‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث ودراسات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أبحاث ودراسات. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 11 أبريل 2019

موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )



موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )





وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم الفكرية التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق والصنعة والصانع فأي كفر أعظم من هذا وأي نقص ينسب إلى الله أعظم من ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، والصوفية أهل الحق براء من ذلك .

فوحدة[7]الوجود التي يرمز إليها بعض الصوفية أمر معنوي وعلم رباني يتعلق بتحقيق الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله عرفوا ذلك وتحققوا فيه بنور رباني وقد قيل فيه ( أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ، وعرفوا ذلك أيضاً بتحققهم بالتبعية المحمدية حيث قال الله لنبيه في كتابه :

" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "[8]

... الآية فالبصيرة المشار إليها هي الؤية القلبية والمشاهدة الباطنية لحقائق الأمور وبواطن الأشياء فيكتسب صاحبها علماً لا مطمع للحصول عليه بالفكر أو بالعقل أو النظرة الحسية ،فنظر رحمك الله إلى قوله تعالى لنبيه :

" عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "

... الآية فليس هذا النور وتلك المشاهدة القلبية خاصة بالنبي r وآله ولكن يشاركه في هذا المشرب من اتبعه بحق وهم خواص أمته فمن لم يتحقق بتلك التبعية المحمدية في الأقوال والأفعال والأحوال ، أو قل في ( الإسلام والإيمان والإحسان ) أو قل في (عمل الظواهر من الوقوف عند الحدود ، وفي عمل البواطن من التوكل والرضا والتعلق بالمعبود ، وفي عمل السرائر من الأذواق والمعارف والتحقق بأسرار الوجود ) وإلا فلا مطمع له بالوصول إلى مراتب الكمال ومقامات الرجال لأنه مقيد بالوهم والخيال وبالنفس الأمارة التي تتغطرس وتتكبر فتظن أنها تخرق الأرض وتبلغ الجبال طولاً وما هؤلاء بالنسبة للرجال الكمل من ذوي المعارف والأسرار إلا بمنزلة الصبيان .

فليس المراد بوحدة الوجود عند هؤلاء الصوفية وجودين قديمين اتحدا ولا قديم وحادث اتحدا تعالى الله عن ذلك فإنه سبحانه لا يحل في شئولا يمازج شيئاً ولا شئ في ذاته في خلقه ولا من خلقه في ذاته ، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود ولا يحمله شئ ولا هو حامل لشيء استوى على عرشه بذاته استواء يليق به ، مطلق في ذاته وصفاته وأفعاله لا تقوم صفاته إلا بذاته ولا تفارق ذاته صفاته تنزه عن أوصاف خلقه قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "

وكل من يتكلم في التصوف من غير أن يتذوقه ويتحققه وينصب نفسه قاضياً وحاكماً قاسياً على أولياء الله من رجال التصوف الإسلامي ويصدر حكمه فيهم بما عنده من الجهل بحقائقهم ويؤول كلامهم الذي لا يفهم معناه على مراده هو ، لا على مرادهم هم إنما ذلك لخبث في طويته أو جهل مركب أو هما معاً فلا يؤخذ بقوله في شأن الصوفية والتصوف الإسلامي لأنه جاهل بذلك إذ ليس من اختصاصه .

فقد قال أحد الصالحين ( إن كل من يتكلم في التصوف أو يحكم عليه من غير أن يعرف حقائقه ويتذوق معانيه إنما هو جاهل بالتصوف والصوفية فمثله كمن رأى جرة مملؤة مغلقة ورأى النحل يحوم حولها فحكم على ما في باطنها من تحويم النحل عليها من غير أن يتحقق بما فيها ) .

والنحل هو الإشارات والرموز التي توحي بأن هناك شيئاً لا يستطيع من يراه التعبير عنه لدقته وغرابته بين العامة لأنه من أسرار الله تعالى ، كما قال ابو هريرة رضي الله عنه ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني هذا البلعوم ) صحيح رواه البخاري وقال الإمام زين العابدين :-

إني لأكتم من علمي جواهره        كيلا يرى ذاك ذو جهل فيفتـنا

وقد تقدم في هذا أبو الحسن    إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يارب جوهر علم لو أبوح به        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي     يرون أقبـح ما يأتونـه حسنـا

وأما الأشخاص الذين حكموا على ما في الجرة خطأ فهم الذين يتكلمون في التصوف بغير علم ولا تحقق ويزعمون أنه على علموان لهم يداً على أهل الله وأوليائه وهم مخطئون لأنهم لم يعرفوا التصوف ولم يلموا بمصطلحاته ورموزه وعباراته.

وقد قال الشيخ محي الدين بن عربي في الباب 314 من الفتوحات المكية : " لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته ، والملك عن ملكيته ، ويتحد بخالقه تعالى ، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً ، وصار الحق خلقاً ، والخلق حقاً ، وما وثق أحد بعلم ، وصار المحال واجباً ، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً " كما قال في ذلك شعراً :

ودع مقالة قوم قال عالمهم        بأنه بالإله الواحـد اتحـدا

الاتحاد محال لا يقول بـه           إلا جهول به عن عقله شرداً

وعن حقيقته وعن شريعته          فاعبد إلهك لا تشرك به أحدا

فانظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة ، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه ، وإما فهم على غير حقيقته... فليتقالله من يطلق لسانه على أهل الله تعالى ( راجع اليواقيت والجواهر جـ1 ص80 –81 ) ، وهذا أيضاً غير ما أشار إليه الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات جـ4 ص372-379 (ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له) .

وقد قال الشيخ علوان الحموي ( ت 936هـ ) في أحكام النظر صـ187 ومن ذلك ما أثر من كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه. فقال معلقاً على المعنى : مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء ، ولا يحل فيه شيء ، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فاوله .

ومن التأويل الواعي ما قاله الشيخ ابن تيميه : ( في مجموعة الرسائل والمسائل صـ 86 ) : " إذا قال قائل إلا ورأيت الله فيه " ، أو قبله وبعده ، بمعنى ظهور الصانع آثار الصانع في صنعته .

فهذا القول صحيح ـ بل القرآن كله مبنى على هذا ، وهو سبحانه نور السموات والأرض

أما الشيخ الهجويري (ت. 470هـ) في كتابه ( كشف المحجوب صـ115) تعليقاً على هذه العبارة فقد قال : " إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع " وقال أحد العارفين : ( أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص البصر ، والشهود من خصائص البصيرة ) ن فليتدبر ذلك من يهاجمون الصوفية ، وليتعظوا بمقولة الشيخ ابن تيمية ، وغيره من أهل المعرفة والبصيرة .

فعلى كل حال سنترك كل من يطوي خبثاً وإساءة لأولياء الله الذاكرين الله كثيراً من رجال التصوف الإسلامي سنتركه إلى الله يوم تنكشف الأستار ، وتبرز الأسرار فيعرف حين ذلك ما عندهم من الحقائق وما عنده من الخيال ، ولكن بعد أن يقطف ثمرة الخسران من القطيعة والحرمان ويندم حين لا ينفعه الندم . قال عليه الصلاة والسلام في شأن الذاكرين حديثاً له معناه ( لا يتحسر أهل الجنة في الجنة إلا على ساعة مرت في الدنيا لم يذكروا الله فيها ) وقال تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) سورة الرعد / 28 .

فماذا نقول لأمثال هؤلاء إلا (أنهم نيام عن الحقائق فإذا ماتوا انتبهوا) فبدلاً من أن يثوبوا إلى رشدهم ويذكروا ربهم ويصحبوا هؤلاء الصادقين الذن امر الله بصحبتهم قال تعالى :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "[9]

فبدلاً من ذلك أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم لتمطر على الذاكرين والصالحين مطر السوء فرحماك اللهم فأنت أرحم الراحمين .

بما سبق لخص أحد المفكرين نشأة التصوف في الإسلام ويؤيد هذا الرأي عن نشوء التصوف ما ذكره العلامة القشيري حيث يقول الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في رسالته ( الرسالة القشيرية )[10] :-

( أعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله r لم يتسم أفضلهم في أجيالهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله r إذ لا فضيلة لهم فوقها فقيل لهم ، ( الصحابة ) ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة ( التابعين ) ، ورأوا ذلك أشرف سمة ، ثم قيل لمن بعدهم ( أتباع التابعين ) ، ثم أختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ( الزهاد والعباد ) ، ثم ظهرت البد وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم ( الصوفية ) واشتهر هذا الأسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة .

وهكذا يتبين لنا أن التصوف نشأ مع اللإسلام وولد معه ، لأنه جزء منه وليس بشيء زائد عليه بل هو التطبيق العملي والجانب الروحي منه ، وهو لا يمت بصلة إلى ما يقوله أعداء الإسلام عنه أنه مأخوذ عن الأمم الأخرى ، بل ما هو في واقع الأمر إلا حال النبي r وآله والقرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية ، وما الصوفي إلا المسلم الذي يكون في حاله مع الله ومع الناس أقرب شئ إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصفوة أصحابه . 
...

المصدر: الصوفيــة والتصــوف في ضوء الكتاب والسنـة

تأليف الشيخ السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي

التصوف .. تعريفه .. اشتقاقه .. نشأته .. أهميته



التعريف بالتصوف





1ـ تعريفه. 2ـ اشتقاقه. 3ـ نشأته. 4ـ أهميته.

تعريف التصوف

قال القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى:

(التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية) [على هامش "الرسالة القشيرية" ص7 توفي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري سنة 929هـ].

ويقول الشيخ أحمد زروق رحمه الله:

(التصوف علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول "علم التوحيد" لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك) ["قواعد التصوف" قاعدة 13 ص 6 لأبي العباس أحمد الشهير بزروق الفاسي، ولد سنة 846هـ بمدينة فاس، وتوفي سنة 899هـ في طرابلس الغرب].

قال سيد الطائفتين الإمام الجنيد رحمه الله:

(التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى المدني ص22. توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].

وقال بعضهم:

(التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى المدني ص22، توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].

وقال أبو الحسن الشاذلي رحمه الله:

(التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية) ["نور التحقيق" للعلامة حامد صقر ص93. توفي أبو الحسن سنة 656هـ في مصر].

وقال ابن عجيبة رحمه الله:

(التصوف: هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة) ["معراج التشوف إلى حقائق التصوف" لأحمد بن عجيبة الحسني ص4].

وقال صاحب "كشف الظنون":

(هو علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم) إلى أن قال:

علم التصوف علمٌ ليس يعرفه إلا أخو فطنةٍ بالحق معروفُ

وليس يعرفه مَنْ ليس يشهده وكيف يشهد ضوءَ الشمسِ مكفوفُ

["كشف الظنون" للعلامة حاجي خليفة ج1/ص413 ـ 414].

وقال الشيخ زروق في قواعد التصوف:

(وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه) ["قواعد التصوف" ص2].

فعماد التصوف تصفية القلب من أوضار المادة، وقوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم، فالصوفي من صفا قلبه لله، وصفتْ لله معاملته، فصفت له من الله تعالى كرامته.



اشتقاق التصوف
كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، فمنهم من قال: (من الصوفة، لأن الصوفي مع الله تعالى كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (إنه من الصِّفَة، إذ جملته اتصافٌ بالمحاسن، وترك الأوصاف المذمومة) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (من الصفاء)، حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى:

تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقاً من الصوف

ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي

["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (من الصُفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف) حيث قال تعالى: {واصبِرْ نفسَك مع الذين يدعونَ ربَّهم...} [الكهف: 28].

