الخميس، 11 أبريل 2019

موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )



موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )





وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم الفكرية التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق والصنعة والصانع فأي كفر أعظم من هذا وأي نقص ينسب إلى الله أعظم من ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، والصوفية أهل الحق براء من ذلك .

فوحدة[7]الوجود التي يرمز إليها بعض الصوفية أمر معنوي وعلم رباني يتعلق بتحقيق الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله عرفوا ذلك وتحققوا فيه بنور رباني وقد قيل فيه ( أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ، وعرفوا ذلك أيضاً بتحققهم بالتبعية المحمدية حيث قال الله لنبيه في كتابه :

" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "[8]

... الآية فالبصيرة المشار إليها هي الؤية القلبية والمشاهدة الباطنية لحقائق الأمور وبواطن الأشياء فيكتسب صاحبها علماً لا مطمع للحصول عليه بالفكر أو بالعقل أو النظرة الحسية ،فنظر رحمك الله إلى قوله تعالى لنبيه :

" عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "

... الآية فليس هذا النور وتلك المشاهدة القلبية خاصة بالنبي r وآله ولكن يشاركه في هذا المشرب من اتبعه بحق وهم خواص أمته فمن لم يتحقق بتلك التبعية المحمدية في الأقوال والأفعال والأحوال ، أو قل في ( الإسلام والإيمان والإحسان ) أو قل في (عمل الظواهر من الوقوف عند الحدود ، وفي عمل البواطن من التوكل والرضا والتعلق بالمعبود ، وفي عمل السرائر من الأذواق والمعارف والتحقق بأسرار الوجود ) وإلا فلا مطمع له بالوصول إلى مراتب الكمال ومقامات الرجال لأنه مقيد بالوهم والخيال وبالنفس الأمارة التي تتغطرس وتتكبر فتظن أنها تخرق الأرض وتبلغ الجبال طولاً وما هؤلاء بالنسبة للرجال الكمل من ذوي المعارف والأسرار إلا بمنزلة الصبيان .

فليس المراد بوحدة الوجود عند هؤلاء الصوفية وجودين قديمين اتحدا ولا قديم وحادث اتحدا تعالى الله عن ذلك فإنه سبحانه لا يحل في شئولا يمازج شيئاً ولا شئ في ذاته في خلقه ولا من خلقه في ذاته ، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود ولا يحمله شئ ولا هو حامل لشيء استوى على عرشه بذاته استواء يليق به ، مطلق في ذاته وصفاته وأفعاله لا تقوم صفاته إلا بذاته ولا تفارق ذاته صفاته تنزه عن أوصاف خلقه قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "

وكل من يتكلم في التصوف من غير أن يتذوقه ويتحققه وينصب نفسه قاضياً وحاكماً قاسياً على أولياء الله من رجال التصوف الإسلامي ويصدر حكمه فيهم بما عنده من الجهل بحقائقهم ويؤول كلامهم الذي لا يفهم معناه على مراده هو ، لا على مرادهم هم إنما ذلك لخبث في طويته أو جهل مركب أو هما معاً فلا يؤخذ بقوله في شأن الصوفية والتصوف الإسلامي لأنه جاهل بذلك إذ ليس من اختصاصه .

فقد قال أحد الصالحين ( إن كل من يتكلم في التصوف أو يحكم عليه من غير أن يعرف حقائقه ويتذوق معانيه إنما هو جاهل بالتصوف والصوفية فمثله كمن رأى جرة مملؤة مغلقة ورأى النحل يحوم حولها فحكم على ما في باطنها من تحويم النحل عليها من غير أن يتحقق بما فيها ) .

والنحل هو الإشارات والرموز التي توحي بأن هناك شيئاً لا يستطيع من يراه التعبير عنه لدقته وغرابته بين العامة لأنه من أسرار الله تعالى ، كما قال ابو هريرة رضي الله عنه ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني هذا البلعوم ) صحيح رواه البخاري وقال الإمام زين العابدين :-

إني لأكتم من علمي جواهره        كيلا يرى ذاك ذو جهل فيفتـنا

وقد تقدم في هذا أبو الحسن    إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يارب جوهر علم لو أبوح به        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي     يرون أقبـح ما يأتونـه حسنـا

وأما الأشخاص الذين حكموا على ما في الجرة خطأ فهم الذين يتكلمون في التصوف بغير علم ولا تحقق ويزعمون أنه على علموان لهم يداً على أهل الله وأوليائه وهم مخطئون لأنهم لم يعرفوا التصوف ولم يلموا بمصطلحاته ورموزه وعباراته.

