه لما وقع في قلبي من محبّتك " (42 ) وينسب لها أنها خاطبت ربّها قائلة " وعزّتك ماعبدتك خوفاً من نارك ولارغبة في جنّتك ، بل كرامة لوجهك الكريم ومحبّةً فيك "

(43 ) .

تمثّل رابعة صورة الإنسان الذي ليس له في هذا الوجود أي غرض أو هدف أو طمع في أي شيء ، بل إنّها كانت تسعى لإقناع نفسها بأنها قد حازت على أسمى ماكانت تسعى إليه ، وهوأن تهيم بحب الله ، فقط لأنّها تحبّه ، وليس طمعاً فيما وعد الله به عباده الصّالحين ، ولكن هذا لايعني أن رابعة لم تكن من عباده الصّالحين بل كانت كذلك ، فقد اتفقت الطرّق ولكن الهدف مختلف .



الغزالي





سيتحوّل معنى الحب الإلهي عند الإمام الغزالي إلى قضيّة فكريّة لامكان فيها للمناجاة ، أو قول الشعر ، بل إلى عملية تحليل نفسي وأجتماعي تقوم على تفسير الحب الإلهي من بداياته باعتبار أن الحب هو حالة إنسانية ، وأن الحب عندما يبدأ فإنه يكون بين البشر ، ويتسامى مع التطوّر العقلي للإنسان حتى يصل إلى أرفع أنواع الحب وهو حب الإنسان لله تعالى . سعى الغزالي لإثبات أن الذي يستحق الحب هو الله وحده ، وساق الأدلّة على ذلك على النحو التالي :



(الأوّل ) : هو أن الإنسان لايحبّ إلاّ نفسه ، وهو يعمل دائماً على المحافظة على حياته واستمرار وجوده والذي يضمن له هذا الوجود واستمرار حياته هو الله تعالى ، فإنّه يتوجب عليه أن يحب الله تعبيراً له عن شكره وامتنانه لخالقه . وهذا يعني أن بداية الحب عند الإنسان هي بشرية ، فلا يبدأ الإنسان بالحب إلاّ إذا أحب مايعرفه وأوّل مايعرفه هو ذاته ويبدأ بهذا النوع من الحب الأرضي والذي سيرتفع بواسطته إلى أنواع أخرى من الحب تكون محصّلته حبّا أسمى من الحب البشري ، والذي يهدف إلى تحقيق أغراض دنيويّة .



(الثاني ) : هو أن الله هو المحسن لعباده ، وهو يقدّم لخلقه كلّ مايحتاجون إليه في هذه الحياة الدنيا دون أن يكون له حاجة للناس لأنه ، ولايمكن أن نطلق معاني الجود والإحسان على غير الله إلاّ عن طريق المجاز ، ويجب على الإنسان أن يدرك أفضال الله تعالى عليه ، ويجب أن يتوجّه إليه بكل قلبه ، والتفرّغ لعبادته ، وأن يكون حبّه خالصاً لله .



( الثالث ) : هو أنّه يتوجب على الإنسان أن يحب الله حتى لو لم يصله إحسانه ، ، لأن الله تعالى هو المحسن للناس كافة ، ويكفي من إحسان الله للناس منحه الحياة لهم ، وتوفير مايحتاجونه على العموم من النعم ، حتى لو وصلت إلى الناس بصور مختلفة .



( الرّابع ) : وهي أن أشرف مايعرفه الإنسان هو الجمال لأنّه بطبعه يحّب الجمال ، ويميل الإنسان إلى حب الجمال لذاته دون أن يكون من وراء هذا الحب مصلحة له ، والله هو كمال كل شيء وحيث أن الإنسان لايجد حوله في هذا الوجود ماهو مطلق ، فالله تعالى هو غاية الطلب بالنسبة للإنسان ، ويجب عليه أن يحبّه لأن الإنسان يحب الجمال ، والله هو الجمال المطلق .



( الخامس ) : هو أن الإنسان يعمد على تنفيذ الأوامر الإلهية بالعبادات ، وعمل الخير ، والإحسان للآخرين ، لأن الإلتزام بالأوامر الإلهيه يعني قرب الإنسان من ربّه ، ويصبح شبيهاً به ، ليس بالصفات ، ولكن بتنفيذ ماأمر به الله ، لأن ماأمر به الله تعالى هو من صفاته ، وكلّما التزم الإنسان أكثر وجب عليه أن يحب الله أكثر . لأنّ الله هو أولى بالحب من غيره ، وأن حب الإنسان لله يكون كاملآً كلّما أحب الإنسان ربّه من كل قلبه ، أما إذأ إذا كانت أي زاوية من زوايا قلبه مشغولة بغير حب الله نقص ذلك من حبّه لله ، ومن يسعى لحب الله فلامكان لأي أمر دنيوي في حياته " ( 44 ).



وهذا مايؤكّده ابن قيم الجوزيّة بقوله " أن المحبّة الخالصة أن يُحبّ المحبوب لكماله ، وأنّه أهلٌ أن يُحب لذاته وصفاته " (45) وقال " أن الذي يوجب هذه المحبّة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه لامراده هو من محبوبه " (46 ) 0



فقد وجب على الإنسان أن يردّ الدّين إلى الله ، الذي منحه كل ّ شيء في هذه الحياة ، وماهو مطلوب من الإنسان هو أن يعمل على إرضاء الله ، وعندما يسعى الإنسان إلى إرضاء الله فهو يسعى من ناحية أخرى لإرضاء نفسه ، لأن الله ليس بحاجة لرضى الإنسان عنه ، بينما الإنسان بحاجة إلى رضى الله عنه ، وهو – أي الإنسان – إذا كان لايعلم أن الله قد رضى عنه أم لا ، فأنّه يجب عليه أن يعمل بجد وإخلاص لعلّه يحظى به لأن " المحبّة لله هي الغاية القصوى من المقامات ، والذروة العليا من الدرجات " ( 47 ) ، فما يصل إليه الإنسان من تطوّر فكري في حياته لايمكن أن يحقّقه إلاّ إذا كان حب الله يملأ عليه حياته ، و مادام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله " (48) . وحب الله تعالى لايتجزّأ ، بل هوكلّ لايستطيع أي إنسان كما ذكرت رابعة أن يحب الله ويشرك مع حبه حب أي أمر من أمور الدنيا " وكمال الحب في أن يحب الله بكل قلبه " ( 49 ) . لأنه لايوجد قبل الله حب ولا بعده حب لأن " المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات " (50 ) .



ويميّز الغزالي بين حب الإنسان العادي وبين الصّوفي بقوله " والمؤمنون مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبّة ، ولكنّهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة ، وفي حب الدنيا " ( 51 ) ، فهو عندما يتحدّث عن حب الله يقصر حديثه على فئة " المؤمنين " وهذا يعني أن معرفة الله قصر على " المؤمنين " فقط ، ولكن حتى بين المؤمنين بالله يوجد هناك تفاوت في حب الله وذلك لاختلاف الطرق التي يسعون إليها لتحقيق هذا الحب ، وسبب هذا الخلاف أن هناك الكثير من المؤمنين يقبلون على حب الدنيا ، وهذا مايجعلهم يتراجعون في مستوى الحب الإلهي ، وهناك فئة من المؤمنين وصلت إلى حد المعرفة المطلوبة وذلك بابتعادهم عن الدنيا لأن " المحبّة نبع المعرفة بالضرورة ولايوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلاّ بالفكر الصّافي والذاكر الدّائم والجدّ البالغ في الطلب ، والنظر المستمرّ في الله تعالى ، وفي صفاته ، وفي ملكوت سمواته ، وسائر مخلوقاته " ( 52 ) . وفي ذلك يحدّد الغزالي للمؤمن الطريق التي يجب عليه أن يسلكها حتى يصل إلى مرحلة التصّوف ، وكأن الإيمان لايكفي وحده عند الغزالي للوصول إلى مرحلة الحب الإلهي ، بل هو بحاجة لشروط يجب توفرها فيه للإنتقال من مرحلة المؤمن إلى مرحلة المتصوّف .