وأهلُ الصُفَّة هم الرعيل الأول من رجال التصوف، فقد كانت حياتهم التعبدية الخالصة المثل الأعلى الذي استهدفه رجال التصوف في العصور الإسلامية المتتابعة.

وقيل: (من الصَّفوة) كما قال الإمام القشيري.

وقيل: (من الصَّف) فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله تعالى ؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.

ومنهم من قال: (إن التصوف نسبة إلى لبس الصوف الخشن، لأن الصوفية كانوا يؤثرون لبسه للتقشف والاخشيشان).

ومهما يكن من أمر، فإن التصوف أشهر من أن يحتاج في تعريفه إلى قياس لفظٍ، واحتياج اشتقاق.

وإنكار بعض الناس على هذا اللفظ بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين مردود، إذ كثيرٌ من الاصطلاحات أحدثت بعد زمان الصحابة، واستُعملت ولم تُنكَر، كالنحو والفقه والمنطق.

وعلى كلٌّ فإننا لا نهتم بالتعابير والألفاظ، بقَدْرِ اهتمامنا بالحقائق والأسس. ونحن إذ ندعو إلى التصوف إنما نقصد به تزكية النفوس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول إلى مرتبة الإحسان، نحن نسمي ذلك تصوفاً. وإن شئت فسمه الجانب الروحي في الإسلام، أو الجانب الإحساني، أو الجانب الأخلاقي، أو سمه ما شئت مما يتفق مع حقيقته وجوهره؛ إلاَّ أن علماء الأمة قد توارثوا اسم التصوف وحقيقته عن أسلافهم من المرشدين منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، فصار عُرفاً فيهم.


نشأة علم التصوف

يقول الدكتور أحمد عَلْوَشْ: (قد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في صدر الإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد الصحابة والتابعين ؛ والجواب عن هذا: إنه لم تكن من حاجة إليها في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمَّة ما يدعو إلى تلقينهم علماً يرشدهم إلى أمرٍ هُم قائمون به فعلاً، وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القُحِّ، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابراً عن كابر؛ حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئاَ من قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن، وضعف التعبير، أو لمن يريد من الأجانب أن يتفهمها ويتعرف عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.

فالصحابة والتابعون ـ وإن لم يتسموا باسم المتصوفين ـ كانوا صوفيين فعلاً وإن لم يكونوا كذلك اسماً، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات، وسائر الكمالات التي وصل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي الروحي إلى أسمى الدرجات فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الإيمان، والقيام بفروض الإسلام، بل قرنوا الإقرار بالتذوق والوجدان، وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات، وابتعدوا عن المكروهات فضلاً عن المحرمات، حتى استنارت بصائرهم، وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم. وكذلك كان شأن التابعين وتابعي التابعين، وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى عصور الإسلام وخيرها على الإطلاق، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "خير القرون قرني هذا فالذي يليه والذي يليه" ["خير الناس قرني هذا ثم الذين يلونهم.." أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات. وفي "صحيح مسلم" في فضائل الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه].

فلما تقادم العهد، ودخل في حظيرة الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض "الميراث" وغيرها..

وحدث بعد هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، ولم يكن ذلك منهم احتجاجاً على انصراف الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم ـ كما يظن ذلك خطأً بعض المستشرقين ـ بل كان يجب أن يكون سداً للنقص، واستكمالاً لحاجات الدين في جميع نواحي النشاط، مما لا بد منه لحصول التعاون على تمهيد أسباب البر والتقوى" ["المسلم مجلة العشيرة المحمدية" عدد محرم 1376هـ. من بحث: التصوف من الوجهة التاريخية للدكتور أحمد علوش، وهو من الرواد الأوائل الذين نقلوا حقائق التصوف الإسلامي إلى اللغات الأجنبية، وقد ألف فضيلته كتاباً باللغة الإنكليزية عن التصوف الإسلامي، كان له أكبر الأثر في تصحيح الأفكار والرد على المستشرقين كما ألف كتابه "الجامع" عن الإسلام الذي رد فيه على التهم المفتراة على دين الله، وكان له أثره البعيد في خدمة هذا الدين].

وقد بنى أئمة الصوفية الأولون أصول طريقتهم على ما ثبت في تاريخ الإسلام نقلاً عن الثقات الأعلام.

أما تاريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله، فقد سئل عن أول من أسس التصوف ؟ وهل هو بوحي سماوي ؟ فأجاب:

(أما أول من أسس الطريقة، فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله: "هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم" [جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه] وهو الإسلام والإيمان والإحسان.

فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"...

ثم قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك: (فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام(الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان؛ بعد تصحيح الإسلام والإيمان) ["الانتصار لطريق الصوفية" ص 6 للمحدث محمد صديق الغماري].

قال ابن خلدون في مقدمته: (وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة ؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية) ["مقدمة ابن خلدون" علم التصوف ص 329].

ويعنينا من عبارة ابن خلدون الفقرة الأخيرة، التي يقرر فيها أن ظهور التصوف والصوفية كان نتيجة جنوح الناس إلى مخالطة الدنيا وأهلها في القرن الثاني للهجرة، فإن ذلك من شأنه أن يتخذ المقبلون على العبادة اسماً يميزهم عن عامة الناس الذين ألهتهم الحياة الدنيا الفانية.

يقول أبو عبد الله محمد صديق الغماري: (ويَعْضُدُ ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالاسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في "كشف الظنون" أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة) ["الانتصار لطريق الصوفية" للمحدث الغماري ص17 ـ 18].

وأورد صاحب "كشف الظنون" في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام القشيري قال فيه: (اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة) ["كشف الظنون" عن أسماء الكتب والفنون، لحاجي خليفة ج1/ص414].

من هذه النصوص السابقة، يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً؛ ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أُصول لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذين ابتدعوا أسماءً مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي...

يريدون بذلك تشويه اسم التصوف من جهة، واتهام التصوف بأنه يرجع في نشأته إلى هذه الأصول القديمة والفلسفات الضالة من جهة أخرى، ولكن الإنسان المؤمن لا ينساق بتياراتهم الفكرية، ولا يقع بأحابيلهم الماكرة، ويتبين الأمور، ويتثبت في البحث عن الحقيقة، فيرى أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب.

أهمية التصوف

إن التكاليف الشرعية التي أُمر بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أو بعبارة أخرى: أحكام تتعلق ببدن الإنسان وجسمه، وأعمال تتعلق بقلبه.

فالأعمال الجسمية نوعان: أوامر ونواهٍ ؛ فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج... وأما النواهي فهي: كالقتل والزنى والسرقة وشرب الخمر...

وأما الأعمال القلبية فهي أيضاً: أوامر ونواهٍ ؛ أما الأوامر: فكالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله... وكالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل... وأما النواهي: فكالكفر والنفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد. وهذا القسم الثاني المتعلق بالقلب أهم من القسم الأول عند الشارع ـ وإن كان الكل مُهمَّاً ـ لأن الباطن أساس الظاهر ومصدره، وأعماله مبدأ أعمال الظاهر، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمال الظاهرة، وفي ذلك قال تعالى: {فمَنْ كان يرجو لقاءَ ربِّه فلْيعملْ عملاً صالحاً ولا يُشرِكْ بعبادة ربِّه أحداً}[الكهف: 110].

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، ويبين لهم أن صلاح الإنسان متوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفية والعلل الكامنة، وهو الذي يقول: "ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" [رواه البخاري في كتاب الإيمان. ومسلم في كتاب المساقاة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].

كما كان عليه الصلاة والسلام يعلمُهم أن محل نظر الله إلى عباده إنما هو القلب: "إن الله لا ينظرُ إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم" [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فما دام صلاح الإنسان مربوطاً بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة، تعيَّن عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها، وعندئذٍ يكون القلب سليماً صحيحاً، ويكون صاحبه من الفائزين الناجين {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ 89].

قال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله: (وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوها، فقال الغزالي: إنها فرض عين) ["الأشباه والنظائر" للسيوطي ص504].

فتنقية القلب، وتهذيب النفس، من أهم الفرائض العينية وأوجب الأوامر الإلهية، بدليل ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال العلماء.

آ ـ فمن الكتاب: 1ـ قوله تعالى: {قُلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بَطنَ}

[الأعراف: 33].

2ـ وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ}[الأنعام: 151].

والفواحش الباطنة كما قال المفسرون هي: الحقد والرياء والحسد والنفاق...

ب ـ ومن السنة:
1ـ كل الأحاديث التي وردت في النهي عن الحقد والكبر والرياء والحسد... وأيضاً الأحاديث الآمرة بالتحلي بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة فلتراجع في مواضعها.

2ـ والحديث "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فكمال الإيمان بكمال هذه الشعب والتحلي بها، وزيادته بزيادة هذه الصفات، ونقصه بنقصها، وإن الأمراض الباطنة كافية لإحباط أعمال الإنسان، ولو كانت كثيرة.

ج ـ وأما أقوال العلماء: لقد عدَّ العلماء الأمراض القلبية من الكبائر التي تحتاج إلى توبة مستقلة، قال صاحب "جوهرة التوحيد": 
         وأمُرْ بعرفٍ واجتنبْ نميمةْ              وغيبةً وخَصلةً ذميمةْ

         كالعجب والكبرِ وداء الحسدِ             وكالمراءِ والجدلْ فاعتمدِ
يقول شارحها عند قوله ـ وخصلة ذميمة ـ: أي واجتنب كل خصلة ذميمة شرعاً، وإنما خصَّ المصنف ما ذكره؛ يعد اهتماماً بعيوب النفس، فإن بقاءها مع إصلاح الظاهر كلبس ثياب حسنة على جسم ملطَّخ بالقاذورات، ويكون أيضاً كالعجب وهو رؤية العبادة واستعظامُها، كما يعجب العابد بعبادته والعالم بعلمه، فهذا حرام، وكذلك الرياء فهو حرام. ومثل العجب الظلمُ والبغي والكبر وداء الحسد والمراء والجدل ["شرح الجوهرة" للباجوري ص120 ـ 122 توفي سنة 1277هـ].

ويقول الفقيه الكبير العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: (إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من "الإحياء". قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليه.

وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه) ["حاشية ابن عابدين" المسماة رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج1/ص31].

ويقول صاحب "الهدية العلائية": (وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر والعجب والرياء والنفاق، وجملة الخبائث من أعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك كان عنه مسؤولاً، مما يدخل تحت الاختيار)["الهدية العلائية" علاء الدين عابدين ص315].

ويقول صاحب "مراقي الفلاح": (لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة، بالإخلاص، والنزاهة عن الغلِّ والغش والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين، فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقراً إليه، وهو يتفضل بالمن بقضاء حوائجه المضطر بها عطفاً عليه، فتكون عبداً فرداً للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه، ولا يستملكُ هواك عن خدمتك إياه.

قال الحسن البصري رحمه الله:
       رُبَّ مستورٍ سبته شهوتُهْ            قد عري من ستره وانْهَتَكَا
       صاحبُ الشهوةِ عبدٌ فإذا            مَلَكَ الشهوة أضحى مَلِكا

فإذا أخلص لله، وبما كلفه به وارتضاه، قام فأدَّاه، حفَّتهُ العناية حيثما توجه وتيمَّم، وعلَّمه ما لم يكن يعلم.

