الاثنين، 15 أبريل 2019

مقام المحاسبة



بسم الله الرحمن الرحيم
 مقام المحاسبة






الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....

وهي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف عقبة أمامها في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص. وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم:(( الكِّيسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ اتْبع هواه ، وتمنى على الله الأماني)) .(رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة)

ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل ، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو البطالة ؟!

قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى : ( من الخشية تكون المحاسبة ، ومن المحاسبة تكون المراقبة ، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) (البرهان المؤيد للسيد أحمد الرفاعي رحمه الله ص56.)

وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني ؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته ، يطوي بطنه على الجوع ، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، و أنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا الماء ، قال صلوات الله وسلامه عليه: (( هذا من النعيم الذي تُسألون عنه)) (تفسير ابن كثيرج4/ص545موجزا).

أيٌّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه ، ويُُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة . أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف و الشعور الدقيق والتبعية الكبرى و المسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟

وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً ، وأنه لابد راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) ( رواه مسلم في كتاب الزكاة و الترمذي في كتاب صفة القيامة) .

وبالمحاسبة ينبثق من قلب الإنسان الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح ، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }(الذاريات:50) .

ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى ، مجيباً هواتف الغيب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} ( التوبة: 119).

وإنما القوم مسـافـرونـا..........لحضـرة الحـق وظـاعنـونـا

فآواهم المبيت في حضرته الكبرى ، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى:{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر:55)

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده : ( الغفلة محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به ، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها ، والتضييق عليها يوجب نفرتها والرفق بها معين على بطالتها . فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون المحاسبة مع واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله : لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله)(قواعد التصوف للشيخ أحمد رزوق ص75)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...