السبت، 18 أبريل 2020

مفهوم الكتابة عند محيي الدين بن عربي


مفهوم الكتابة عند محيي الدين بن عربي

محمّد خطّاب

باحث وأكاديمي من الجزائر





إن ظاهرة الكتابة عند ابن عربي مهمة جدا ولعلها مركزية في نصوصه العرفانية، فهي تعني الممارسة الحرة والفنية والواعية أيضا للغة وللمكتسب اللساني الذي يرتبط به عمقيا: «فالشيخ الأكبر لا يقارب مفاهيمه بناء على النظر الفكري ولا يخضعها للتنظيم المنهجي، الذي قد نصادفه لدى المتكلمين أو الفلاسفة، وإنما يحتكم، في الغالب الأعم، إلى تجربته الروحية، ويترقب كتابته مما يرد عليه من أحواله ومقاماته»(1).
وسيخضع تحليلنا لهذه الظاهرة من مواقع مختلفة، منها موقع المفهوم للكتابة في حدّ ذاتها كحدث لساني داخل ثقافة معينة، وكذلك فعل الكتابة الصوفية التي تختلف عمقيا عن غيرها في حقول مختلفة، وأيضا من موقع الكتابة في شكلها الوجودي الصرف والمتعلقة بالمفهوم العام المرتبط بالغيب.
هذه مواقع ننظر منها إلى فعل الكتابة كما يناقشه ابن عربي في أكثر من مناسبة. لكن فعل الكتابة في حدّ ذاته له ارتباطاته بأفعال أخرى تحددها اللسانيات الحديثة في شكل نظري بحت، منها الكلام، وهو الحدث الضمني الموجود بالقوة في كل كتابة إنسانية أووجودية، لكن مقاربة الكلام في ذاته أيضا محفوف بنوع من المخاطر، يتعلق الأمر بمفهوم الكلام الإلهي إذا قيس بالكلام الإنساني أوالبشري بصورة أوضح. الكلام له علاقته بالصمت في عرفانية ابن عربي، لأن المسألة معقودة بتجربة أكبر هي تجربة التصوف التي لا تسمح بالتمايز بين سائر المفارقات. سنحاول مناقشة حدث الكتابة أولا في علاقته بالكلام، والكلام في صوره المختلفة والرمزية.
في كتابه روح القدس، والذي يُعدُّ وثيقة خاصة ملتبسة بحياة الشيخ الشخصية، يلفت ابن عربي الانتباه إلى علاقته بالتكلم أو بالكلام، فمن خلال تجربته الصوفية الكبيرة يبدو له الكلام زائدا عن الحاجة، إذ المتصوف في طريق تحقيقه للمعرفة يصفو كلامه وتدق عباراته، وهو يقول في ذلك: «فإني كنت شديد القهر لنفسي في الكلام»(2) وهذا يعني أن التجربة أكبر من أن يستوعبها لسان أو نطق، فهي تتجاوز لحظة الكلام وتستلزم الصمت. الجدل بين الكلام والصمت عند ابن عربي يأخذ بُعدا فلسفيا ووجوديا، فهو ينطلق من تجربته التي تظل حية وواعية بذاتها، وتظل أيضا المعين الذي لا ينضب بالنسبة إليه كعارف في طريق المعرفة الإلهية التي لا نطق معها. إننا من خلال القراءة المتنوعة لبعض المتون الصوفية لابن عربي خاصة، لاحظنا مدى التأثر الشديد بصاحب المواقف والمخاطبات الذي جسد فكرة الصمت في مقابل شهود المعنى الإلهي الذي لا كلام معه. لقد عرف كيف يستفيد ابن عربي من غيره ولو بطريق الرمز والإيماء والإشارة البعيدة. إنه لا يصرّح بذلك ولكن نصه صريح بمظاهر التأثر الشديد.