قال الطحطاوي في "الحاشية": دليله قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلِّمكم الله}[البقرة:282 ]) [حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص70 ـ 71].

فكما لا يحسن بالمرء أن يظهر أمام الناس بثياب ملطخة بالأقذار والأدران، لا يليق به أن يترك قلبه مريضاً بالعلل الخفية، وهو محل نظر الله سبحانه وتعالى:

تطَبِّبُ جسمَك الفاني ليبقى وتترك قلبَك الباقي مريضاً لأن الأمراض القلبية سبب بُعد العبد عن الله تعالى ، وبعده عن جنته الخالدة ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبه مثقالُ ذرة مِنْ كبر" [رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه].

وعلى هذا فسلامة الإنسان في آخرته هي في سلامة قلبه، ونجاتُه في نجاته من أمراضه المذكورة.

وقد تخفى على الإنسان بعض عيوب نفسه، وتدق عليه علل قلبه، فيعتقد في نفسه الكمال، وهو أبعد ما يكون عنه، فما السبيل إلى اكتشاف أمراضه، والتعرف على دقائق علل قلبه ؟ وما الطريق العملي إلى معالجة هذه الأمراض، والتخلص منها ؟

إن التصوف هو الذي اختص بمعالجة الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص من صفاتها الناقصة.

قال ابن زكوان في فائدة التصوف وأهميته:
                 علمٌ به تصفيةُ البواطنْ  مِن كدَرَات النفس في المواطنْ

قال العلامة المنجوري في شرح هذا البيت: (التصوف علم يعرف به كيفية تصفية الباطن من كدرات النفس، أي عيوبها وصفاتها المذمومة كالغل والحقد والحسد والغش وحب الثناء والكبر والرياء والغضب والطمع والبخل وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء، لأن علم التصوف يطلع على العيب والعلاج وكيفيته، فبعلم التصوف يُتوصل إلى قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله سبحانه وتعالى) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى إسماعيل المدني على هامش شرح الرائية للفاسي ص 26].

أما تحلية النفس بالصفات الكاملة ؛ كالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والأدب والمحبة والذكر والمراقبة... فللصوفية بذلك الحظ الأوفر من الوراثة النبوية، في العلم والعمل.

قد رفضوا الآثامَ والعيوبا وطهَّروا الأبدانَ والقلوبا

وبلغوا حقيقة الإيمان وانتهجوا مناهج الإحسان

["لفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية"للعلامة ابن عجيبة على هامش شرح الحكم لابن عجيبة ج1/ص105].

فالتصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي بالإضافة إلى ما يقابله من العبادات البدنية والمالية، ورسَمَ الطريق العملي الذي يوصل المسلم إلى أعلى درجات الكمال الإيماني والخُلُقي، وليس ـ كما يظن بعض الناس ـ قراءةَ أوراد وحِلَقَ أذكار فحسب، فلقد غاب عن أذهان الكثيرين، أن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلى شخصية مسلمة مثالية متكاملة، وذلك من الناحية الإيمانية السليمة،والعبادة الخالصة،والمعاملة الصحيحة الحسنة،والأخلاق الفاضلة.

ومن هنا تظهر أهمية التصوف وفائدته، ويتجلى لنا بوضوح، أنه روح الإسلام وقلبُهُ النابض، إذ ليس هذا الدين أعمالاً ظاهرية وأموراً شكلية فحسب لا روح فيها ولا حياة.

وما وصل المسلمون إلى هذا الدرْك من الانحطاط والضعف إلا حين فقدوا روح الإسلام وجوهره، ولم يبق فيهم إلا شبحه ومظاهره.

لهذا نرى العلماء العاملين، والمرشدين الغيورين، ينصحون الناس بالدخول مع الصوفية والتزام صحبتهم، كي يجمعوا بين جسم الإسلام وروحه، وليتذوقوا معاني الصفاء القلبي والسمو الخُلقي، وليتحققوا بالتعرف على الله تعالى المعرفة اليقينية، فيتحلوا بحبه ومراقبته ودوام ذكره.

قال حجة الإسلام الإمام الغزالي بعد أن اختبر طريق التصوف، ولمس نتائجه، وذاق ثمراته: (الدخول مع الصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) ["النصرة النبوية" على هامش شرح الرائية للفاسي ص26].

وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر). وفي هذا القول يقول ابن علاَّن الصديقي (ولقد صدق فيما قال ـ يعني أبا الحسن الشاذلي ـ فأي شخص يا أخي يصوم ولا يعجب بصومه ؟ وأي شخص يصلي ولا يعجب بصلاته ؟ وهكذا سائر الطاعات) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" لابن عجيبة ص7].

ولما كان هذا الطريق صعب المسالك على النفوس الناقصة، فعلى الإنسان أن يجتازه بعزم وصبر ومجاهدة حتى ينقذ نفسه من بُعد الله وغضبه.

قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريقَ الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله تعالى شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفتَّ إليهم أخذوك وعاقوك) ["المنن الكبرى" للشعراني ج1/ص4].
 ......
المصدر : كتاب حقائق عن التصوف – الشيخ عبد القادر عيسى

الثلاثاء، 9 أبريل 2019

الحرية الدينية في تفسير النص القرآني – الفهم الصّوفي

الحرية الدينية في تفسير النص القرآني – الفهم الصّوفي





الحرية الدينية في تفسير النص القرآني

– نموذج الفهم الصوفي-

بقلم: د. سعاد الحكيم

إن الأصل، المعوّل عليه في الإسلام، هو الحرية الدينية لأجيال المسلمين في قراءة النص القرآني وفهمه وتفسيره، لأن القرآن الكريم هو كتابٌ: ألفاظه ثابتةُ (كلام الله القديم)، ولكن معانيه متجدّدةٌ متدفّقةٌ مفتوحةٌ على تفكُّر المتلقّي في كل زمان، من أجل إنتاج فهمٍ جديدٍ لا يلغي القديم وإنما يوسّع حدقة الرؤية.

وهذا يعني، أنه لا توجد أيّ سلطة – تملك شرعاً – حقّ مصادرة تفسير القرآن من علماء المسلمين، واحتكاره في طائفةٍ علميةٍ مكلّفةٍ بإنتاج “تفسير رسمي”، كما لا توجد سلطةٌ تملك حقّ حبس المعاني القرآنية في التفاسير التراثية، مهما كانت هذه التفاسير مقبولةً ومعتمدةً من جمهورٍ واسعٍ من الأمة.

وفي المقابل، ومنعاً للتسيّب العلمي والديني، فقد وضع العلماء جملة شروطٍ أو ضوابط علمية، يجب توافرها فيمن يتصدّى لتفسير القرآن ولطرح فهمٍ جديد. وهذه الشروط معلومةٌ ومتّفقٌ عليها ومدوّنة في كتب “علوم القرآن”[1]. وقد أراد العلماء أن تكون هذه الشروط/ الضوابط بمثابة الإطار للحرية الدينية في التعامل مع النص القرآني.

نترك بين قوسين الشروط الضابطة لحرية المفسّرين، لنلتفت إلى البحث في العوامل التي سمحت بوجود هذه الحرية لدى الإنسان الصوفي في فهم القرآن، وفي تدوين فهمه الجديد، مهما واجه من معارضةٍ أو من تشدّدٍ لدى بعض العلماء الذين يفضّلون الاكتفاء بالمعاني اللغوية أو القريبة والمباشرة.

وأكتفي بذكر سبعة عوامل، أرى أنها مفاتيح الحرية لدى الإنسان الصوفي في التعامل مع النص القرآني:

1 – غيابُ تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن

إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الشخص الوحيد المكلّف ببيان ما أنزل الله سبحانه للناس[2]، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك قولاً وفعلاً؛ من خلال الحديث النبوي الشريف ومن خلال السيرة المحمدية الطاهرة. وقد كان بعض الصحابة يسأل عن معنى آيةٍ أو عن معنى كلمةٍ في آيةٍ، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب السائل في حدود السؤال، وهذه المعاني محفوظةٌ في دواوين الحديث الشريف[3]. إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك بين يدي المسلمين تفسيراً للقرآن، ولو فعل لكان ذاك التفسير هو التفسير الرسمي الذي يشكّل مرجعيةً صارمةً لكلّ تفسيرٍ لاحق.

إن غياب تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن، يفتح الباب لتعاون علماء الأمة في هذه المهمة، بحيث يساهم كل واحد في حدود اختصاصه العلمي وهمّه الحضاري (لغوي، فقيه، عالم عقيدة، مصلح اجتماعي) أو قوة استنباطه للمعاني العميقة وشعلة فهمه لدقائق النص.

وفي هذا الصدد، نلمح في ثنايا الكتابة الصوفية، أن الواحد من كبارهم يحمّل نفسه مسؤولية متابعة خطى النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس.. وبالتالي في بيان التنزيل وتفسير معاني القرآن. يورد محي الدين بن عربي، شيخ الصوفية الأكبر، الآية الكريمة: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ( [الجمعة 2]، والآية الثانية: )قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف 108]، ثم يقول: فهو صلى الله عليه وسلم النبي “الأمي” الذي يدعو على بصيرةٍ مع أميّته. و”الأميّون” هم الذين يدعون معه صلى الله عليه وسلم إلى الله على بصيرة. و”البصيرة” هي العلم الإلهي اللَّدُنّيُّ الذي يناله “الأمّيّون”.

ويقدّم ابن عربي في هذا السياق معنىً مختلفاً للأميّة، فيقول: الأميّة عندنا لا تنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية، أي إن الأميّة لا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة وحفظ العلوم الأساسية، ولكن الشخص الأمّيّ هو الذي لم يتصرّف بنظره الفكري وحُكْمه العقلي في استخراج ما تحوي عليه آيات القرآن أو الأحاديث النبوية من معاني وأسرار. فإذا سَلِم قلبه من علم النظر الفكري كان أميّاً، قابلاً للفتح الإلهي ومستعدّاً لاستقبال العلم اللدني[4].

وهذا يعني أن فهم القرآن – عند الصوفي – لا ينتج عن استنباط المعنى من الدرس في الكتب أو من إعمال العقل في النص، ولكن من الرياضة والمجاهدة ليصبح القلب مستعدّاً لاستقبال الإلهام الرباني..

وتظلّ العلوم الأساسية (حفظ القرآن والحديث) ضروريةً “للأميّ”، لأنها تحفظ القلب من أن يزيغ أو يطغى عند قبول العلم المـُـلْـقَى فيه. وفي هذا التنبيه يقول الجنيد: «علمُنا مشبوكٌ بالكتابة والسنة»[5]. أي مع أنّ علمهم لَدُنيّ إلهاميٌّ، إلا أن القلب لا يقبل الإلهام إلا إنْ شَهِدَ له على صدقه شاهدان عَدْلان هما: الكتاب والسنة[6].

2 – مقاصد الله عز وجل من كلامه لا يحيط بها إنسان

إنّ للآية الواحدة في القرآن، ومهما كانت مُحْكَمَةً – بل للكلمة الواحدة – مقاصدَ عديدة. ولا يملك إنسانٌ أن يقول: إن المعنى الذي أُعطيه لهذه الكلمة القرآنية هو المقصد الإلهي الوحيد منها. لذا، نجد أئمة المفسرين يَعْرضون قولهم وأقوال غيرهم ويشيرون إلى عجزهم عن الإحاطة بالمعاني أحياناً بعبارة “والله أعلم”، ثم يتركون المعاني القرآنية مفتوحةً على تدبُّرٍ جديدٍ وفهمٍ جديدٍ.