ابن الفارض



وبرز موضوع الحب الإلهي بصورة جديدة عند صوفي تميّز عن غيره من الصّوفية السابقين عليه هو عمر بن الفارض ( 577 – 632 هجريّة ) ، الذي عبّر عن حبّه لربّه عن طريق الشعر ، وكان هو الصّوفي العربي الوحيد الّذي انطلقت روحه جيّاشة بالتعبير عن الحب الإلهي من خلال النظم شعراً وترك لنا ديواناً من الشعر يتنقّل من يقرأه بين الصور الجماليّة الرّائعة للحب الإلهي في أجلى صوره ، وأطلق عليه لقب " سلطان العاشقين " (53) ، ويصفه أبو العلا عفيفي بأنّه " أحد أقطاب العاشقين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربيّة على الإطلاق " (54 ) ، فقد أمضى حياته يعبد الله ويتقرّب إليه من خلال قصائده التي بثّ فيها صور الحب الإلهي ، فقد تغنّى في كل ماهو جميل في هذا الكون ، (55) واتّخذ حبه بالنظر إلى جمال الكون من حوله ليعبّر من خلال عالم الحس المادي ، ومنه إلى عالم الخلود ، حيث يتجلى الله في هذا العالم من خلال معجزات الوجود التي تحيط بالإنسان ، وكل علامة من علامات هذا الوجود تعني أن الله موجود ولكن ليس على شكل المادة ، فكان الحب الذي يطلبه ليس ماديّاً بل يسمو على المادة ليصل إلى الله تعالى ، بما في هذا الحب من روحانيّة . . وكي يحب الإنسان الله يتوجّب عليه أن يتحرّر من سلطة المادة التي تحاصر الإنسان من كل جانب ، وفكّ الحصار هذا يوجب على الصّوفي أن ينطلق في آفاق الكون باحثاً عن سرّ الوجود ، وهذا مالن يصل إليه الإنسان إلاّ إذا تحرّر بروحه من سلطة البدن ومن عالم المادة بما فيها من رغبات وشهوات ، وهذا لايتم إلاّ بتحرير الروح من سطوة الجسد " وتصفية النفس وتنقية القلب وجلاء عين البصيرة لتستحيل حياة الإنسان في هذه الدنيا إلى حياة روحيّة خالصة ، تستعيد فيها روحه روحانيّتها الأولى وتستشعر حبها القديم الذى منحته قبل أن تهبط من عالمها العلوي وتتصل ببارئها " (56 ) ، وإذا تمكن الإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة ، فإنه يمكن القول أن الإنسان قد أصبح قريباً من الله ، بل قد فني في الله ، لأن الذي يحب الله لايعود له أدنى اهتمام بوجوده الذاتي بل هو يستمدّ وجوده من الله ، وقد نظر إلى المحبّة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده (57 ) .

وقد وصل ابن الفارض إلى مرحل رأى نفسه فيها إمام العاشقين ومرجهعم الأوّل في كل مايتعلق بالحب الإلهي ويدعو الناس إلى اتباع خطواته للوصول إلى مرحلة متقدمة في حب الله وكسب معرفته لأنّه وصل إلى الطريق التي تقوده إلى معرفة الله أكثر من غيره ، ويقول :

زدني بفرط الحب فيك تحيّراً وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا

وإذا سألتك أن أراك حقيقةً فاسمح ولاتجعل جوابي لن ترى

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ ارق ّمن النسيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أمّلتها فغدوت معروفاًوكنت منكرا

فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عنّي مخبرا ( 58 )

هل وصل ابن الفارض إلى مرحلة الرؤية التي يدّعيها ، وهل أصبح قريباً من الله تعالى لدرجة أن المحبة الإلهية قد تحقّق مابين الله الذي رضي على عبده وقبل حبّه له مما جعل ابن الفارض يصل إلى مرحلة رؤية الله .

ويبدو أن هذه الحال التي وصل إليها ابن الفرض قد جعلته يشعر بالتفوّق على السابقين والمعاصرين من الصوفية ، لأن ماحصل عليه من الله لم يحصل عليه أحد غيره ، ويقول مخاطباً إيّاهم :



قل للّذين تقدّموا قبلي ومن بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى

عنّي خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا وتحدّثوا بصبابتي بين الورى ( 59 )





فهو المتقدّم على الجميع في مجال الحب الإلهى لدرجة أنّه يطلب من الآخرين أن لايبحثوا عن أسرار الصوفيّة إلا من خلاله ، فهو الوحيد الذي يستحق أن يسمع ، وأن يكون القدوة لغيره ، ولولا استغراقه في الحب الإلهي لما وصل إلى هذه الحالة من الحب الخالص لله ، ويضيف قائلاً :



كل من في حماك يهواك لكن أنا وحدي بكل من في حماكا

فيك معنى حلاك في عين عقلي وبه ناظري معنى حلاكا

فقت أهل الجمال حسناً وحسناً فبهم فاقة إلى معناكا

يحشر العاشقون تحت لوائي وجميع الملاح تحت لواكا ( 60 )



وفي هذه الأبيات ينصّب ابن الفارض نفسه سلطانا للعاشقين ، ويعتبر نفسه المرجع الأول والأخير ، ولم يعد هناك حبّ لله إلاّ بواسطة معرفة ماقام به ابن الفارض للتعبير عن حبّه لله ، وينبه سامعيه قائلاً :

نسخت بحبّي آية العشق من قبلي فأهل الهوى جندي وحكمي على الكل

وكل فتى يهوى فأنّي إمامه وإنّي بريء من فتى سامع العذل

ولي في الهوي علم تجل صفاته ومن لم يفقه الهوى فهو في جهل

ومن لم يكن في عزّة الحب تائهاً بحب الّذي يهوى فبشّره بالذل ( 61 )



ومافعله ابن الفارض فعله معظم الصّوفيّة الذين رأوا بالعزلة ، وهجر الدنيا ، أحد أهم الشروط التي كان عليهم أن يلزموا أنفسهم بها لإرضاء الله تعالى . ولم يكن له هدف سوى محبّة الله دون أن يسعى لتحقيق غرض دنيوي من هذا الحب ، ويقول في ذلك :



تقرّبت بالنفس احتساباً لها ولم أكن راجياً عنها ثواباً فأدنت

وقدّمت مالي في مآلي عاجلاً وما إن عساها تكون منيلتي ( 62 )



كانت صور الحب الإلهي في شعر ابن الفارض أكبر من أن تحصى وتعد واستعراضها في هذه الدراسة ضرب من المستحيل ، ولكن ماكان علينا أن نتحدّث عن الحب الإلهي دون الإشارة لهذا الصوفي الذي أفنى حياته وهو يسعى للتقرّب إلى الله .



