السبت، 18 أبريل 2020

مفهوم الكتابة عند محيي الدين بن عربي


مفهوم الكتابة عند محيي الدين بن عربي

محمّد خطّاب

باحث وأكاديمي من الجزائر





إن ظاهرة الكتابة عند ابن عربي مهمة جدا ولعلها مركزية في نصوصه العرفانية، فهي تعني الممارسة الحرة والفنية والواعية أيضا للغة وللمكتسب اللساني الذي يرتبط به عمقيا: «فالشيخ الأكبر لا يقارب مفاهيمه بناء على النظر الفكري ولا يخضعها للتنظيم المنهجي، الذي قد نصادفه لدى المتكلمين أو الفلاسفة، وإنما يحتكم، في الغالب الأعم، إلى تجربته الروحية، ويترقب كتابته مما يرد عليه من أحواله ومقاماته»(1).
وسيخضع تحليلنا لهذه الظاهرة من مواقع مختلفة، منها موقع المفهوم للكتابة في حدّ ذاتها كحدث لساني داخل ثقافة معينة، وكذلك فعل الكتابة الصوفية التي تختلف عمقيا عن غيرها في حقول مختلفة، وأيضا من موقع الكتابة في شكلها الوجودي الصرف والمتعلقة بالمفهوم العام المرتبط بالغيب.
هذه مواقع ننظر منها إلى فعل الكتابة كما يناقشه ابن عربي في أكثر من مناسبة. لكن فعل الكتابة في حدّ ذاته له ارتباطاته بأفعال أخرى تحددها اللسانيات الحديثة في شكل نظري بحت، منها الكلام، وهو الحدث الضمني الموجود بالقوة في كل كتابة إنسانية أووجودية، لكن مقاربة الكلام في ذاته أيضا محفوف بنوع من المخاطر، يتعلق الأمر بمفهوم الكلام الإلهي إذا قيس بالكلام الإنساني أوالبشري بصورة أوضح. الكلام له علاقته بالصمت في عرفانية ابن عربي، لأن المسألة معقودة بتجربة أكبر هي تجربة التصوف التي لا تسمح بالتمايز بين سائر المفارقات. سنحاول مناقشة حدث الكتابة أولا في علاقته بالكلام، والكلام في صوره المختلفة والرمزية.
في كتابه روح القدس، والذي يُعدُّ وثيقة خاصة ملتبسة بحياة الشيخ الشخصية، يلفت ابن عربي الانتباه إلى علاقته بالتكلم أو بالكلام، فمن خلال تجربته الصوفية الكبيرة يبدو له الكلام زائدا عن الحاجة، إذ المتصوف في طريق تحقيقه للمعرفة يصفو كلامه وتدق عباراته، وهو يقول في ذلك: «فإني كنت شديد القهر لنفسي في الكلام»(2) وهذا يعني أن التجربة أكبر من أن يستوعبها لسان أو نطق، فهي تتجاوز لحظة الكلام وتستلزم الصمت. الجدل بين الكلام والصمت عند ابن عربي يأخذ بُعدا فلسفيا ووجوديا، فهو ينطلق من تجربته التي تظل حية وواعية بذاتها، وتظل أيضا المعين الذي لا ينضب بالنسبة إليه كعارف في طريق المعرفة الإلهية التي لا نطق معها. إننا من خلال القراءة المتنوعة لبعض المتون الصوفية لابن عربي خاصة، لاحظنا مدى التأثر الشديد بصاحب المواقف والمخاطبات الذي جسد فكرة الصمت في مقابل شهود المعنى الإلهي الذي لا كلام معه. لقد عرف كيف يستفيد ابن عربي من غيره ولو بطريق الرمز والإيماء والإشارة البعيدة. إنه لا يصرّح بذلك ولكن نصه صريح بمظاهر التأثر الشديد.
ففي كتابه مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية, يلمح ابن عربي إلى علاقة الصمت بالكلام في تجربته الصوفية والتي تتضمن بالضرورة تجربة جمالية لا تفارقها لأنها تمثل نسغها ودمها الذي يسري فيها. تجربة المشاهد تركز على التلميح دون التصريح وعلى الإشارة دون العبارة: «وقال لي: خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور»(3) وهذا الستر له سند من حياة اللغة في حدّ ذاتها، ومن النص المركزي الذي هوالقرآن الكريم: «ثم قال لي: أنظرني في النظم المحصور، وهوموضع الرمز، ومحل للغز الأشياء. ولوعلم أن في شدة الوضوح لغز الأشياء، ورمزها، لسلكوه. أنزلت الآيات النيرات دلائل لمعان لا تفهم أبدا»(4) وهوتعبير دقيق عن معاني قد صاغها النفري بقوة العبارة وجمال البلاغة في المواقف والمخاطبات، مثل قوله: «وأنا من وراء اللسان»(5) فكون المعنى الذي تختزله الرؤية العرفانية خافيا ومستورا وغائبا دلّ على عجز البيان أواللسان، ثم يصبح الصمت سيد الموقف لمّا تتجلى الحقائق في صورتها القاهرة: «يا عبد من رآني جاز النطق والصمت»(6).