وهذا ما سمح لكبار الصوفية بأن يشاركوا الأمة في فهم القرآن، وفي تقديم معانٍ غير مسبوقة. ومن الأمثلة العديدة على ذلك نختار ثلاثة:

قوله تعالى: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ( [الإسراء 23].. يرى ابن عربي أن الآية لا تدلّ عما يجب أن يكون، بل تخبر عما هو كائنٌ فعلاً، لأن الله عز وجل عندما يقضي أمراً فهو واقعٌ لا محالة. وينتج عن هذا الفهم، أنّ كلّ من عَبَد شيئاً ولو كان غير الله U، فهو في الحقيقة – وتحت قهر القضاء الإلهي – يقصد بعبادته الله، وإن ضلّ السبيل إليه[7].
وقوله تعالى: )وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ([الإسراء 44].. استدل ابن عربي بهذه الآية الكريمة على أن الحياة ساريةٌ في كل شيء في الوجود، لأن التسبيح دليل حياة، فلا يسبّح إلا حيّ.. ومن هنا، فكلّ شيء حيٌّ حتى ما تعارف الناس على أنه جماد، من حجرٍ وشجرٍ وغيره[8].
وقوله تعالى: )بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ([ق 15].. ذهب معظم المفسرين إلى أن هذه الآية تجد دلالاتها في الحياة الآخرة، إلا أن ابن عربي بنى عليها رؤيته للمخلوقات كلها. فالكائنات كلُّها، أي كلُّ ما سوى الله عز وجل – طبيعتها الذاتية هي “العدم الممكن”، وبالتالي فهي تحتاج لتظلّ موجودةً إلى الخلق الإلهي المستمر مع الأنفاس، ففي كل نَفَس يسقط الكائن في العدم ويخلقه الله في النَفَس التالي خلقاً جديداً. والعالم كله في لَبْسٍ من هذا الخَلْق المستمرّ مع الأنفاس: لسرعته أولاً، وثانياً: لأن الصورة اللاحقة للكائن هي نفس صورته السابقة[9].

3 – الكلام الإلهي لغير الأنبياء

نعرف من حديثٍ نبويٍ شريف، أنّ الله عز وجل يكلّم – أو يحدّث – بشراً ليسوا بأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي منهم، فإن عمر بن الخطاب منهم»[10]، وفي نصٍّ آخر: «رجالٌ مكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء»[11].

وقد حفل التاريخ الصوفي، بأعلامٍ كبارٍ أخبروا بأن الله سبحانه يخاطبهم، فرابعة العدوية تقول: «وجعلتك في الفؤاد أنيسي»، والنفري يقول: «أوقفني وقال لي»[12]، والجنيد البغدادي يقول: «أقبَلَ بك كلّكَ عليه… فأنتَ حينئذٍ يُقال لك وأنت قائل»[13]، وأبو يزيد البسطامي يقول: «أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»[14].

وهذا الكلام الإلهي للبشر- أنبياء وغير أنبياء – يأخذ أسماءً عديدةً؛ فيسمّى “قولاً” عندما يُسمع المعدوم؛ ويسمّى “كلاماً” عندما يُسمع الموجود؛ ويُسمّى “وحياً” إذا كان إلقاءً في القلب على جهة الحديث، وصفة الوحي السرعة والسلطة؛ ويسمّى “من رواء حجاب” إذا كان مُلْقَى على السمع لا على القلب، وغير ذلك.

بناءً عليه، فإن الوحي الإلهي الملقى في القلب على جهة الحديث لم ينقطع بانقطاع النبوة والرسالة، وإنما انقطع الوحي التشريعي.. وينتج عن هذا الوحي التفسيريّ العلميّ، أن الشخص الذي يُلقى في قلبه وحيٌ إلهيٌّ لمعنىً قرآنيٍّ، فإنه يقبله ويدوّنه ويطيعه ويعدّل رؤيته للعالم وللإنسان وأيضاً سلوكه وفقاً لما ورد فيه.

ويستدلّ ابن عربي على سلطة الوحي الإلهي وقهريته، بأن أمّ موسى عليه السلام حين أوحى لها الله عز وجل إن خافت على ابنها أن ترضعه وترميه في اليمّ، فقد فعلت ذلك، مع أن الطبْع البشري يحكم على الإنسان بإخفاء ما يخاف عليه[15].

4 – تنزُّل القرآن الدائم على قلوب كبار عباد الله

يورد ابن عربي قوله تعالى: )رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [غافر 15]، وقوله تعالى: )يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [النحل 2]. ويفسر لفظ “الروح” بمعنى “العلم”، وذلك لأن العلم تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها.. وبناءً على تفسير الروح بالعلم يستدلّ بالآية الأولى على الإلقاء الإلهي للعلم في قلوب عباده وعلى وحيه عزّ وجلّ من غير واسطة، ويستدلّ بالآية الثانية على تنزيل الملائكة بالعلم[16].

وفي هذا السياق نفسه، سياق تنزيل العلم، يقول ابن عربي بأن الرسالة والنبوة انقطعت وسُدّ باب تنزّل الحكم الإلهي (= أحكام الشريعة) على قلب البشر بواسطة الروح، أما الذي بقي فهو تنزُّل القرآن على قلوب الأولياء، مع كونه محفوظاً لهم. ويورد في الفتوحات المكية، وفي أكثر من موضع، بأنه رُوي عن أبي يزيد البسطامي «أنه ما مات حتى استظهر القرآن».. ومن البديهي، بأن عبارة “استظهر القرآن” لا تدلّ على حفظه غيباً، فهذا موجودٌ بكثرةٍ بين المسلمين، ومعظم علماء المسلمين حفظوا القرآن كاملاً وهم دون العاشرة من عمرهم، ولا شك أيضاً أن أبا يزيد البسطامي كان حافظاً للقرآن قبل موته بكثيرٍ، إن لم يكن من طفولته.

إذن فإن للعبارة معنى آخر. ومعناها: أن أبا يزيدٍ ما مات حتى أخذ القرآن كلَّه عن إنزال. وإلى هذا نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن حفظ القرآن، يعني على وجه الإنزال، بأن النبوة قد أُدرجت بين جنبيه، ولم يقل في صدره[17]. وهذا من باب الفرق بين تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وبين تنزيله على الوليّ[18].

5 – تنزّل المعاني القرآنية (تنزُّل الفهم)

تتعدّد السياقات التي يصل منها ابن عربي إلى مقولةٍ مفادها: أن الفهم الحقّيّ لمعاني القرآن لا يتم بمعالجة الألفاظ اللغوية ولا بالدرس والتمحيص للكتب والتاريخ، وإنما هو رزقٌ لَدُنيٌّ يتنزّل على قلب “ولي الله”، إما عند تلاوته للقرآن، أو عند سماعه، أو عند ذوقه لتنزّل الآيات القرآنية، أو عند رؤيته في واقعةٍ من الوقائع[19].. باختصار، إن الفهم الحقّيّ هو الفهم عن الله عز وجل[20].

وهنا، فإن المعاني تتعدّد وتتراتب، لأن الأرزاق العلمية تتباين بتباين منازل القوم في مقامات الولاية.. ومــــــــن هنا، نفهم الحـــــــوار الصوفي-الصوفي عبر الزمان، ومنه حوار ابن عربي مع الجنيد وأبي يزيد وأبي مدين في كتاب “التجليات”[21].. والإجابات التي قدّمها ابن عربي (ت 638) لأسئلة الحكيم الترمذي (ت 320هـ) رغم أنه يفصل بينهما أكثر من ثلاثة قرون[22].

وفي إطار هذا الحوار – النقدي حيناً والتعريفيّ أحياناً – حول تفسير النص القرآني، نجد أن ابن عربي انتقد السيدة رابعة التي سمعت قارئاً يقرأ قوله تعالى: )إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ( [يس 55 – 58]، فقالت: «مساكين أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم». وفحوى نقده: أن السيدة رابعة لم تعلم أنها حين نَسَبَتْ إليهم الشغل بغير الله، فقد وقعت في المكر الخفيّ بالعارفين، لأنها جرّحت الغير ببادي الرأي، وعرّضت في حقّ نفسها أنها منزهة عن ذلك.. والحقّ: أن أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم بالله عز وجل[23].

وفي إطار الحوار التعريفي – عبر الزمان – حول معاني النص القرآني، نجد ابن عربي يشرح لأبي يزيد البسطامي الذي توفي قبله بحوالي أربعة قرون، قوله تعالى: )يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ( [مريم 85].. وذلك أن أبا يزيدٍ عندما سمع هذه الآية طار الدم من عينيه حتى ضرب المنبر وقال: عجباً كيف يَحْشُر إليه من هو جليسه. فإن الله يقول: أنا جليس من ذكرني، والمتّقي ذاكرٌ لله. ويتولّى ابن عربي تفسير موقف أبي يزيدٍ فيرى أن دموعه هي دموع فرح لا دمع حزن وخوف، لأن في حَشْر المتقين إلى الرحمن، بشارة بالأمان[24]. ثم في موضع آخر، يفصّل، بأن المتقي في الدنيا هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد (القهار، شديد العقاب، الجبّار…)، وفي هذه الآية بشارةٌ للمتّقي بأنه في الآخرة سوف يُحشر إلى الاسم الرحمن (وليس إلى اسم: شديد العقاب)، فيحدث له – من هذه البشارة القرآنيّة – الأمان في الدنيا، لأن مآله إلى الرحمة[25].

6 – العلاقة التفاعلية الحياتية بين الصوفي والقرآن

إن كبار الصوفية يقيمون علاقة تفاعلية مع النص القرآني، فالواحد مثلاً أثناء تلاوته للقرآن ينظر في ذاته ليرى أين هو مما يقرأ.. وها هو أبو يزيد وقد سمع قارئاً يتلو: )إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ( [البروج 12]، فقال: “بطشي أشدّ”. أي إن بطشي أشدّ من بطش الله عز وجل.

ويفسر ابن عربي هذه العبارة الغربية، بأن المخلوق إذا بطش فلا يكون في بطشه شيءٌ من الرحمة، بل قد يخالطه الانتقام فيزيحه عن العدالة، أما بطش الله عز وجل وإن كان شديداً ففيه رحمةٌ بالمبطوش به[26].

ومثالٌ آخر عن علاقة الصوفي التفاعليّة بالقرآن، يقول ابن عربي عن حياته، بأنه حصلت له “الفترةُ التي لا بدّ منها لكلّ داخل في الطريق”، وهي فترةٌ قد يعقبها رجوعٌ إلى الحال الأول من العبادة والاجتهاد إن كان السالك من أهل العناية، وإلا فإنه لا يفلح أبداً. فلما تحكّمت بابن عربي هذه “الفترة” رأى الحقّ في الواقعة وتلا عليه الآيات: )وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ( [الأعراف 57 – 58]، فعلم أنه هو المراد بهذه الآية.. وفهم الرسالة الموجودة فيها، وأدرك الإشارات القرآنية، فقوله تعالى “بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ” إشارةٌ إلى كونه اهتدى إلى الطريق على يد عيسى وموسى ومحمد سلام الله على جميعهم. و”البلد الميت” هو ابن عربي نفسه. فـ”أحيينا به الأرض” هو ما ظهر عليه من أنوار القبول والعمل الصالح وهكذا[27].