لم يكن من أهداف هذه الدراسة كتابة تاريخ الحب الإلهي عند الصوفيّة ، بل كان من أهدافها تسجيل إشراقة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي لطائفة من المسلمين رأوا أن أقرب طريق إلى الله تعالى هو التعرّف على الذات الإلهية ليس من خلال الجنة والنار ، ولا من خلال مظاهر العبادة التي يسعى الناس للتقرب بها للناس أكثر من التقرّب إلى الله ، فكانت طريقهم إلى الله تتم عن طريق إعلان أن حبّهم لله ليس لهم من وراءه غرض دنيوي ، فإن من يحب الله ليس عليه أن يعلن ذلك بل إن كل ماهو مطلوب منهم هو السير على الطريق إلى الله ، ولكن هذه الطريق لم تكن سهلة في الحياة الدنيا ، فإن ماقالته هذه الفئة لم تلق القبول من معظم الناس ، كما أن السلطة الحاكمة لم تكن تنظر إلى هذه الفئة من الناس نظرة طمأنينة ، وماجرى للحلاّج من تعذيب وانتقام وقتل بصورة لم يعهدها المسلمون دليل على ذلك ( 63 ) ، وماحدث للسهروردي من تعذيب وقتل دليل آخر .





الحب والكراهيّة



تحفل اللغة العربية كغيرها من اللغات بالمفاهيم المتناقضة مثل الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحب والكراهيّة ، هل يمكن أن يكون هناك حبّ دون تكون هناك كراهيّة ؟ يدلّنا الواقع المعاش للإنسان أنّهما وجهان لموضوع واحد ، بل هما قضيّة واحدة ، إذ لايمكن معرفة واحد منها دون النّظر للآخر ، فمن يحب لابد أنّه كان يكره حتى وصل إلى مرحلة الحب ، وكذلك من يكره ، فإنّه يكره لأنّه لايحب ، والحد الفاصل بين النقيضين هو أن من يحب يكون دائماً في وضع أفضل ممن يكره وذلك من الناحية النفسيه ، فالحب هو تعبير عن نوع من الرضى تجاه قضيّة معيّنة . ويعكس الحب حالة من التملّك ضد حالة من الرّفض يمثّلها من يكره ، ولكن لو طرحنا على من يحب سؤالاً : هل تكره ؟ لكان جوابه نعم هو يكره ، ولكن ماذا يكره ؟ لقد كره الصّوفية الفوضى السياسيّة التي سادت المجتع الإسلامي ، وكرهوا الإنهيار الأخلاقي الذي كان السّمة السائدة بين النّاس ، ولاحظوا إقبال النّاس على الدنيا وأمعنوا بالتمسّك بالحياة ، وشادوا العمارة والبناء ، وكثرت لديهم الجواري والعبيد ، وابتعدوا عن الله ، ، لقد كرهوا الحياة الدنيا لأنّها لأنّها تقرّب الناس من المعصية ، وكلّما ازدادت المعاصي تعرّض المجتمع للإنحلال ، ويقول الغزالي أن " زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسّفهاء " (64 ) ، وهذا الزمان الذي عاش به الغزالي هو " الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم ، وقد خبثت أعمال الناس ونيّاتهم " (65) .



وهذا الزمان الذي كرهه الغزالي نعتبره نحن اليوم من أيّام تفوّق الحضارة العربيّة الإسلامية ، ولكن رؤية أهل زمانه له ، تعكس مرآة صادقة عن الوضع الإجتماعي والسياسي ، وهذا ماسيعكسه لنا الغزالي بقوله " واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق " (66) وأصبح النّاس في أيامه لايخشون شيئاً ولايحسبون حساباً حتى لله تعالى ، وسبب ذلك أنتشار الرياء والنفاق بينهم ، وبسبب هذا الفساد الذي عم الناس وأصبح هو المطلب الأساسي ليحققوا من خلاله مطالب الدنيا ازداد ابتعاد الناس عن دينهم لصالح دنياهم ، وعن خالقهم لصالح مصالحهم الشّخصية ، وها مادفع الغزالي ليصوّر المجتمع الإسلامي بزمانه بقوله " وقد اندرس فيه الحق وانكسر البثق ... فإنّ قوماً اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وجعلوا التعليمات النبويّة هباءاً منثوراً ، وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم في الدين " (67) .



ويتحوّل كره الغزالي للمجتمع السائد في عصره إلى إدانة لكل أنماط الحياة والسلوك التي يمارسها الناس مهما علت مراتبهم الإجتماعية ، ويتحوّل كرهه إلى أوجه النظام المختلفة من سياسي واجتماعي واقتصادي بقوله " وأمّا الآن في هذا الزمان ، فكل مايجري على أيدي أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤناواستحقاقنا ، كما أنّنا رديئو الأعمال قبيحو الأفعال ، ذوو خيانة وقلّة أمانة ، فأمراؤنا جائرون وغشمة معتدون " (68 ) .



إن كلام الغزالي السابق يعكس المرارة التي تولّدت عنده نتيجة مطالعته لأحوال الناس في زمانه ، وفي هذا الأقوال والتي لايخلو منها زمان تبيّن كره مفكّر للأوضاع السّائدة في زمانه، وليس أمامه إلاّ قبول هذا الوضع أو رفضه ، وقبول هذا الوضع يعني من الإنسان قبول مايكره ، ولكن رفضه له يعني أن هذه الكراهيّة يجب أن تتحوّل للجانب الآخر من التناقض وهو الحب ، لذلك كانت دعوة الغزالي لنفسه " الرّحيل ، الرّحيل" (69) .



وهذا ماعمل به الصوفيّة وهو الفرار من الدنيا واللجوء إلى الله فقد تفوّق عندهم الحب على الكراهية ، لأن الذي يحب لايمكن أن يكره ، لأن الحب عاطفة تطغى على الإنسان فلايعود يرى إلاّ كل شيء جميل وتتراجع الكراهيّة عنده حتى تتلاشى ، فكيف إذا كان المحبوب هو الله ، وهل من يحبّ الله يمكن أن يكره أحداً ؟ والله هو الحب ذاته ، ويقول ابن قيم الجوزيّة " فالنفس لاتترك محبوباً ألاّ لمحبوب ، ولاتتحمّل مكروهاً إلاّ لتحصيل المحبوب ، او للتخلّص من مكروه آخر " (70 ) 0، فالمحب برأيه يتخلّى عن أدنى أنواع الحب طلباً لأعلى أنواع الحب لأنّ أعلى أنواع الحب أن تحقّق للإنسان نفعاً أكثر من الحب الأدنى " فتبيّن بذلك أن المحبّة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلّة لهما من غير عكس ، فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ، ولولا وجود المحبوب لم يكن بغض " ( 71 ) . فكان بالنسبة لهم الله هو الأعلى دائما ، وغيره هو الأدنى ، فكان لابد من التضحية بالأدنى وهي الدنيا طلباً للأعلى وهو التفرّغ لحب الله تعالى .

تلك هي المواقف التي اتخذها الصوفيّة في حياتهم ، فقد غلب عليهم حب الله ، لدرجة أنّه لم يعد في قلوبهم مكان للكراهيّة . أمّا بقية الناس فهم" في طغينهم يعمهون " ( 72 ) .