ففي كتابه مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية, يلمح ابن عربي إلى علاقة الصمت بالكلام في تجربته الصوفية والتي تتضمن بالضرورة تجربة جمالية لا تفارقها لأنها تمثل نسغها ودمها الذي يسري فيها. تجربة المشاهد تركز على التلميح دون التصريح وعلى الإشارة دون العبارة: «وقال لي: خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور»(3) وهذا الستر له سند من حياة اللغة في حدّ ذاتها، ومن النص المركزي الذي هوالقرآن الكريم: «ثم قال لي: أنظرني في النظم المحصور، وهوموضع الرمز، ومحل للغز الأشياء. ولوعلم أن في شدة الوضوح لغز الأشياء، ورمزها، لسلكوه. أنزلت الآيات النيرات دلائل لمعان لا تفهم أبدا»(4) وهوتعبير دقيق عن معاني قد صاغها النفري بقوة العبارة وجمال البلاغة في المواقف والمخاطبات، مثل قوله: «وأنا من وراء اللسان»(5) فكون المعنى الذي تختزله الرؤية العرفانية خافيا ومستورا وغائبا دلّ على عجز البيان أواللسان، ثم يصبح الصمت سيد الموقف لمّا تتجلى الحقائق في صورتها القاهرة: «يا عبد من رآني جاز النطق والصمت»(6).
دلّ اشتغال ابن عربي على مضمون الكلام والصمت بفاعلية أكثر إدهاشا للقارئ المعاصر الذي يرى بأن ما تقوله الفلسفة الحديثة قد استبصر به ابن عربي عن طريق الكشف، وهذا ما سميناه بالتعبير عن المطلق الذي تشترك فيه ذوات كثيرة لا تحُدُّها الأمكنة ولا الأزمنة، أوكما قال رودولف أوتوعن التصوف من حيث هومطلق لازمني ولا تاريخ له، إنه واحد في الزمان والمكان.(7) إن ابن عربي في نص سابق حول الحضور والغياب يوحي بمسألة تجذر الموقف الجمالي المعاصر في الفكر الإنساني الذي يشتغل بدوره على هذه الثنائية الصعبة. نحن سنشتغل على مشهد مهم هومشهد نور الصمت بطلوع نجم السلب الذي يقول في مقدمته: «أشهدني الحق بمشهد نور الصمت، وطلوع نجم السَلْبِ، فأخرسني، فما بقي في الكون موضع إلا ارتقم بكلامي، وما سطر كتاب إلا من مادتي وإلقائي»(8) وهي مقدمة تعبر عن حقيقة الصمت في مقابل الكلام. الصمت الذي يعني التكلم. فنور الصمت يأتي من كون الكلام صفة عارضة: «فالعبد صامت بذاته متكلم بالعرض»(9) الطرح الذي طرحه ابن عربي يتجاوز المعنى التقليدي للصمت، فهو معني بالصورة الرمزية حيث الصمت له حضوره في الوجود. فالذي خلق صفة الكلام هو الله، والمتكلم في الحقيقة هو الله لأنه خالق هذا الكلام، أنطقه الله تعالى فهومتكلم بالعرض، أما في حقيقته فهوصامت. ثم ينسحب مفهوم الصمت جماليا إلى أقاصي أخرى من العرفان الأكبري حيث يتجلى الكلام فقط من حيث كونه مؤثرا وفاعلا، وهو الصادر عن الله الخالق بقدرة كن: «وعن الكلام صدرنا وهو قوله: كنْ فكنّا، فالصمت حالة عدمية والكلام حالة وجودية»(10) ومن هذا الباب فقط تبدو صورة الكلام من حيث علاقته بالذات الإلهية مصدر الوجود، وليس المقصود بالكلام مجرد معناه الطبيعي، بقدر أن المقصود هو النطق بالكلمة، وحاصلها هوعالم الموجودات. ولو عدنا إلى نص المشهد المذكور سابقا لوجدنا أن فكرة الصمت تتجاوز المعطى العام الذي يعرفه الناس لتتلبس بالمعنى الوجودي الخالص الذي يخص الذات الإنسانية وبخاصة العارف: «ثم قال لي: الصمت حقيقتك»(11) وتتجلى هذه الحقيقة في حدث الكلام، وهذا يجعل منطوق النصوص ذات طبيعة جدلية ويدخلنا في عملية تأويل صرفة: «ثم قال لي: على الكلام فطرتك، وهو حقيقة صمتك. فإذا كنت متكلما فأنت صامت»(12).