7 – الصدق مع الله والصدق مع الذات

أختم المقالة بهذا المفتاح السابع للحرية الصوفية في تفسير النص القرآني، وأقول: لا شكّ أن الوحي الإلهي العلمي للصوفي قاهرٌ، وله سلطانٌ لا يملك معه الإنسان إلا أن يرضخ ويطيع. ولكن قد يرضخ المرء لما ورد عليه من وحيٍ علميٍ، ويتركه سرّاً بينه وبين نفسه ولا يذيعه للناس، وقد لا يُطلع عليه أحداً. وهذا يشبه موقف الإمام الغزالي في قوله المشهور:

وكان ما كان مما لستُ أذكره فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخَبَرِ

وفي مقابل الغزالي الذي فضّل عدم البَوْح بما جرى معه، نجد ابن عربي يدوّن مشاهداته وأحداث حياته في كتبٍ تُقرأ وتُنشر وتشكّل إرثاً للأجيال.. ويخبرنا بأنه مأمورٌ بذلك الإخراج إلى الناس[28].

إن الإنسان الصوفي صادقٌ مع الله وصادقٌ مع نفسه، فإن كانت خبرته تنفع الناس أذاعها، وإن حدّثه قلبه عن ربه بمعنى قرآنيٍّ يرقّي إنسانية الإنسان دوّنه ونشره.. وهذا الصدق هو الوجه الآخر للحرية.

[1] – انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة، ج 4، ص 200. وكذا: مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط 3، 2000م، ص 340.

[2] – إشارة إلى الآية [النحل 44]: )وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ(.

[3] – راجع: صحيح البخاري، كتاب التفسير وفيه أبواب، ج 4، ص ص 1621 – 1852. وصحيح مسلم، كتاب التفسير، ج 4، ص ص 2308 – 2323.

[4] – انظر الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 644 – 645.

[5] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 174.

[6] – يقول أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النُّكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدَيْن عدلَيْن: الكتاب والسنّة. الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، ص 177. والنكتة هي الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس، أو المسألة العلمية الدقيقة. المعجم الوسيط، مادة: نكت.

[7] انظر: سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، مادة “إله المعتقدات”، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1981.

[8] انظر: المعجم الصوفي، مادة “حياة”.

[9] انظر: المعجم الصوفي، مادة “خلق جديد”.

[10] صحيح مسلم، ج7، ص115.

[11] انظر: زين الدين العراقي، طرح التثريب، ج 1، ص 188.

[12] – راجع كتاب النفري، المواقف والمخاطبات.

[13] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 307.

[14] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 253 – 254.

[15] – انظر: مؤتمر أقامته وزارة الثقافة في دمشق بالاشتراك مع وزارة الثقافة في مرسية، الندوة العالمية: “من فلسفة الإنسان إلى فلسفة الوجود”، دمشق 1997، ورقة مشاركة د.سعاد الحكيم تحت عنوان: “الوحي الصوفي“. وابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 87.

[16] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 255 – 356.

[17] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 258. كما يراجع في الفتوحات المكية، ج 2، ص 20، وج 2، ص 447.

[18] – راجع تفصيل هذا الفرق في الفتوحات المكية، ج 2، ص 194.

[19] – انظر مثلاً: رؤية ابن عربي لسورة الإخلاص في الكشف الصوري بيتٍ قائمٍ على خمسة أعمدة، ولا باب له مفتوح، فليس لأحدٍ فيه دخولٌ بوجهٍ من الوجوه، نفهم من هذا الكشف أن الأعمدة الخمسة تدلّ على عدد آيات سورة الإخلاص، أما كون البيت لا باب له، فلأن سورة الإخلاص، لا تحتوي إلا على أسماء التنزيه التي لا سبيل إلى التخلّق بها. انظر: ابن عربي، الفتوحات، ج 2، ص 581. وعبد الباقي مفتاح/ ختم القرآن، دار القبة الزرقاء، ط 1، 2005، ص ص 47 – 48.

[20] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي ينظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣

[21] – انظر ورقتنا بمهرجان ابن عربي – إسبانيا، عنوانها: “لقاءات حقيقية في عالم الخيال” بتاريخ 8-9 آذار 2013.. وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية.

[22] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي يظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣.

[23] – راجع: الفتوحات المكية، ج 1، ص 321، وج 1، ص 641، وج 1، ص 743.

[24] – الفتوحات المكية، ج 1، ص 511.

[25] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 87. كما يراجع ج 1، ص 210، وج 3، ص ص 212 – 213.

[26] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 412.

[27] انظر تمام التفسير لإشارات الآية، الفتوحات، ج 4، ص 172.