المراجع

1 . ابن خلدون ، المقدّمة ، المكتبة التجاريّة ، مصر ، د . ت ، ص 467 .

2 . المرجع السّابق ، ص 467 .

3 . ابو العلا عفيفي ، التصوّف ، الثورة الروحيّة في الإسلام ، دار المعارف ، مصر ، ط1 ، 1963 ، ص 62 .

4 . الطّوسي ، الّلمع في تاريخ التصوّف الإسلامي ، ضبطه وصحّحه كامل مصطفى الهنداوي ، دار الكتب العلميّة ،

بيروت ، ط1 ، 2001 ، ص 24 .

5 . المرجع السّابق ، ص 24 .

6 . محمّد الكلاباذي ، التعرّف لمذهب أهل التصوّف ، تحقيق محمود أمين النواوي ، مكتبة الكليّات الأزهريّة ،

القاهرة ، ط1 ، ص 29 .

7 . المرجع السابق ، ص 31 .

8 . السهروردي ، عوارف المعارف ، مطبوع على هامش " إحياء علوم الدّين " للغزالي ، ج1 ، عالم الكتب

، دمشق ، ص 295 .

9 . مقدمة ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص 467 .

10 . محمد الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 29 ، . أنظر أيضاً ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 29 .

11 . الطّوسي ، مرجع سابق ، ص 26 ، 27 ، 28 .

12 . عبد الكريم بن هوازن القشيري ، الرسالة القشيريّة في علم التصوّف ، تحقيق معروف زريق وعلي عبد الحميد

دار الخير ، دمشق وبيروت ، ط1 ، 1988 ، ص 280 .

13 . محمد الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 28 .

14 . الغزالي ، المنقذ من الضلال ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، ط1 ، 1988 ، ص 59 ومابعدها .

15 . المرجع السابق ، ص 57 .

16 . المرجع السابق ، ص 62 .

17 . المرجع السابق ، ص 62

18 . المرجع السابق يمثّل السيرة الذاتية للغزالي ، ومن خلال مطالعته يتبيّن للقاريء مراحل التطوّر الفكري

له ، حتى وصل إلى مرحلة التصوّف .

19 . المرجع السابق ، ص 57 .

20 . المرجع السابق ، ص 60 .

21 . القرآن الكريم ، سورة المائدة ، آية رقم 54 .

22 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 146 .

23 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 134 .

24 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 76 .

25 . القرآن الكريم ، سورة الشّورى ، آية رقم 11

26 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .

27 . ابن قيّم الجوزيّة ، محبّة الله ، تحقيق يوسف علي بديوي ، اليمامة للطباعة والنشر ، دمشق وبيروت ، ط3 ،

2005 ، ص 33 .

28 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 31 .

29 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 36 .

30 . أبو طالب المكّي ، قوت القلوب ، ج1 ، مكتبة مصفى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1961 ، ص 50 .

31 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 318 .

32 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .

33 . الطّوسي ، مرجع سابق ، ص 54 .

34 . المرجع السابق ، ص 54 .

35 . عبد الرحمن بدوي ، شهيدة العشق الإلهي ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ط4 ، ص 10 .

36 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، عالم الكتب ، دمشق ، د . ت ، ج4 ، ص 266 .

37 . الغزالي ، المرجع السابق ، ص 266 .

38 . الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 184 .

39 . محمد فاروق النبهان ، مباديء الفكر الصّوفي ، مكتبة دار التراث ، حلب ، ط1 ، 2005 ، ص 783 .

أنظر أيضاً الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج4 ، ص 338 .

40 . محمد عبد الرحمن بدوي ، مرجع سابق ، ص 111 .

41 . المرجع السابق ، ص 25 .

42 . المرجع السابق ، ص 27 .

43 . ديوان ابن الفارض ، تحقيق عبد الخالق محمود ، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والإجتماعيّة ، القاهرة ،

د . ت ، ص 177 .


44 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، عالم الكتب ، دمشق ، د . ت ، ج2 ، ص 259 – 264 .

45 . ابن قيّم الجوزيّة ، طريق الهجرتين وباب السعادتين ، المكتبة العصريّة ، بيروت ، 2003 ، ص 346 .

46 . المرجع السّابق ، ص 346 .

47 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج4 ، مرجع سابق ، ص 252 .

48 . المرجع السّابق ، ص 271 .

49 . المرجع السّابق ، ص 271 .

50 . المرجع السّابق ، ص 252 .

51 . المرجع السّابق ، ص 251 .

52 . المرجع السابق ، ص 274 .

53 . محمد مصطفى حلمي ،ابن الفارض والحب الإلهي ، دار المعارف ، القاهرة ، د . ت ، 2003 ، 10 .

54 . ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 227 .

55 . محمد مصطفى حلمي ، مرجع سابق ، ص 164 .

56 . المرجع السّابق ، ص 164 .

57 . ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 230 .

58 . ديوان ابن الفارض ، مرجع سابق ، 369 .

59 . السّابق ، ص 369 .

60 . السّابق ، ص 341 .

61 . السّابق ، ص 372 .

62 . السّابق ، ص 242 .

63 . ديوان الحلاج ، صنعه وأصلحه أبو طريف الشّيبي ، منشورات الجمل ، بيروت ، 1997 ، ص 18 .

64 . الغزالي ، التبر المسبوك ، دار ابن زيدون ، بيروت ، ط1 ، 1987 ، ص 57 .

65 . المرجع السابق ، ص 76 .

66 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج2 ، مرجع سابق ، ص 569 .

67 . الغزالي ، القسطاس المستقيم ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، 1986 ، ص 64 .

68 . الغزالي ، التبر المسبوك ، مرجع سابق ، ص 57 .

69 . أنظر هامش رقم 20 .

70 . ابن قيّم الجوزيّة ، محبّة الله ، مرجع سابق ، ص 69 .

71 . المرجع السّابق ، ص 69 .

72 . القرآن الكريم ، سورة يونس ، آية 11 .

كرامات الأولياء



كرامات الأولياء



                                                     

إثبات الكرامات ـ الحكمة من الكرامات ـ
الفرق بين الكرامة والاستدراج ـ موقف الصحابة من الكرامات
كثر تساؤل الناس في هذا الزمان عن الكرامات ؛ هل هي ثابتة في الشرع ؟ هل لها دليل من الكتاب والسنة ؟ ما هي الحكمة من إِجرائها على يد الأولياء والمتقين ؟ .. إِلخ. وبما أن موجات الإِلحاد والمادية، وتيارات التشكيك والتضليل قد كثرت في هذا الوقت، فأثرت في عقول كثير من أبنائنا، وأضلَّت العديد من مثقفينا، وحملتهم على الوقوف من الكرامات موقف المنكر الجاحد، أو الشاكِّ المتردِّد، أو المستغرب المتعجب نتيجة لضعف إِيمانهم بالله وقدرته وقلة تصديقهم بأوليائه وأحبابه.