وقد قال الشيخ محي الدين بن عربي في الباب 314 من الفتوحات المكية : " لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته ، والملك عن ملكيته ، ويتحد بخالقه تعالى ، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً ، وصار الحق خلقاً ، والخلق حقاً ، وما وثق أحد بعلم ، وصار المحال واجباً ، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً " كما قال في ذلك شعراً :

ودع مقالة قوم قال عالمهم        بأنه بالإله الواحـد اتحـدا

الاتحاد محال لا يقول بـه           إلا جهول به عن عقله شرداً

وعن حقيقته وعن شريعته          فاعبد إلهك لا تشرك به أحدا

فانظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة ، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه ، وإما فهم على غير حقيقته... فليتقالله من يطلق لسانه على أهل الله تعالى ( راجع اليواقيت والجواهر جـ1 ص80 –81 ) ، وهذا أيضاً غير ما أشار إليه الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات جـ4 ص372-379 (ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له) .

وقد قال الشيخ علوان الحموي ( ت 936هـ ) في أحكام النظر صـ187 ومن ذلك ما أثر من كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه. فقال معلقاً على المعنى : مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء ، ولا يحل فيه شيء ، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فاوله .

ومن التأويل الواعي ما قاله الشيخ ابن تيميه : ( في مجموعة الرسائل والمسائل صـ 86 ) : " إذا قال قائل إلا ورأيت الله فيه " ، أو قبله وبعده ، بمعنى ظهور الصانع آثار الصانع في صنعته .

فهذا القول صحيح ـ بل القرآن كله مبنى على هذا ، وهو سبحانه نور السموات والأرض

أما الشيخ الهجويري (ت. 470هـ) في كتابه ( كشف المحجوب صـ115) تعليقاً على هذه العبارة فقد قال : " إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع " وقال أحد العارفين : ( أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص البصر ، والشهود من خصائص البصيرة ) ن فليتدبر ذلك من يهاجمون الصوفية ، وليتعظوا بمقولة الشيخ ابن تيمية ، وغيره من أهل المعرفة والبصيرة .

فعلى كل حال سنترك كل من يطوي خبثاً وإساءة لأولياء الله الذاكرين الله كثيراً من رجال التصوف الإسلامي سنتركه إلى الله يوم تنكشف الأستار ، وتبرز الأسرار فيعرف حين ذلك ما عندهم من الحقائق وما عنده من الخيال ، ولكن بعد أن يقطف ثمرة الخسران من القطيعة والحرمان ويندم حين لا ينفعه الندم . قال عليه الصلاة والسلام في شأن الذاكرين حديثاً له معناه ( لا يتحسر أهل الجنة في الجنة إلا على ساعة مرت في الدنيا لم يذكروا الله فيها ) وقال تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) سورة الرعد / 28 .

فماذا نقول لأمثال هؤلاء إلا (أنهم نيام عن الحقائق فإذا ماتوا انتبهوا) فبدلاً من أن يثوبوا إلى رشدهم ويذكروا ربهم ويصحبوا هؤلاء الصادقين الذن امر الله بصحبتهم قال تعالى :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "[9]

فبدلاً من ذلك أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم لتمطر على الذاكرين والصالحين مطر السوء فرحماك اللهم فأنت أرحم الراحمين .

بما سبق لخص أحد المفكرين نشأة التصوف في الإسلام ويؤيد هذا الرأي عن نشوء التصوف ما ذكره العلامة القشيري حيث يقول الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في رسالته ( الرسالة القشيرية )[10] :-

( أعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله r لم يتسم أفضلهم في أجيالهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله r إذ لا فضيلة لهم فوقها فقيل لهم ، ( الصحابة ) ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة ( التابعين ) ، ورأوا ذلك أشرف سمة ، ثم قيل لمن بعدهم ( أتباع التابعين ) ، ثم أختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ( الزهاد والعباد ) ، ثم ظهرت البد وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم ( الصوفية ) واشتهر هذا الأسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة .

وهكذا يتبين لنا أن التصوف نشأ مع اللإسلام وولد معه ، لأنه جزء منه وليس بشيء زائد عليه بل هو التطبيق العملي والجانب الروحي منه ، وهو لا يمت بصلة إلى ما يقوله أعداء الإسلام عنه أنه مأخوذ عن الأمم الأخرى ، بل ما هو في واقع الأمر إلا حال النبي r وآله والقرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية ، وما الصوفي إلا المسلم الذي يكون في حاله مع الله ومع الناس أقرب شئ إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصفوة أصحابه . 
...

المصدر: الصوفيــة والتصــوف في ضوء الكتاب والسنـة

تأليف الشيخ السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...