...
المصدر : موقع ابن عربي للدراسات العرفانية والصوفية

السبت، 6 أبريل 2019

التصوف الإسلامي قراءة في المصدر والمعرفة والتجربة



التصوف الإسلامي قراءة في المصدر والمعرفة والتجربة



التصوف إسلاميا: قراءة في المصدر والمعرفة والتجربة
 عصام بوشربة
تقديم :
يعتبر التصوف بوجه عام فلسفة حياة، و نظرة للوجود تنعكس صورتها على سلوك الإنسان الآمل لتحقيق كماله الأخلاقي، و عرفانه بالحقيقة، وسعادته الروحية، وبهذا المعنى نجد أن التصوف لا يقف عند حدود جنس معين أو لغة أو دين، فهو تجربة روحية مرتبطة بالإنسان، ووجوده كظاهرة عرفت لدى الهنود و الفرس و اليونان و اليهود و المسيحيين لتبرز شمسها عند المسلمين ، ولما كان الاختلاف سنة تعتري طبيعة البشر، لزم عن هذا أن لها دورا في اختلاف طبيعة تجاربهم الروحية؛ من حيث استمداداتها والأسس التي ترتكز عليها والخصائص التي تميزها.
من هنا نجد أن المتصوفة الذين نشؤوا في البيئة الإسلامية انطلقوا من تجاربهم الروحية من منطلق إسلامي أصيل جاعلين من القرآن وسلوك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مثالا يقتدى به في العقيدة والعبادة والسلوك، وإن وجد هناك تأثير وتأثر بين التصوف الإسلامي وغيره من أشكال التصوف التي عرفت في بيئات أخرى، فهي مرحلة يخضع لها أي فكر في تطوره، كما أن لهذا التأثير مجالات محددة لا تمس أصول ومبادئ التجربة الصوفية الإسلامية في خصوصيتها .
أولا: الأصول الإسلامية للتصوف
يستمد التصوف في الإسلام أصوله من :
أ- القرآن الكريم
ب- السنة النبوية
ج- سلوك الصحابة
د- الواقع
الأصل الأول : القرآن الكريم مصدر المقامات والأحوال
يقوم السلوك الصوفي على مجاهدة النفس في طي مراحل القرب من الله، التي تأخذ في سيرها معراجا روحيا قوامه  فيما يعرف عند الصوفية بالمقامات والأحوال، ولهذا حرص الصوفية في كتبهم على بيان أن هذه المقامات والأحوال تستند جميعها إلى القرآن الكريم([1])، و من الشواهد التي تؤكد حقيقة ذلك :
_ مقام التقوى: في قوله عز وجل:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “([2]).
-مقام الزهد: ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا “([3]).
– مقام التوكل:” وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا “([4]).
– مقام الرضا:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ“([5]).
-المعرفة والإلهام الحاصل من التقوى والتخلق فمرده إلى قوله تعالى:” وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “([6])، وقوله: ” فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا “ ([7]) .
– حال الخوف مرده إلى قوله تعالى:” تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ “([8]).
-حال الرجاء مرده إلى قوله تعالى: ” مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ([9]).
– حال الذكر في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا “([10]).
– حال الدعاء في قوله تعالى:” أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ “([11]) .
وفق هذا التصور يتضح لدينا” أن البذور الأولى للتصوف الإسلامي؛ من حيث هو علم المقامات والأحوال، أو بعبارة أخرى من حيث هو علم للأخلاق الإنسانية والسلوك الإنساني، موجودة في القرآن الكريم، ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولى آخذا من القرآن”([12]) ، وأن هذه المنطلقات” كلها وغيرها كافية لإلهام عطاء معنوي عظيم واسع في شأن الله والإنسان والعالم، وبالأخص في مورد ارتباط الإنسان بالله “([13]).
الأصل الثاني: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
يرى الصوفية في تحنث النبي صلى الله عليه وسلم  في غار حراء على أنها البذرة الأولى التي نبت منها التصوف، فلقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحنث في غار حراء كلما أقبل شهر رمضان، وكان يقضي في خلوته كل سنة الليالي ذوات العدد، فأتاح  له الله  بذلك كل صفاء  القلب([14]) .
 وهو معنى عميق ذهب إليه المتصوفة، فهو تأكيد على إنسانية التصوف كتجربة مفتوحة من جهة، ومن جهة أخرى تأكيد على الذاتية والفردية التي لا تكاد تجاوز من تعرض لهذه التجربة أو عاشها، إضافة إلى هذا أنها تمنح صاحبها صفاء الطبع ونقاء التأمل يغيران نظرته السابقة ، فهي أشبه من نقلة من عالم إلى عالم دون وضع اعتبار لحدود الزمان والمكان .
ومن هنا يأخذ الصوفية بمبدأ (العزلة) و (الخلوة) كمرحلة من مراحل السلوك، استنادا في ذلك إلى خلوة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يروي ذلك أبو هريرة رضي الله عنه أن :” أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم .. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود  لذلك..حتى جاءه الحق وهو في الغار“([15]) ولهذا جاء كلام أبي حامد الغزالي ليقدم فوائدا للخلوة تتمثل في:” التفرغ للعبادة والفكر، والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة ، وملكوت السموات والأرض، فإن ذلك يستدعي فراغا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إليه”( [16])  .
أما عن حياته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، فقد كان يأخذ نفسه بالتقشف في المأكل والملبس، مقبلا على التقوى والخوف والصبر والرضا والشكر والعكوف على العبادة، وكل هذا كان منبعا ومصدرا لما كرّس له الصوفية أنفسهم من الرياضة والمجاهدة، ولما كانوا يتقلبون فيه من منازل ومقامات، هي عندهم سبيل العبد إلى التصفية والقرب من الله([17]).
 وقد احتفت كتب السيرة والشمائل بصفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية والسلوكية والروحية، نشير إلى أمثلة منها، والتي اتخذها الصوفية سلوكا ونبراسا في تجربتهم الروحية ، فأما عن تهجده واعتكافه، فقد جاء عن المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يصلي في الليل حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكلُّفٌ هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: “أفلا أكون عبدا شكورا “([18])، وقوله صلى الله عليه وسلم” يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة”([19]) .
ودعوته صلى الله عليه وسلم  إلى الزهد والتقرب بالنوافل، حيث قال :” ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس” ([20]) .
ومن الأحاديث التي تدور عليها الممارسة الصوفية الحديثان الصحيحان “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولازال عبدي  يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعيذنه” ([21]) .
والحديث الصحيح الذي كان سبب وروده سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان ثم عن الإحسان ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم:”الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “([22]) .
الأصل الثالث: حياة الصحابة وأقوالهم
اتخذ الصوفية سلوك الصحابة وأقوالهم الدالة على التقشف والزهد والإقبال على الله والإعراض عن الدنيا ، معينا يغترفون منه و يتمثلونه في تجاربهم ، ومن  هذه الآثار نذكر:
روي عن أبي عثمان الهندي أنه قال: “رأيت على عمر رضي الله عنه قميصا فيه اثنتي عشرة رقعة، وهو يخطب ، وروي عن عمر رضي الله عنه قوله: رحم  الله امرئ أهدى إلي عيوبي”([23]) .
ويروى عن أبي بكر أنه كان يطوي ستة أيام وكان لا يزيد على ثوب واحد، وكان يقول: “إذا دخل العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله حتى يفارق تلك الزينة “([24]) .
وهذه الآثار وغيرها اتخذها الصوفية نبراس سير، وأنموذج جسّد السلوك الصوفي في التاريخ، واحتفت كتب التصوف بفصول تسرد خصال الصحابة وصفاتهم، ومواقفهم، وهذا الاعتناء يمكن أن يصدق عليه الاقتداء الحقيقي بالسلف، وحضور للسلف في حاضر السالك عمليا ، وليس رجوعا للسلف قولا وإسفافا . 
الأصل الرابع: واقع الحياة الإسلامية
كانت الظروف السياسية والاجتماعية التي عرفتها البيئة الإسلامية دور في تغذية الاتجاه الصوفي في الإسلام، ذلك أنه قد طرأت على حياة المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ظروف حضارية جعلتهم يهتمون بالجانب المادي على حساب  الجانب الروحي، ومن أهم هذه الظروف :
أ- قيام الدولة الأموية وتفشي الإقبال على الدنيا والإسراف في الملذات والشهوات .
ب- اعتناء علماء الفقه والتفسير بشكلية الدين وظاهره دون الجوهر .
ج- ميل علماء الكلام إلى اعتماد العقل لتحقيق اليقين في العقائد .
أ- قيام الدولة الأموية وتفشي الإقبال على الدنيا والإسراف في الملذات والشهوات:
أدى وجود المسلمين بعد الفتوحات في مجتمع متعدد المشارب الحضارية، خاصة وأنه كان في المنتمين إلى هذه الحضارات انجذاب للدنيا بما فيها تمجيد للمال واللذات وحياة البذخ، فاغتر المسلمون بهذا اللون من الحياة متناسين حياتهم الأولى، والمقصد الأساسي من الفتوحات، وهو نشر الإسلام وتطبيقه وتعليمه لأهالي البلاد المفتوحة([25] 
فنجم عن هذا الوضع ظهور فريق آخر ثار على هذا اللون من الحياة ، نتيجة لما رأوا فيه من إهمال لروح التشريع، وهو ما جاء في كلام ابن خلدون:” عندما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”([26])  .
وشجعت سياسة بني أمية هذا الانحراف عن المسار الرسالي فزادت حدة اللهف على الدنيا وجمع المال بحجة إنفاقه في سبيل الله، وأثروا خزائنهم، وفرضوا الضرائب والمكوس على شعوب الدول المفتوحة، إلى درجة وصل بهم الأمر إلى منع الناس من الدخول في الإسلام حتى يبقوا تحت سلطتهم وفي حمايتهم (أهل الذمة) حتى يستمروا في دفع الجزية إلا أن جاء عمر بن عبد العزيز وأبطل هذا فيما بعد([27]) .
ففزع خيار المسلمين وأطهرهم من هذه الحالة التي آلت إليها الأمة، وذهبوا مذهبا ينقض الروح ويحفظ كيانها، فاتجهوا للعبادة والزهد، وأنشئوا مدارسا تعنى برباط بذلك وتشدها إلى حقيقتها الأصلية([28])
ب-اعتناء علماء الفقه والتفسير بشكلية الدين وظاهره دون الجوهر:
رأى عٌبّاد المسلمين وزٌهّادهم تضييق فقهاء الدين وتركيزهم على الجانب الظاهري والشكلي، إذ انساقوا وراء إطلاق الأحكام بالتحليل أو التحريم ، وقصروا الدين على الجوارح، وأغفلوا الجانب الروحي وما يقتضيه من مجاهدة و تطهر، ومما يصور لنا هذه الحالة ما كتبه ابن منبه إلى مكحول إنك امرؤ قد أصبحت فيما ظهر من علم الإسلام شرعا فاطلب ما بطن من علم الإسلام عند الله محبة و زلفى([29])، و كذلك ما جاء عن رويم البغدادي في قوله:” كل الخلق قصروا على الرسوم وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق”.
كما ثار الصوفية ضد علماء التفسير الذين وقفوا من الآيات موقفا يتتبع ظواهرها، وما يقتضيه العقل منها، فذهبوا إلى تجاوز هذا من خلال التعمق والغوص في باطن المعاني، وباتحاد الفكر والجسد (السلوك)، وهو ما أكده أحمد زروق في قوله: “نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث؛ لأن  كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، بينما يزيد الصوفي بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه”([30]) .
ج-ميل علماء الكلام  إلى الاعتماد على العقل لتحقيق اليقين في العقائد:
رأى الصوفية قصورا في ما اعتمده علماء الكلام من مصادر معرفية(العقل والنقل والحواس)، و كذلك ما نتج عن ما ذهب إليه الفلاسفة من بلبلة في الفكر واضطراب في النفس مشككين في طرقهم وأهدافهم، خاصة لما تبع ذلك الإعجاب بالنفس، وصرف الهمة إلى الانتصار على الخصم، وإبطال الحجج ولو بغير حق([31])، فشجع هذا الجو على الفرقة والاختلاف خاصة بين الأشعرية والمدافعين عن العقلانية، وهو ما حفز المتصوفة لكي يترفعوا عن هذا الميل المذهبي العقيم .
كما ساد ضعف الغيرة الدينية بسبب الميل الكلي إلى العقلانية الذي عرفه العصر العباسي الأول، مما انعكس سلبيا على الأخلاق، ونتج عنه قلة المبالاة بالالتزام الديني([32]) .
وهذا ما جعل الصوفية ينفرون من الجدل كوسيلة للمعرفة، وينهجون طريقا أكثر يقينا وثباتا رأوه يتجسد في المعرفة الذوقية، التي يصبح فيها القلب محلا للإدراك الذوقي، ولا يحصل هذا إلا إذا تخلص الإنسان من حجب الشهوة والهوى([33]) .
ثانيا :منهج المعرفة الصوفية