فلا يسعنا إِلا أن نعالج هذا الموضوع إِظهاراً للحق، ونصرة لشريعة الله تعالى.
إِثبات الكرامات:
لقد ثبتت كرامات الأولياء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ومَنْ بعدهم إِلى يومنا هذا، وأقرها جمهور العلماءِ من أهل السنة والجماعة، من الفقهاء والمحدِّثين والأصوليين ومشايخ الصوفية، وتصانيفُهم ناطقة بذلك، كما ثبتت كذلك بالمشاهدة العيانية في مختلف العصور الإِسلامية. فهي ثابتة بالتواتر في المعنى، وإِن كانت التفاصيل آحاداً ؛ ولم ينكرها إِلا أهل البدع والانحراف ممن ضعف إِيمانهم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله [قال العلامة اليافعي رحمه الله تعالى: (والناس في إِنكار الكرامات مختلفون، فمنهم من ينكر كرامات الأولياء مطلقاً، وهؤلاء أهل مذهب معروف، عن التوفيق مصروف. ومنهم من يكذب بكرامات أولياء زمانه ويصدق بكرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانه كمعروف الكرخي والإِمام الجنيد وسهل التستري وأشباههم رضي الله عنهم، فهؤلاء كما قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: والله ما هي إِلا إِسرائيلية، صدقوا بموسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أدركوا زمنه. ومنهم من يصدق بأن لله تعالى أولياء لهم كرامات ولكن لا يصدق بأحد معيَّنٍ من أهل زمانه). روض الرياحين، للإِمام اليافعي ص18].

الدليل عليها من كتاب الله تعالى:
1ـ قصة أصحاب الكهف وبقائهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة وتسع سنين، وأنه تعالى كان يحفظهم من حر الشمس: {وتَرى الشمسَ إذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عنْ كهفِهِم ذاتَ اليمينِ وإذا غَرَبَتْ تقرِضُهُم ذاتَ الشمالِ} [الكهف: 17]. إِلى أن قال: {وتحسَبُهُم أيقاظاَ وهُمْ رُقودٌ ونُقلِّبُهُم ذات اليمين وذات الشمال وكلْبُهُم باسِطٌ ذراعيهِ بالوصيدِ} [الكهف: 18]. إِلى أن قال: {ولَبِثوا في كَهْفِهِم ثلاثمئةٍ سنين وازدادوا تسعاً} [الكهف: 25] [قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره الكبير عند قصة أصحاب الكهف: (احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر، فنقول: الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول..) انظره مفصلاً في التفسير الكبير للعلامة فخر الدين الرازي ج5 ص682].

2ـ هزُّ مريم جذعَ النخلة اليابس، فاخضرَّ وتساقط منه الرُّطَبُ الجني في غير أوانه، قال تعالى: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جنيّاً} [مريم: 25].
3ـ ما قص الله علينا في القرآن، من أن زكريا عليه السلام كان كلما دخل على مريم المحراب، وجد عندها رزقاً، وكان لا يدخل عليها أحد غيره عليه السلام فيقول: يا مريم أنَّى لك هذا ؟ تقول: هو من عند الله. قال الله تعالى: {كلَّما دخَلَ عليها زكريا المحرابَ وَجَدَ عندَها رِزْقاً قال يا مريمُ أنَّى لكِ هذا قالَتْ هوَ مِنْ عندِ اللهِ} [آل عمران: 37].
4ـ قصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام على ما قاله جمهور المفسرين في قوله تعالى: {قالَ الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتيكَ بهِ قبْلَ أنْ يرتَدَّ إليكَ طرفُكَ} [النمل: 40]. فجاء بعرش بلقيس من اليمن إِلى فلسطين قبل ارتداد الطرف.

الدليل عليها من السنة الصحيحة:
1ـ قصة جُرَيْجٍ العابد الذي كلمه الطفل في المهد. وهو حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إِلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إِسرائيل رجل يقال له جُرَيْج، كان يصلي فجاءته أمه، فدعتْه، فقال: أُجيبُها أوْ أصلي ؟ فقالت: اللهم لا تمتْه حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته فتعرّضت له امرأة وكلمته ؛ فأبى. فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج. فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبّوه، فتوضأ وصلّى، ثم أتى الغلام ؛ فقال: مَن أبوك يا غلام ؟ فقال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب ؟ قال: لا، إِلا من طين.."].
2ـ قصة الغلام الذي تكلم في المهد [وهذا تمام الحديث المذكور آنفاً: ".. وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بني إِسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه". قال أبو هريرة: كأني أنظر إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إِصبعه. "ثم مرَّ بأمَة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: لِمَ ذاك ؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمَة يقولون: سرقت، زنت، ولم تفعل". رواه البخاري في صحيحه في كتاب ذكر بني إِسرائيل، واللفظ له. ومسلم في كتاب بر الوالدين].

3ـ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، وانفراج الصخرة عنهم بعد أن سَدَّتْ عليهم الباب. وهو حديث متفق عليه [وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إِلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إِنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبْتُ لهما غبُوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثْتُ والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برِقَ الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إِن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فَفَرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم إِنه كانت لي بنتُ عم، كانت أحب الناس إِلي، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني: حتى ألمَّتْ بها سنة من السنين فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إِذا قدرتُ عليها قالت: لا أحل لك أن تفضَّ الخاتم إِلا بحقه، فتحرَّجْتُ من الوقوع عليها فانصرفْتُ عنها وهي أحب الناس إِلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إِن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهبَ، فثمَّرتُ أجرَه، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! أدِّ إِليَّ أجري، فقلت له: كلُّ ما ترى من أجرك من الإِبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله: لا تستهزىء بي. فقلت: إِني لا أستهزىء بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإِن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون". أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإِجارة واللفظ له، ومسلم في كتاب الذكر].
4ـ قصة البقرة التي كلمت صاحبها. وهو حديث صحيح مشهور [روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل راكب على بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إِليه البقرة فقالت: إِني لم أُخلَق لهذا، وإِنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنْتُ بهذا أنا وأبو بكر وعمر". رواه البخاري في صحيحه في كتاب المزارعة، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، والترمذي في كتاب المناقب].
الدليل عليها من آثار الصحابة:
وقد نُقِل عنهم من الكرامات الشيء الكثير.
1ـ قصة أبي بكر رضي الله عنه مع أضيافه في تكثير الطعام، حتى صار بعد الأكل أكثرَ مما كان. وهو حديث صحيح في البخاري [أخرج البخاري: أن أبا بكر كان عنده أضياف، فقدم لهم الطعام فلما أكلوا منه ربا من أسفله حتى إِذا شبعوا قال لامرأته: (ياأخت بني فراس ما هذا ؟ قالت: وقرة عيني لهي [تعني القصعة] أكثر منها قبل أن يأكلوا.. إِلى آخر القصة].
2ـ قصة عمر رضي الله عنه، وهو على منبر المدينة ينادي بقائده: يا سارية الجبل! وهو حديث حسن [انظر الحديث ص 344].
3ـ قصة عثمان رضي الله عنه مع الرجل الذي دخل عليه، فأخبره عما أحدث في طريقه من نظره إِلى المرأة الأجنبية. الحديث [انظر الحديث ص 346].
4ـ سماع علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلامَ الموتى. كما أخرجه البيهقي [أخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: (دخلنا مقابر المدينة مع علي رضي الله عنه، فنادى: يا أهل القبور السلام عليكم ورحمة الله، تخبرونا بأخباركم أم نخبركم ؟ قال: فسمعنا صوتاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين خبِّرنا عما كان بعدنا. فقال علي: أما أزواجكم فقد تزوجن، وأما أموالكم فقد اقتُسمت، والأولاد قد حُشِروا في زمرة اليتامى، والبناء الذي شيدْتم فقد سكنه أعداؤكم، فهذه أخبار ما عندنا، فما أخبار ما عندكم ؟ فأجابه ميت: قد تخرَّقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلودَ، وسالت الأحداق على الخدود، وسالت المناخر بالقيح والصديد، وما قدَّمناه وجدناه وما خلَّفناه خسرناه، ونحن مُرْتَهنون)].
5ـ قصة عبَّاد بن بشر وأسيد بن حضير رضي الله عنهما اللذيْن أضاءتْ لَهمَا عصا أحدهما عندما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة. وهو حديث صحيح أخرجه البخاري [أخرج الحاكم في كتاب معرفة الصحابة وصححه والبيهقي وأبو نعيم وابن سعد، وهو في البخاري من غير تسمية الرجلين: "أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، خرجا وبيد كل واحد منهما عصا فأضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، حتى إِذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله"].
6ـ قصة خبيب رضي الله عنه في قطف العنب الذي وُجدفي يده يأكله في غير أوانه. وهو حديث صحيح [أخرج البخاري في صحيحه في باب غزوة الرجيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خبيباً كان أسيراً عند بني الحارث بمكة، في قصة طويلة، وفيها أن بنت الحارث كانت تقول: (ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة وإِنه لموثَق في الحديد، وما كان إِلا رزق رزقه الله)].
7ـ قصة سعد وسعيد رضي الله عنهما، وهي أن كلاً منهما دعا على من كذب عليه، فاستجيب له. أخرجه البخاري ومسلم [الأول منهما: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان والبيهقي من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر رضي الله عنه قال: شكا ناس من أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إِلى عمر (فبعث معه من يسأل عنه بالكوفة، فطِيف به في مساجد الكوفة، فلم يُقل له إِلا خير حتى انتهى إِلى مسجد، فقال رجل يُدْعى أبا سعدة: أما إِذ أنشدتنا فإِن سعداً كان لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية ولا يعدل في القضية، فقال سعد: اللهم إِن كان كاذباً فأطلْ عمره، وأطل فقره وعرضه للفتن، قال ابن عمير: فرأيتُه شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وقد افتقر يتعرض للجواري في الطريق يغمزهن، فإِذا قيل له: كيف أنت ؟ يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد).