لوأمكن العودة إلى المصادر الأساسية في الفكر الغربي خاصة نجد صدى كبيرا لمثل هذه المعاني منعكسة في الكتابات الفلسفية ذات الجذور العميقة. بعض الفلاسفة ممن التزموا خط التفكير في الإنسان ومشاغله القصوى، مثل هايدجر، لم يكتفوا فقط بالحديث العام عن القضايا التقليدية التي تحدث عنها الفكر البشري منذ القديم، بل شعروا بالحاجة إلى التعبير عن المشاغل الراهنة والأساسية التي لها علاقة بالشرط الإنساني وبخاصة مسألة اللغة التي قال عنها هايدجر بأنها: «بيت الكائن.»(13) إنها مسألة معقدة لأنها تمثل شبكة من العلاقات المتناقضة، ففي اللغة نجد الوجود بأكمله بما في ذلك الوجود الإنساني. ونقصد بالوجود العياني المادي أوالمعنوي، فعن طريق اللغة يوجد الإنسان، وهوما كان يعبر عنه ابن عربي في قضية الكلام والصمت. إننا نحاول مقاربة مسألة الكتابة عن طريق مصادرها الأساسية والتي تتمثل أولا وقبل كل شيء في الكلام، والكلام ليس ظاهرة بسيطة يمكنها أن تحلل بكيفية عادية، بل هو ظاهرة معقدة له صلة بالوجود البشري ككل، والكلام أيضا ليس صفة بشرية بل هوصفة إلهية محضة، وبيان طبيعة صفة الكلام الإلهي معنى يستغرق كتبا في التصوف والفكر والفلسفة إن لم نقل أزمنة وجهودا وأجيالاً. مقاربة الفلسفة انطلاقا من بعض رموزها الكبرى تَعِدُنا بالكثير فيما يتعلق بجماليات اللغة بكل متعلقاتها في باب العرفان الإسلامي. ودراسة ابن عربي لهذا الشأن دراسة تتفرع على أوجه وأبواب وتفاريع مختلفة، فهولم يناقش هذه المسألة بطريقة كلاسيكية عادية، بل رأى إلى أوجهها الخفية واطلع عليها رمزا وأشار إلى كل ذلك إشارة، وعلى الدارس حينئذ أن يتفطن للعبة الكلمات التي تعيد صياغة الفكر من منظور جديد.
ما هي أطروحة ابن عربي في الكلام والكتابة والصمت؟ كيف تتجلى الجماليات في المسائل التي طرحها داخل منظومة العرفان؟ كيف تشكلت هذه المسائل لتأخذ صفة الجمالية؟ وهل هذه القضايا لها راهنيتها ومستقبلها؟ كيف يمكن الحديث عن أبعاد هذه المسائل على المستوى الروحي والمعرفي؟ هذه جملة من الأسئلة التي ستكون الإجابة عنها تشكل مادة هذه الدراسة. وقد دلّت الصفحات السابقة رؤية تبسيطية لبعض هذه المسائل التي ستظلّ حاضرة دائما في صلب النقاشات المعاصرة.
في فلسفة ابن عربي وتصوفه نجد إرهاصاتٍ لمعانٍ تدلّ دائما على ما هوآتٍ. لا يتحدث ابن عربي عمّا مضى بشكل ميت، بل يستعمل ما هوحيٌّ في اللغة لكي يتجاوز عصره، وهذا يبرّر حقا مدى الاهتمام الكبير بعرفانيته على جميع المستويات. في الفتوحات المكية نجده يقول عن الكلام: «فما عندنا في الوجود صامت أصلاً»(14) أي كل شيء يتكلم بالضرورة، وإن لم يقصد الكلام فقد قصد معنى النطق بالدلالة، نطق باللسان أوبغير اللسان. هكذا يتحدث ابن عربي أيضا في كتابه المشاهد: «تكلمت أوصمت فأنت متكلم»(15) أو بتعبير هايدجر الذي يتقارب مع مفهوم ابن عربي: «نحن نتكلم باستمرار حتى لولم ننطق بكلمة»(16) والدلالة متقاربة إن لم نقل بأنها واحدة، ولكن التعبير عنها مختلف بحسب موقع كل واحد منهما في لغته. يحاول ابن عربي أن يوحي بدلالة الوجود الذي يتكلم بالضرورة. فالعالم بما فيه من أشياء وموجودات لا ينقطع عن الكلام أبدا، فدلالته مستمرة ما دام موجودا، وهذا حاصل ما يراه العارف في هذا الوجود. فعلى المستوى الجمالي نلاحظ أن ابن عربي يوسع من دائرة المعنى الخاص بالكتابة والكلام والصمت بحكم كونه متضمنا في عملية الكلام والدلالة، ويجعل هذه الدائرة تنداح إلى دوائر أخرى عبر القراءة التي تستمر مع القارئ.