يعد التصوف في نظر أصحابه منهجا معرفيا يقوم على الكشف والإلهام إلى جانب كونه سلوكا في الحياة، وبناء على هذا المنطلق يشق الصوفي طريقه المعرفي على أساس التأمل الباطني، والمجاهدة الروحية والرياضة القلبية .
ويفرق الصوفية بين لفظ(المعرفة)ولفظ(العلم)؛ حيث ترتبط(المعرفة) عندهم بالتجربة المباشرة التي تنتج انطباعا خاصا أو لقاء مباشرا بموضوع المعرفة([34])، فهي تدل على نمط شديد الخصوصية من الإدراك والعلم تشير إلى طريقة خاصة، وتعتمد وسائل خاصة([35])، أما(العلم) فهو أكثر عمومية؛ حيث يدل على كسب المعلومات نقلا أو عقلا بالنسبة للإنسان، فالمعرفة تتطلب تجربة مباشرة، بينما العلم لا يشترط التجربة، ويجري استعمال اللفظين في التداول الصوفي بما يدل على معرفة الله أو العلم به([36]) .
وينبني على التفريق بين (المعرفة) و(العلم)، تفريق بين وسيلة كل منهما، فاعتبر الصوفية أن العقل والقلب كل منهما يختص بنوع من الإدراك، فسموا إدراك العقل علما، وإدراك القلب معرفة وذوقا، وسموا صاحب النوع الأول عالما، وصاحب النوع الثاني عارفا([37]) .
كما يعتقد الصوفية أن مركز المعرفة وأداتها هو القلب لا العقل، وهو مركز المحبة والتجلي الإلهي، وليس المراد بالقلب تلك المضغة الصنوبرية الجاثمة في الصدر، بل هو “لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق ، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمطالب”([38]) .
فالعقل عند الصوفية هو”غريزة جعلها الله عز وجل في الممتحنيين من عباده، لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح، لا يقدر أحد أن يصفه في نفسه، ولا في غيره بغير أفعاله لا يقدر أن يصفه بجسمية ولا بطول، ولا بعرض، ولا بطعم، ولا شم، ولا مجسة ولا لون ،ولا يعرف إلا بأفعاله “( [39]) .
وبذهب أبو حامد الغزالي إلى اعتبار أن العقل اسم يطلق على أربعة معان:
الأول:الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية .
الثاني: العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات .
الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال .
الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فالأولان بالطبع والآخران بالاكتساب([40])، إلى أن ينتهي الغزالي بالقول: “إنا نريد بالعقل:ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنية التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور”([41]) .
وهكذا انتقل الغزالي في تحديد معنى العقل من العقل باعتباره جوهرا بسيطا إلى كونه ملكة، فغريزة معرفة، فمعيار تمييز ببين الحق والباطل، فمستعير بالحال لمعرفة السلوك المناسب للمآل، على نهج من الإيمان واليقين .
وقد سعى المتصوفة لتدعيم نظرتهم بشأن العقل، تارة بكشف موارد الاضطراب الذي حصل في تحديد معنى العقل، والذي استنتجوا من خلاله عدم صلاحية كل دخيل اصطلاحي يعتبر أن العقل جوهرا، مشيرين إلى أن هذا  التحديد هو من هفوات ابن رشد ومن سبقه من الفلاسفة، ورتبوا على هذه القناعة جملة من وظائف العقل منها :
أ- صورة الربط؛ بمعنى أن العقل  هو إدراك القلب للعلاقة بين معلومين .
      ب- صورة الكف؛ بمعنى أن العقل يمنح صاحبه من الوقوع يما يضر به من النزعات والشهوات والأهواء .
      ج- صورة الضبط؛ بمعنى أن العقل هو إمساك القلب لما يصل إليه حتى لا ينفلت منه([42]) .
كما عمدوا إلى تعميم نظرتهم تارة أخرى بالعودة إلى النصوص القرآنية، واستقراء الآيات التي ورد فيها مادة (عقل)، إما بصيغة فعل المضارع على سبيل الاستفهام مثل قوله تعالى:” أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون”([43]) ، أو على سبيل التقرير“لآيات لقوم يعقلون”([44]) ، أو على سبيل النفي:” أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون”([45])، فإذا تأملنا في الصياغة التي جاءت بها كلمة (عقل) ندرك من خلالها أمرين :
الأول: إن الفعل وصيغته إنما يدل على حدث في زمن وقع أو يقع في”الآن” غير قار، وهو بذلك يحدث عبرة أو يقظة أو ثقافة، حتى إذا ما استقرت وثبتت في مصدرها  كانت عقلا أو فؤادا أو لبا أو قلبا([46]) ، ومن هنا كان الاستنكار على قوم في قوله تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ“([47]) .
الثاني: إن ذكر العقل كمصدر لفعل التعقل قد ورد كثيرا في الروايات والأحاديث على تنوع اهتماماتها العبادية أو الأخلاقية أو السلوكية أو المعرفية، بحيث أنه أسمى ما خلق الله “العقل” وليس من المفارقة أن يعد الصوفية القلب مركزا للإدراك الذوقي أو الفهم أحيانا، أو المعرفة اليقينية على الإطلاق، فقد جرى الاستعمال القرآني على اعتبار القلب محلا للإيمان الصحيح، ومركزا للفهم والتدبر([48]) ، وقوله سبحانه وتعالى :” فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ “([49])، وقوله سبحانه وتعالى:” لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ “([50]) .
وقوله سبحانه وتعالى:” خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “([51]) ، وقوله سبحانه وتعالى:” ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ “([52]) .
 فقصور العقل عن إدراك الأسرار الإلهية، هو ما حذا بالمتصوفة إلى الاستعاضة عنه بـ(القلب) الذي هو الأداة الوحيدة المؤهلة للمعرفة الحقة([53]) ، وفي هذا الصدد يقول ابن عربي:”ولما كانت الأنبياء صلوات الله عليهم لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق”([54]) .
وبناء عليه فالمتصوف أثناء سلوكه لا يستعين بالعقل أو الحواس؛ لأنه يسعى إلى تكوين تجربته كلية،  تساهم فيها الذات برمتها، وهذا يقتضي منه إلغاء منافذ العقل والحواس التي ينظر منها إلى العالم، وجعل هذا الأخير ينظر إلى نفسه من خلال الإنسان .
كما أن المعرفة التي تقتصر على العقل تعتبر في نظر الصوفي غير يقينية، لأنها غير مباشرة، فهي تستخلص من مقدمات معينة نتائج تلزم عنها، وبوسائط لا يمكن الجزم بمدى صدقها([55].
ويقدم أبو حامد الغزالي صورة واضحة عن حقيقة التجربة ومنهج السلوك عند المتصوفة من خلال تجربته الخاصة، فيقول:” أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وبعمل، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم…فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات”([56]) .
فهذه شهادة صريحة من الغزالي تبين لنا أن التصوف في حقيقته (تجربة روحية)، يختلف منهجها تمام الاختلاف عن العلم، وهي بعيدة كل البعد عن عمل العقل الفلسفي، بل هي وليدة العمل ونتاج المجاهدة النفسية، فإذا كان للصوفي فلسفته كانت هذه الفلسفة تأييدا لمشاهدته الصوفية، وتجاربه، وليس شيئا مستقلا عنها([57]) .
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن العقل الصوفي الذي يصطلح عليه”بالعقل المؤيد” يمثل أعلى مراتب العقل من حيث الفاعلية العقلية، ثم يليه العقل المسدد، ثم العقل المجرد في رتبة أدنى، قالبا بذلك هرم الترتيب عند الجابري القائم على تفاضلية يحتل العقل البرهاني قمة الهرم، ثم يليه العقل البياني ثم العقل العرفاني، ويدلل طه عبد الرحمن على موقفه هذا بأن المعرفة التي يختص بها العقل المؤيد متوسلة بالتجربة الحية فهو قائم على النظر العملي أو الملابسة(التجريب)، وعلى نمط من التربية مبني على تحصيل الأخلاق النموذجية وتوصيل المعاني الروحية([58])، كما يجوز على الصفة الكمالية في الممارسة العقلانية من جهة كونه يتقي الآفات الخلقية كـ” التظاهر والتقليد” والآفات العلمية كـ” التجريد والتسييس”، الذين يقع فيهما كل من العقل  المسدد والمجرد .
ومن جهة أخرى يعتبر طه عبد الرحمن أن العقل المؤيد يتوفر على شروط كمال العقل المتمثلة في:” عدم انفكاك العلم عن العمل في الممارسة العقلية (اجتماع المقال والحال في التجربة الصوفية)، وعدم انفكاك معرفة موضوع أي علم عن معرفة (رؤية الله في كل شيء)، والاستزادة الدائمة في الممارسة العقلية من غير خروج إلى ما فيه احتمال الضرر (التقرب بالنوافل)”([59] )  .
ثالثا:مقومات التجربة الصوفية
التصوف في نظر أهله من حيث هو تجربة: طريقة مخصوصة تشتمل على مجموعة قواعد ودعائم ينشدها السالك في رياضته الروحية، مستهدفا غاية مخصوصة هي الفناء في الحق تعالى، والوصول عن طريق التطهر الروحي والمجاهدة إلى نوع من المعرفة التي تتجاوز في صفائها ووضوحها ألوان المعارف الأخرى([60])، وفي هذا الشأن يقول أبو حامد الغزالي:”هو العلم بكيفية تطهير القلب من الخبائث والمكدرات بالكف عن الشهوات، وإخماد القوى البشرية بقطع جميع العلائق البدنية، والإقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم، فبقدر ما ينجلي من القلب، ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه”([61]) .
وأول ركيزة أولاها الصوفية اهتماما هي استعداد السالك والمريد في خوضه غمار هذه التجربة، فوضعوا لذلك شروطا و آدابا تقيم وتضبط سلوكه في السير، فجاء عن أبي سعيد الخراز–رحمه الله– أن من أدب المريد، وعلامة صدق إرادته “أن يكون الغالب عليه الرقة والشفقة والتلطف والبذل، واحتمال المكاره كلها عن عبيده، وعن خلقه، حتى يكون لعبيده أرضا يسعون عليها، ويكون للشيخ كالابن البار، وللصبي كالأب الشفيق، ويكون مع جميع الخلق على هذا، يشتكي بشكواهم، ويغتم لمصائبهم، ويصبر على آذاهم”([62]) .
وفي هذه الرياضة وهذه المجاهدة، على الصوفي السالك أن يتخذ لنفسه مرشدا، أي رجلا محنك التجربة، عميق المعرفة، بصيرا بعيوب النفس، مطلعا على خفايا الآفات([63])، ولهذا شدد الصوفية على “الحرص على طلب شيخ صالح مرشد ناصح، عارف بالشريعة، سالك للطريقة، ذائق الحقيقة، كامل العقل، واسع الصدر، حسن السياسة، عارف بطبقات الناس، مميز بين غرائزهم وميولهم، وفطرهم وأحوالهم” ([64]).
وهكذا استقر الأمر بين الصوفية على أن تبعية السالك للشيخ أمر لازم لا يسع أحدا إنكاره وصار هذا بمرور الزمن من الأمور الضرورية، وقد برر الصوفية هذا الالتزام بأن مدارك هذه الطريقة ليست من قبيل المعارف الكسبية، وإنما هي ذات منبع وجداني إلهامي، ناشئة عن مجاهدة وعمل مخصوص، وهو ما لا يدرك بالمعارف الكسبية، وإنما يحتاج في تفسيرها إلى من عاش هذه التجربة فهو من يميزها بالعيان والشفاه، ويعلم هيئات الأعمال التي تنشأ عنها، وخصوصيات أحوالها([65]) .
ويتدرج الصوفي السالك المتأدب بأدب الشيخ في طريقه عبر سلسلة من المقامات، والمقام”هو الملكة الثابتة لما ينازله السالك من الصفات”([66])، فمعناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل([67])، وترد عليه في ترقيه من مقام إلى مقام أحوال، وهي:” المواهب الفايضة على العبد من ربه، إما واردة عليه ميراثا للعمل الصالح المزكي للنفس المصفي للقلب، وإما نازلة من الحق امتنانا محضا، وإنما سميت أحوالا لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات البعد إلى الصفات الحقية ودرجات القرب ، وذلك هو معنى الترقي”([68])   .
وقد اتفق كل من ابن عجيبة والهجويري والقشيري في تعريف الحال بأنه معنى يرد على القلب من غير تعمد، ولا اجتلاب ولا اكتساب من حزن أو بسط ، أو قبض، وهكذا …
وهذه المقامات التي يتدرج فيها السالك ، وكذا الأحوال النفسية المصاحبة لها تختلف من تجربة إلى أخرى، لذلك فقد اختلف شيوخ الصوفية في ذكر المقامات ووصف الأحوال، ومن ثم إن حاول أحدهم أن يرسم خطوات التطهر والتزكية والسمو الروحي، فإن خطته لن تتطابق بالضرورة وما رسمه الآخرون ([69]) .
أما بخصوص التزام الشريعة، فيركز إجماع شيوخ الصوفية على ضرورة التزام المريد في أثناء رياضته بأحكام الشريعة الظاهرة، والعمل بالتكاليف الدينية المكتوبة، باعتبار أن الالتزام بالكتاب والسنة هو المدخل الممهد إلى الرياضة والمجاهدة الروحية والتطهر النفسي([70])، فجاء على لسان الجنيد قوله:” الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه “([71]) .
ولم يقف الصوفية عند حدود ظاهر الدين، ولم يفهموا في وقت من الأوقات حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا  ينتهجون فهما يختلف عن فهم الفقهاء([72]) ، يشيرأحمد زروق(899ه-1493م) إلى هذا المعنى، وهو أن الناس في رجوعهم إلى الكتاب والسنة ثلاث مسالك: “منهم من تعلق بالظاهر دون النظر إلى المعنى جملة، وهم أهل الجحود من الظاهرية ، ومنهم من نظر إلى نفس المعنى، لكن جمعوا بين الحقائق فتأولوا ما يؤول وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقيق من أصحاب المعاني، ومنهم من أثبت المعاني وحقق المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون”([73]) .