والثاني: سعيد بن زيد رضي الله عنه. فقد أخرج مسلم في كتاب المساقاة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: (أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إِلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: وما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقه إِلى سبع أرضين" فقال له مروان: لا أسألك بَيِّنَةً بعد هذا. فقال: اللهم إِن كانت كاذبة فَعَمِّ بصرها واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إِذ وقعت في حفرة فماتت)].
8ـ قصة عبور العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر على فرسه ونبع الماء بدعائه. أخرجه ابن سعد في الطبقات [كان أبو هريرة يقول: (رأيتُ من العلاء بن الحضرمي ثلاثةَ أشياء لا أزال أحبه أبداً، رأيته قطع البحر على فرسه يوم دارينَ. وقدم من المدينة يريد البحرين، فلما كانوا بالدهناء نفد ماؤهم، فدعا الله فنبع لهم من تحت رملة، فارتووا وارتحلوا، وأنسي رجل منهم بعض متاعه، فرجع فأخذه ولم يجد الماء. وخرجتُ معه من البحرين إِلى صف البصرة فلما كنا بلِياسٍ مات ونحن على غير ماء، فأبدى الله لنا سحابة فمُطرنا فغسلناه وحفرنا له بسيوفنا ولم نُلْحِدْ له، فرجعنا لنُلْحِدَ له فلم نجد موضع قبره). الطبقات الكبرى لابن سعد. ج4. ص363].
9ـ قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في شربه السم. أخرجه البيهقي وأبو نعيم والطبراني وابن سعد بإِسناد صحيح [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن أبي السفر قال: نزل خالد بن الوليد الحيرة، فقالوا له: احذر السم لا تسقيكه الأعاجم فقال: ائتوني به، فأخذه بيده وقال: بسم الله وشربه، فلم يضره شيئاً. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ج3. ص125].
10ـ إِضاءة أصابع حمزة الأسلمي رضي الله عنه في ليلة مظلمة. أخرجه البخاري في التاريخ [أخرج البخاري في التاريخ عن حمزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا ظهرهم وما هلك منهم وإِن أصابعي لتنير). انظر تهذيب التهذيب ج3. ص30].
11ـ قصة أم أيمن وكيف عطشت في طريق هجرتها، فنزل عليها دلو من السماء فشربتْ. رواه أبو نعيم في الحلية [عن عثمان بن القاسم قال: (خرجت أم أيمن مهاجرة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إِلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت أن تموت من شدة العطش، قال: وهي بالروحاء أو قريباً منها، فلما غابت الشمس قالت: إِذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعتُ رأسي ؛ فإِذا أنا بدلو من السماء مدلَّى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إِذا كان حيث أستمكن منه تناولْتُه فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش، وما عطشْتُ بعدها. أخرجه أبو نعيم في الحلية ج2. ص67].
12ـ سماع بعض الصحابة سورة الملك، من قبر بعد أن ضرب خباء فوقه. رواه الترمذي [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة {تبارك الذي بيده الملك} حتى ختمها،فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله: إِني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر". أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، وقال: حديث حسن غريب].
13ـ تسبيح القصعة التي أكل منها سلمان الفارسي وأبو الدرداء رضي الله عنهما وسماعهما التسبيح. رواه أبو نعيم [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن قيس قال: (بينما أبو الدرداء وسلمان يأكلان من صحفة إِذا سبَّحتْ وما فيها)].
14ـ قصة سفينة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسد. أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية [عن محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ركبتُ البحر فانكسرتْ سفينتي التي كنت فيها، فركبْتُ لوحاً من ألواحها، فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل إِليَّ يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وأقبل إِليَّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به). أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة ج3. ص606، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأبو نعيم في الحلية ج1. ص368 وسفينة هو: قيس بن فروخ وكنيته أبو عبد الرحمن. ذكره ابن حجر في التهذيب ج4. ص125].
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير مما ورد عن كرامات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توالى ورود الكرامات الكثيرة على يد الأولياء في عهد التابعين وتابعي التابعين إِلى يومنا هذا، مما يصعب عده، ويضيق حصره [قال العلامة التاج السبكي في الطبقات الكبرى: للكرامة أنواع: النوع الأول إِحياء الموتى. 2ـ كلام الموتى. 3ـ المشي على الماء. 4ـ انقلاب الأعيان. 5ـ إِنزواء الأرض. 6ـ كلام الحيوانات والجمادات. 7ـ إِبراء العلل. 8ـ طاعة الحيوان. 9ـ طي الزمان. 10ـ نشر الزمان. 11ـ إِمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه.. إِلى أن عد خمسة وعشرين نوعاً. وذكر لكل نوع مثالاً وحكاية جرت للعلماء ومشايخ الصوفية فراجعه هناك تجده مفصلاً]، وقد ألف العلماء في ذلك مجلدات كثيرة، وصنف أكابر الأئمة منهم مصنفات في إِثبات الكرامة للأولياء، منهم: فخر الدين الرازي وأبو بكر الباقلاني، وإِمام الحرمين، وأبو بكر بن فورك، وحجة الإِسلام الغزالي، وناصر الدين البيضاوي، وحافظ الدين النسفي، وتاج الدين السبكي، وأبو بكر الأشعري، وأبو القاسم القشيري، والنووي، وعبد الله اليافعي، ويوسف النبهاني، وغيرهم من العلماء المحققين الذين لا يحصى عددهم، وصار ذلك علماً قوياً يقينياً ثابتاً، لا تتطرق إِليه الشكوك أو الشبهات.
وقد يتساءل بعضهم: لماذا كانت كرامات الصحابة على كثرتها أقل من كرامات الأولياء الذين جاؤوا بعد عصر الصحابة ؟!.. ويجيب على ذلك تاج الدين السبكي في الطبقات بقوله: (الجواب: ما أجاب به الإِمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين سئل عن ذلك، فقال: أُولئك كان إِيمانهم قوياً، فما احتاجوا إِلى زيادة شيء يقوون به، وغيرهم كان إِيمانهم ضعيفاً لم يبلغوا إِيمان أولئك فقووا بإِظهار الكرامات لهم) [جامع كرامات الأولياء للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ج1. ص20].