ربما يحق لنا أن نسأل كيف يمكن أن يتشكل فعل الكلام في الوجود؟ لا شك أن بداهة الإجابة ستكون متمحورة حول فعل الكتابة التي يقول عنها ابن عربي بشكل أخّاذ ورمزي: «فإن الكتابة أمر وجودي فلا بد أن يكون متناهيا»(17).
المرحلة الجديدة في فعل الكتابة تبدأ من هذا الوجود الذي يتحدث عنه ابن عربي بشكل رمزي. ولكن طبيعة المقاربة لظاهرة الكتابة لا بدّ أن تبدأ من المعنى التقليدي للكتابة، لأن هذا الفعل الرمزي سيتسع ليدل على مفهوم أوسع وهي كتابة الوجود الذي يتصل بعالم الدلالة ذاتها، إذ : «العالم ليس فقط مكانا لأشياء ومواد وأشخاص وأحداث، ولكنه صور دالة من جهة، ورمزية من جهة أخرى»(18) وسنحاول أن نحيل على نص في الفتوحات يجمع بين دلالتين مختلفتين للكتابة استرعى انتباه الدارسين، لأنه حمّال أوجه، وفيه يقول ابن عربي: «اعلم أن الكلام على قسمين: كلام في موادّ تسمى حروفاً وهوعلى قسمين: إما مرقومة أعني الحروف وتسمى كتاباً، أومتلفظاً بها وتسمى قولاً وكلاماً. والنوع الثاني كلام ليس في موادّ، فذاك الكلام الذي لا يكون في مواد يُعلم ولا يقال فيه يفهم فيتعلق به العلم من السامع الذي لا يسمع بآلة بل يسمع بحقٍ مجردٍ عن الآلة، كما إذا كان الكلام في غير مادة فلا يسمع إلا بما يناسبه»(19) فهو ميز على مستوى الكلام بين نوعين، أحدهما متضمن في مادة معلومة، فإذا كان مرقوما فهوالكتابة والرقم هنا هو التسطير التي قال عنه بول ريكور: «هو تعقل مضموني خالص لفعل التكلم»(20) أما إذا كان شفويا فهو قول أوكلام. وأما القسم الثاني فهو الذي يتضمن نوعا من الغموض كما لاحظ أحد الدارسين(21) فقط لأن المسألة لها علاقة بدلالة النوع الثاني من الكلام الذي لا يستحيل إلى مادّة أوشكل أوصورة. إن عملية الفهم مقترنة بسماعه دون آلة ولا يشترط فيه أن توجد وسيلة إلى ذلك، لأنه في الحقيقة كلام رمزي يتجاوز معطيات الحس الإنساني المرتبط بالوسائل والآلات المؤدية إلى الفهم. وهذا السماع الذي يتجاوز الصورة التقليدية ليس معطى عاما بل هو لخصوص العارفين الذين لا يتقيدون بالصورة التي يشتغل بها العوام أو الغير.
إن ابن عربي كثيرا ما يشتغل على المعطيات غير المادية لآليات التفكير عند الإنسان أو البشر عموما، لأنه معنيّ بصورة العارف أوالإنسان الكامل الذي اكتملت لديه المعطيات البشرية وغير البشرية للفهم والتلقي عن الإله، وهذا ما قام بشرحه في مقام متجدد لما تحدث عن الخطاب الإلهي مستدلا بقوله تعالى: ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَومِن وَرَاء حِجَابٍ أَويُرْسِلَ رَسُولًا “(الشورى/51)، مفرقا بين مقامات الخطاب التي جعلها في الوحي أومن وراء حجاب أوإرسال الرسل، ومقام من وراء الحجاب يكاد يشتبه بالكلام الذي ليس في مواد، حيث يقول عنه ابن عربي: «وأما قوله تعالى “أَومِن وَرَاء حِجَابٍ” فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي عليه فيفهم منه ما قصد به من أسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي.»(22) والتجلي ليس شرطا فيه أن يكون قوليا، والقول نفسه عند ابن عربي قولان: «قول حال وقول خطاب»(23).

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...