وقد أوجس أوائل الصوفية خيفة من المبالغة في التفرقة بين الشريعة والحقيقة بما قد يؤدي إلى التراخي في القيام بواجبات الشرع، فألحوا في المطالبة بظاهر الشرع([74])، وفي هذا يقول سهل التستري :”أصولنا سبعة أشياء:التمسك بكتاب الله تعالى، والإقتداء بسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق”([75]) .
 ويقول أبو سعيد الخراز:” كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل”([76])  .
ومما يدل على أن التزام الصوفية بالشريعة، والإقتداء الدقيق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الرسالة التي وجهها القشيري لصوفية عصره، لما رأى منهم  فتورا واستخفافا بطاهر الدين، في قوله: “إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم  كما قيل: أما الخيام فهي كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها”([77]) .
ومن جانب آخر فقد أنكر الصوفية على من ذهب إلى التفريق بين الشريعة والطريقة، فيقول سهل بن عبد الله: “احفظوا السواد على البياض، فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق”، وعن أبي بكر الدقاق، قال سمعت أبا سعيد الخزار يقول: “كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل”([78]) .
ويعتبر الصوفية أن أعلى درجات القرب، ومنتهى المعراج إلى الله (المقامات) هو مقام الولاية، وللولي معنيان: “أولهما: هو الذي يتولى الحق حفظه وحراسته، فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى رعايته على التوالي، ويديم توفيقه إلى الطاعات، وثانيهما: من يتولى عبادة الله وطاعته، فطاعته تجري على التوالي من غير أن تتخللها معصية، فيكون وليا  بمعنى توالي طاعته لربه”([79]) .
ويرتبط بمقام الولاية خاصية الكرامة “وهي خرق العادة على غير المألوف والطبيعي، فهي تدخل في باب المعجزات”([80]) ، و”تظهر على عبد تخصيصا له وتفضيلا، وقد تكون باختياره ودعائه، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات”([81]) .
والكرامة نوعان: كرامة ظاهرة وأخرى باطنة، أما الظاهرة فهي التي يراها الغير، وقد تعود ثمرتها عليه، وهي كما سبق القول علامة على صدق الولي وعون له على طاعته ودالة على صدق دعواه، أما الباطنة فهي التي لا يراها سوى الولي ذاته، وهي خاصة به ومقوية ليقينه، وعليه سترها وإخفاؤها([82]) .
وأختم دعائم التجربة الصوفية، ومراحل السير الصوفي بجملة من الخصائص والمميزات التي يضفيها محمد إقبال على هذه التجربة، والتي نرى أنها جديرة بالوقوف عندها، لما فيها من إرشاد للباحث والدارس للتصوف:
-هي تجربة أو رياضة تصل إلى النفس مباشرة، وهي في هذا لا تختلف عن غيرها من مستويات التجارب الإنسانية التي تمدنا بمادة للمعرفة، فكل التجارب مباشرة، وكما أن نواحي التجربة العادية تخضع لتأويل موضوعات الحس لتحصيل العلم بالعالم الخارجي، فكذلك مجال التجربة الصوفية يخضع للتأويل لتحصيل العلم بالله ([83]) .
-الرياضة الصوفية كل لا يقبل التحليل، فحال المتصوف مهما ظهرت بوضوح ومهما بلغت من غنى، فإن التفكير فيها يصل إلى الحد الأدنى من درجاته، ويستحيل تحليل مدركات هذه الحال كما نحلل الإدراك الحسي .
-إن الحالة الصوفية عند المريد هي لحظة من الاتصال الوثيق بذات أخرى فريدة سامية محيطة تفنى فيها الشخصية الخاصة للمريد فناء موقوتا، وهي حالة موضوعية لدرجة كبيرة، ولا يمكن أن تعد مجرد عزلة في تيه الذات الخالصة .
-بما أن المعرفة الصوفية معرفة مباشرة، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يطلع عليها؛ أي نقلها لإنسان آخر، وذلك لأن الحالات الصوفية أشبه بالشعور منها بالعقل، وما يعلنه الصوفي أو النبي من تفسير لفحوى محتويات شعوره الديني يمكن أن يبلغ إلى الناس على صورة قضايا، ولكن محتويات الشعور الديني نفسها لا يمكن الاطلاع عليها أي نقلها لغيره([84]) .
-إن اتصال المريد بالذات الأزلية، ذلك الاتصال المباشر الذي يبعث في نفسه شعورا بأن الزمان المتجدد لا حقيقة له، لا يعني الانقطاع التام عن الزمان المتجدد، فالحالة الصوفية باعتبار تفردها تظل متصلة بالتجربة العامة على وجه ما، ويتضح هذا من أن الحالة الصوفية سرعان ما تتلاشى، وإن كانت بعد ذهابها تخلف في النفس إحساسا عميقا بالسلطان([85]).
([1]) محمد عبد الله الشرقاوي ، الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي، د . بقية المعلومات ، 1993م ، ص57 .
 ([2]) الحجرات، الآية :13 .
 ([2])النساء ، الآية : 77 .
([3])الطلاق ، الآية : 3 .
([4])المائدة ، الآية : 54 .
([5])البقرة ، الآية 282 .
(6) الكهف ، الآية : 65
( 7)البقرة ، الآية 282 .
 ([8])السجدة، الآية: 16.
([9]) العنكبوت ، الآية: 5 .
 ([10])الأحزاب : الآية :41 .
([11]) النمل ، الآية 62 .
([12])أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ، مدخل إلى التصوف الإسلامي ، ط3، دار الثقافة ، 1399ه/1979م  ، ص43 .
([13])مرتضى مطهري ، الكلام والعرفان ، تعريب علي خازم ، ط1، الدار الإسلامية ، بيروت ، لبنان ، 1413ه/1992م ، ص80 .
([14]) الشرقاوي ، الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي، مرجع سابق ، ص158 .
 ([15])محمد بن اسماعيل البخاري ، الجامع الصحيح ، دط ، بيت الأفكار الدولية للنشر،  الرياض ، السعودية ، 1419ه/ 1998م ، رقم الحديث : 6982، ص1334 .
([16]) الغزالي، الإحياء ، دط، مكتبة كرياطة فوترا ، سماراغ ، أندونيسيا ، دت، ج2، ص226 .
([17]) حمد مصطفى حلمي ، الحياة الروحية في الإسلام ، ط2، الهيئة العربية للكتاب ، ص23_26 .
([18]) مسلم ين الحجاج القشيري، الجامع الصحيح ، اعتناء ومراجعة : هيثم خليفي الطعيمي ، دط، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، لبنان ، 1412ه/2004م ، رقم :7124، ص1057.
([19]) المرجع نفسه ، حديث رقم 7124، ص1057.
([20]) أبو عبد الله ابن ماجه القزويني ، السنن (4أجزاء في مجلد واحد) ، تقديم : محمد بربر، دط، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، 1431ه/2010م، ج3، رقم الحديث: 4102، صححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه ، ط3، مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الرياض ، 1408ه/ 1988م ، كتاب الزهد ، باب الزهد في الدنيا ، مج2، ص 392.
 ([21])البخاري ، مرجع سابق ، حديث رقم 6502: ، ص29 .
([22]) مسلم ، مرجع سابق ، حديث رقم :93 ، ص29 .
([23]) أيو نصر السراج الطوسي ، اللمع ، تح عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ، دط، دار الكتب الحديثة ، مصر ، 1380ه/1910م ، ص173 .
 ([24])داود علي الفاغوري ، التصوف من خلال النشأة والتطور ، تقديم ومراجعة: عبد الرحيم السلوادي ، دط، زهران للنشر ، عمان ، الأردن ، 1431ه/2010م ،ص40_41 .
([25])الفاغوري، مرجع سابق ص42 .
 ([26]) ابن خلدون ، المقدمة، ضبط وشرح وتقديم محمد الإسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ، 2012م، ص432 .
([27]) ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص43.
([28]) المرجع سابق ، ص43 .
([29]) المرجع نفسه ، ص44 .
([30])الفاغوري، مرجع سابق ،ص 46.
([31]) المرجع السابق ، ص47_48 .
 ([32]) محمد إقبال ، تطور الفكر الفلسفي في إيران : مساهمة في تاريخ الفلسفة الإسلامية ،تر حسين محمد الشافعي ومحمد السعيد جمال الدين ، ط1، الدار الفنية ، 1409ه/1989م ، ص83_84 . 
 ([33])  المرجع السابق ، ص47_48 .
([34]) طلعت غنام ، أضواء على التصوف ،دط، دار الزيني للطباعة ، مصر الجديدة ، مصر ، 1979م ، ص126 .
([35]) الشرقاوي ، الصوفية والعقل : دراسة تحليلية مقارنة للغزالي وابن عربي وابن رشد ، ط1، دار الجيل ، بيروت ، 1416ه/1995م، ص188 .
 ([36])غنام ، مرجع سابق ، ص126 .
([37]) أبو العلا عفيفي ، التصوف :الثورة الروحية في الإسلام ، ط1 ، دار المعارف ، القاهرة ، مصر ، 1961م ، ص256 .
([38]) أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، تقديم صدقي جميل العطار ، دط، دار الفكر ، بيروت ، 1423ه/2003م ، ج3، ص4 .
([39]) أبو الحارث المحاسبي ، شرف العقل وماهيته ، تح مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ص19،20 .
([40]) الغزالي ، إحياء علوم الدين ، دار الأرقم ، ط1 ، 1998م ، ص128_132.
([41]) الغزالي ، المرجع نفسه ، ص128_132.
([42])طه عبد الرحمن ، العمل الديني وتجديد العقل ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، 1997م ، ص19 .
([43]) البقرة ، الآية :44 .
([44]) البقرة ، الآية: 164 .
([45]) البقرة ، الآية : 170 .
([46]) طه عبد الرحمن ، مرجع سابق، ص 19 .
([47]) الحج ، الآية : 46 .
([48]) عفيفي ، مرجع سابق ، ص 254 .
([49]) محمد ، الآية : 22 .
([50]) المجادلة ، الآية : 22 .
([51]) البقرة ، الآية : 7 .
([52])المنافقون ، الآية: 3 .
([53]) محمد آيت حمو ، ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف ، ط1، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، 2010م ، ص137 .
([54]) محي الدين ابن عربي ، فصوص الحكم ، تعليق: أبو العلا عفيفي ، ط1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، دت، ص133 .
 ([55]) محمد آيت حمو ، مرجع سابق ، ص139_140 .
 ([56]) الغزالي ، المنقذ من الضلال ، تح جميل صليبا ، وكامل صياد ، دط ، دار الأندلس ، بيروت ، لبنان ، دت ، ص130_132 .
([57] )عفيفي ، مرجع سابق ، ص 15 .
([58]) عبد الرحمن ، مرجع سابق ، ص ص119_122 .
([59]) المرجع نفسه ، ص 146_153 .
([60])عرفان عبد الحميد فتاح ، نشاة الفلسفة الصوفية ، ط1، دار الجيل ، بيروت ،1413ه/1993م ، ص141_143 .
 ([61])الغزالي ، الإحياء ، تقديم صدقي جميل العطار ، مرجع سابق ، ج1، ص25 .
([62]) الطوسي ، مرجع السابق ، ص 276 .
([63]) فتاح ، نشأة الفلسفة الصوفية ، مرجع سابق ، ص144 .
([64]) عبد الله بن علوي الحداد ، رسالة آداب سلوك المريد، كتبه محمدصفوان محمود الصافي ، ط1 ، دار الحاوي ، 1414ه/1994م، ص51 .
([65]) ابن خلدون ، شفاء السائل و تهذيب المسائل ، تح محمد مطيع الحافظ ، ط1، دار الفكر ، دمشق ، 1417ه/1996م ، ص123_129 .
([66]) عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، مشارق أنوار القلوب ومفاتي أسرار الغيوب، دط، دار صادر، بيروت ، لبنان ، دت ، ص67 .
 ([67])الطوسي ، مرجع سابق ،ص65 .
 ([68]) عبد الرزاق القاشاني ، معجم اصطلاحات الصوفية ، تح عبد العالي شاهين ، ط1 ، دار المنار ، مصر ، 1413ه/1992م ، ص52 .
 ([69]) فتاح ، مرجع سابق ،ص150.
 ([70]) المرجع نفسه ، ص150_153 .
([71]) السيروان ، الصوفيون وأرباب الأحوال ، تقديم أح كفتارو ، ط1، السيروان للطباعة والنشروالتوزيع ، سوريا ، 1425ه/1995م ، ص60 .
([72]) عفيفي ، مرجع سابق ، ص119.
([73]) أحمد زروق ، قواعد التصوف ، ضبط وتعليق محمد بيروني ، ط1 ، سوريا ، دمشق ، 1424ه/2004م ، ص112 .
([74]) مرجع سابق ، ص 119 .
([75]) عز الدين السيروان ، الصوفيون وأرباب الأحوال ، تقديم أحمد كفتاو ، ط1، السيروان للطباعة والنشر والتوزيع ، سوريا ، 1425ه/199(م ، 82 .
([76]) السيروان ، مرجع سابق ، ص 91 .
([77]) أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، الرسالة االقشيرية، تح عبد الحليم محمود ومحمد بن شريف ،دط، دار المعارف، القاهرة ، دت،ج1، ص 16 .
([78]) عبد الرحمن بن الجوزي ، تلبيس ابليس ، دط، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، دت ، ص214 .
([79]) القشيري ، مصدر سابق ، ج2 ، ص416 .
([80])حسن الشرقاوي ، معجم ألفاظ الصوفية ، ط1 ، مؤسسة محتار ، القاهرة ، مصر ، 1987م ، ص240 .
([81]) المرجع سابق ، ج2 ، ص521.
([82]) جاد الله ، مرجع سابق ، ص 135.
([83]) إقبال ، تجديد التفكير الديني ، تر عباس محمود، ط2 ، دار الهداية ، باكستان ، ص27_32 .
([84]) المرجع نفسه ، ص 27_33 .
([85])المرجع نفسه ،ص 27_33 .
....

المصدر : موقع طواسين

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...