الحكمة من إِجراء الكرامات على يد الأولياء:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكرم أحبابه وأولياءه بأنواع من خوارق العادات، تكريماً لهم على إِيمانهم وإِخلاصهم، وتأييداً لهم في جهادهم ونصرتهم لدين الله، وإِظهاراً لقدرة الله تعالى، ليزداد الذين آمنوا إِيماناً، وبياناً للناس أن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية إِنما هي من صنع الله وتقديره، وأن الأسباب لا تؤثر بذاتها ؛ بل الله تعالى يخلق النتائج عند الأسباب لا بها، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

وقد يقول معترض: إِن تأييد الحق ونشر دين الله لا يكون بخوارق العادات، بل يكون بإِقامة الدليل المنطقي والبرهان العقلي.
فنقول: نعم لابد من نشر تعاليم الإِسلام بتأييد العقل السليم والمنطق الصحيح والحجة الدامغة، ولكن التعصب والعناد يدعوان إِلى أن تخرق العادات بالكرامات كما اقتضت حكمة الله أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات إِظهاراً لصدقهم، وتأييداً لهم في دعوتهم، وحملاً للعقول المتحجرة والقلوب المقفلة أن تخرج من جمودها، وتتحرر من تعصبها، فتفكر تفكيراً سليماً مستقيماً يوصلها إِلى الإِيمان الراسخ، واليقين الجازم. ومن هنا يظهر أن الكرامة والمعجزة تلتقيان في بعض الحِكَم والمقاصد، إِلا أن الفارق بينهما أن المعجزة لا تكون إِلا للأنبياء عليهم السلام، والكرامة لا تكون إِلا للأولياء، وكلُّ كرامة لولي معجزةٌ لنبي.

الفرق بين الكرامة والاستدراج:
لا بد من التنبيه إِلى الفرق بين الكرامة والاستدراج، وذلك لأننا نشاهد بعض الفسقة المنسوبين للإِسلام تجري على يديهم خوارق العادات؛ مع أنهم مجاهرون بالمعصية، منحرفون عن دين الله تعالى. فالكرامة لا تكون إِلا على يد وليٌّ، وهو صاحب العقيدة الصحيحة، المواظب على الطاعات، المتجنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {ألا إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهِمْ ولا هُمْ يحزَنُونَ . الذينَ آمنوا وكانُوا يتَّقونَ} [يونس: 62ـ63]. وأما ما يجري على يد الزنادقة والفسقة من الخوارق كطعن الجسم بالسيف وأكل النار والزجاج وغير ذلك، فهو من قبيل الاستدراج.

ثم إِن الولي لا يسكن إِلى الكرامة، ولا يتفاخر بها على غيره، قال العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير: (إِن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة، بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد، وحذره من قهر الله أقوى، فإِنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج.
وأما صاحب الاستدراج، فإِنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه، ويظن أنه إِنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها، وحينئذٍ يحتقر غيره، ويتكبر عليه، ويحصل له أَمْنٌ مِنْ مكْرِ الله وعقابه، ولا يخاف سوء العاقبة، فإِذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة، فلهذا قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إِنما وقع في مقام الكرامات، فلا جَرَمَ أن ترى المحققين يخافون من الكرامات، كما يخافون من أنواع البلاء، والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه) ثم ذكرها حتى عدَّ إِحدى عشرة حجة، نذكر منها واحدة.
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: (إِنَّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً لكرامة بسبب عمله، حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومَنْ كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً، ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير، وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور، وكلُّ معارفهم وعلومهم في مقابلة عزته حيرةٌ وجهلٌ، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالحُ يرفَعُهُ} [فاطر: 10]. فقال: علامةُ أن الحق رفع عملك أن لا يَبْقى عندك [أي عملك] فإِن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع، وإِن لم يبق معك فهو مرفوع) ["تفسير الرازي" ج5. ص692].

وعلى هذا فإِننا حين نرى أحداً من الناس يأتي بخوارق العادات لا نستطيع أن نحكم عليه بالولاية، ولا يمكن أن نعتبر عمله هذا كرامة حتى نرى سلوكه وتمسكه بشريعة الله. قال أبو يزيد رحمه الله تعالى: (لو أن رجلاً بسط مُصلاَّه على الماء وتربَّعَ في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي) ["اللمع" للطوسي ص400].

موقف الصوفية من الكرامات:
إِن بعض المنحرفين عن الصوفية يدَّعي أن مقصد الصوفية من سيرهم هو الوصول إِلى الكرامات [من بينهم عبد الرحمن الوكيل الذي دفعه الحقد الدفين والخلق الذميم إِلى التهجم على السادة الصوفية وتزييف كلامهم والدس عليهم، فجمع الأشياء التي دُسَّتْ على الصوفية وجعلها في كتاب له] وهم في هذا إِنما يُترجمون عما في نفوسهم من أمراض خبيثة وعلل دفينة ؛ مع أننا نرى الصوفية يهتمون بتزكية النفس وتخليصها من صفاتها المذمومة كالرياء والنفاق، وتحليتها بالصفات العالية، أن يكون سيره معهم بعيداً عن العلل والغايات، وألا يبتغي إِلا وجه الله تعالى ورضاه. كما نراهم يستترون من الكرامة بعداً عن شبهة الرياء.

قال الشيخ أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: (من لم يكن كارهاً لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهو في حقه حجاب، وسترها عليه رحمة، فإِنَّ من خرق عوائد نفسه لا يريد ظهور شيء من الآيات وخوارق العادات له، بل تكون نفسه عنده أقل وأحقر من ذلك، فإِذا فَنِيَ عن إِراداته جملةً فكان له تحقق في رؤية نفسه بعين الحقارة والذلة، حصلت له أهلية ورود الألطاف، والتحقق بمراتب الصديقين) [نور التحقيق لحامد صقر ص127].

وقال علي الخواص رحمه الله تعالى: (الكُمَّل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلاً وخوفاً لاحتمال أن تكون استدراجاً) [اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ج2 ص113].
ثم إِن الصوفية يمنعون إِظهار الكرامة إِلا لغرض صحيح ؛ كنصرة شريعة الله أمام الكافرين والمعاندين [كما حدث مع الشيخ محي الدين بن عربي في قصته مع الفيلسوف، وهو يرويها لنا بقوله: (حضر عندنا سنة ست وثمانين وخمسمائة فيلسوفٌ ينكر النبوة على الحد الذي يثبتها المسلمون، وينكر ما جاءت به الأنبياء من خرق العوائد وأن الحقائق لا تتبدل، وكان زمن البرد والشتاء وبين أيدينا منقل عظيم يشتعل ناراً، فقال المنكر المكذب: إِن العامة تقول: إِن إِبراهيم عليه السلام أُلقي في النار فلم تحرقه، والنار محرقة بطبعها الجسوم القابلة للاحتراق، وإِنما كانت النار المذكورة في القرآن في قصة إِبراهيم عبارة عن غضب نمرود وحنقه، فهي نار الغضب. فلما فرغ من قوله قال له بعض الحاضرين [أي الشيخ محي الدين نفسه]: فإِن أريتك أنا صدق الله في ظاهر ما قاله في النار أنها لم تحرق إِبراهيم، وأن الله جعلها عليه ـ كما قال ـ برداً وسلاماً، وأنا أقوم لك في هذا المقام مقام إِبراهيم في الذبِّ عنه ؟ فقال المنكر: هذا لا يكون، فقال له: أليست هذه النار المحرقة ؟ قال: نعم. فقال: تراها في نفسك، ثم ألقى النار التي في المنقل في حِجْر المنكر، وبقيتْ على ثيابه مدة يقلبها المنكر بيده، فلما رآها لم تحرقه تعجب، ثم ردها إِلى المنقل، ثم قال له: قرّبْ يدك أيضاً منها، فقرَّبَ يده فأحرقته. فقال له: هكذا كان الأمر، وهي مأمورة، تحرق بالأمر وتترك الإِحراق كذلك، والله تعالى الفاعل لما يشاء. فأسلم ذلك المنكِرُ واعترف). الباب الخامس والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص371] وكإِبطال سحر الكافرين والضالين أو الفسقة المشعوذين الذين يريدون أن يضلوا الناس عن دينهم ويشككوهم في عقائدهم وإِيمانهم [ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية من أنَّ صوفياً ناظر برهمياً، والبراهمة قوم تظهر لهم خوارق لمزيد الرياضات، فطار البرهمي في الجو، فارتفعت إِليه نعل الشيخ ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه حتى وقع على الأرض منكوساً على رأسه بين يدي الشيخ والناس ينظرون. انظر الفتاوى الحديثية لابن حجر ص222]. أما إِظهارها بدون سبب مشروع فهو مذموم، لما فيه من حظ النفس والمفاخرة والعجب.

قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: (ولا يخفى أن الكرامة عند أكابر الرجال معدودة من جملة رعونات النفس، إِلا إِنْ كانت لنصر دين أو جلب مصلحة، لأن الله تعالى هو الفاعل عندهم، لا هُمْ، هذا مشهدهم، وليس وجه الخصوصية إِلا وقوع ذلك الفعل الخارق على يدهم دون غيرهم ؛ فإِذا أحيا كبشاً مثلاً أو دجاجة فإِنما ذلك بقدرة الله لا بقدرتهم، وإِذا رجع الأمر إِلى القدرة فلا تعجب) [الباب الخامس والثمانون والمائة من الفتوحات المكية. كذا في اليواقيت والجواهر للشعراني ج2. ص117].

ثم إِن الصوفية يعتبرون أن أعظم الكرامات هي الاستقامة على شرع الله تعالى.
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (واعلم أن من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات، والحفظ من المعاصي والمخالفات) ["الرسالة القشيرية" ص160].

وذُكر عند سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى الكرامات فقال: (وما الآياتُ وما الكراماتُ ؟! أشياء تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكرامات أنْ تُبدّلَ خُلُقاً مذموماً من أخلاق نفسك بخُلق محمود) ["كتاب اللمع" للطوسي ص400].

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: (الكرامة الحقيقية إِنما هي حصول الاستقامة، والوصول إِلى كمالها. ومرجعها أمران: صحة الإِيمان بالله عز وجل. واتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ؛ فالواجب على العبد أن لا يحرص إِلاّ عليهما ولا تكون له همة إِلا في الوصول إِليهما. وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين، إِذ قد يُرْزَقُ بها من لم تكتمل استقامته، وقد يُرْزَق بها المستدرَجون) وقال: (إِنما هي كرامتان جامعتان محيطتان ؛ كرامة الإِيمان بمزيد الإِيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوي والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إِلى غيرهما فهو عبد مُفْتَرٍ كذاب، ليس ذا حظ في العلم والعمل بالصواب ؛ كمن أُكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إِلى سياسة الدواب وخلع الرضا) [نور التحقيق ص128].

وقال الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (واعلم أن الكرامة على قسمين: حسية ومعنوية، ولا تعرفُ العامةُ إِلا الحسية ؛ مثل الكلام على الخاطر، والإِخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية، والأخذ من الكون، والمشي على الماء، واختراق الهواء، وطي الأرض، والاحتجاب عن الأبصار، وإِجابة الدعاء في الحال، ونحو ذلك. فالعامة لا تعرف الكرامات إِلا مثل هذا. وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إِلا الخواص من عباد الله تعالى، والعامة لا تعرف ذلك وهي أن يُحفظ على العبد آداب الشريعة، وأن يُوفَّق لفعل مكارم الأخلاق واجتناب سفاسفها، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقاً في أوقاتها والمسارعة إِلى الخيرات، وإِزالة الغل والحقد من صدره للناس والحسد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس، ومراعاة حقوق الله تعالى في نفسه وفي الأشياء، وتفقد آثار ربه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها، فيتلقاها بالأدب إِذا وردتْ عليه ويُخرجها وعليه حلة الحضور مع الله تعالى، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية التي لا يدخلها مكر ولا استدراج) [الباب الرابع والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص369].

ثم إِن السادة الصوفية لا يعتبرون ظهور الكرامات على يد الولي الصالح دليلاً على أفضليته على غيره. قال الإِمام اليافعي رحمه الله تعالى: (لا يلزم أن يكون كلُّ مَنْ له كرامة من الأولياء أفضلَ من كل من ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض مَنْ ليس له كرامة منهم أفضل من بعض مَنْ له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، ودليلاً على صدقه وعلى فضله لا على أفضليته، وإِنما الأفضلية تكون بقوة اليقين، وكمال المعرفة بالله تعالى) [كتاب نشر المحاسن الغالية لعبد الله اليافعي ص119].

كما أن الصوفية يعتبرون أن عدم ظهور الكرامة على يد الولي الصالح ليس دليلاً على عدم ولايته.

قال الإِمام القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه ولياً) وقال شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في شرحه لرسالة القشيري عند هذا الكلام: (بل قد يكون أفضل ممَّنْ ظهر له كرامات، لأن الأفضلية إِنما هي بزيادة اليقين لا بظهور الكرامة) [الرسالة القشيرية ص159].
...............
 
المصدر : حقائق عن التصوف – الشيخ عبد القادر عيسى


الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...