دلّ اشتغال ابن عربي على مضمون الكلام والصمت بفاعلية أكثر إدهاشا للقارئ المعاصر الذي يرى بأن ما تقوله الفلسفة الحديثة قد استبصر به ابن عربي عن طريق الكشف، وهذا ما سميناه بالتعبير عن المطلق الذي تشترك فيه ذوات كثيرة لا تحُدُّها الأمكنة ولا الأزمنة، أوكما قال رودولف أوتوعن التصوف من حيث هومطلق لازمني ولا تاريخ له، إنه واحد في الزمان والمكان.(7) إن ابن عربي في نص سابق حول الحضور والغياب يوحي بمسألة تجذر الموقف الجمالي المعاصر في الفكر الإنساني الذي يشتغل بدوره على هذه الثنائية الصعبة. نحن سنشتغل على مشهد مهم هومشهد نور الصمت بطلوع نجم السلب الذي يقول في مقدمته: «أشهدني الحق بمشهد نور الصمت، وطلوع نجم السَلْبِ، فأخرسني، فما بقي في الكون موضع إلا ارتقم بكلامي، وما سطر كتاب إلا من مادتي وإلقائي»(8) وهي مقدمة تعبر عن حقيقة الصمت في مقابل الكلام. الصمت الذي يعني التكلم. فنور الصمت يأتي من كون الكلام صفة عارضة: «فالعبد صامت بذاته متكلم بالعرض»(9) الطرح الذي طرحه ابن عربي يتجاوز المعنى التقليدي للصمت، فهو معني بالصورة الرمزية حيث الصمت له حضوره في الوجود. فالذي خلق صفة الكلام هو الله، والمتكلم في الحقيقة هو الله لأنه خالق هذا الكلام، أنطقه الله تعالى فهومتكلم بالعرض، أما في حقيقته فهوصامت. ثم ينسحب مفهوم الصمت جماليا إلى أقاصي أخرى من العرفان الأكبري حيث يتجلى الكلام فقط من حيث كونه مؤثرا وفاعلا، وهو الصادر عن الله الخالق بقدرة كن: «وعن الكلام صدرنا وهو قوله: كنْ فكنّا، فالصمت حالة عدمية والكلام حالة وجودية»(10) ومن هذا الباب فقط تبدو صورة الكلام من حيث علاقته بالذات الإلهية مصدر الوجود، وليس المقصود بالكلام مجرد معناه الطبيعي، بقدر أن المقصود هو النطق بالكلمة، وحاصلها هوعالم الموجودات. ولو عدنا إلى نص المشهد المذكور سابقا لوجدنا أن فكرة الصمت تتجاوز المعطى العام الذي يعرفه الناس لتتلبس بالمعنى الوجودي الخالص الذي يخص الذات الإنسانية وبخاصة العارف: «ثم قال لي: الصمت حقيقتك»(11) وتتجلى هذه الحقيقة في حدث الكلام، وهذا يجعل منطوق النصوص ذات طبيعة جدلية ويدخلنا في عملية تأويل صرفة: «ثم قال لي: على الكلام فطرتك، وهو حقيقة صمتك. فإذا كنت متكلما فأنت صامت»(12).
لوأمكن العودة إلى المصادر الأساسية في الفكر الغربي خاصة نجد صدى كبيرا لمثل هذه المعاني منعكسة في الكتابات الفلسفية ذات الجذور العميقة. بعض الفلاسفة ممن التزموا خط التفكير في الإنسان ومشاغله القصوى، مثل هايدجر، لم يكتفوا فقط بالحديث العام عن القضايا التقليدية التي تحدث عنها الفكر البشري منذ القديم، بل شعروا بالحاجة إلى التعبير عن المشاغل الراهنة والأساسية التي لها علاقة بالشرط الإنساني وبخاصة مسألة اللغة التي قال عنها هايدجر بأنها: «بيت الكائن.»(13) إنها مسألة معقدة لأنها تمثل شبكة من العلاقات المتناقضة، ففي اللغة نجد الوجود بأكمله بما في ذلك الوجود الإنساني. ونقصد بالوجود العياني المادي أوالمعنوي، فعن طريق اللغة يوجد الإنسان، وهوما كان يعبر عنه ابن عربي في قضية الكلام والصمت. إننا نحاول مقاربة مسألة الكتابة عن طريق مصادرها الأساسية والتي تتمثل أولا وقبل كل شيء في الكلام، والكلام ليس ظاهرة بسيطة يمكنها أن تحلل بكيفية عادية، بل هو ظاهرة معقدة له صلة بالوجود البشري ككل، والكلام أيضا ليس صفة بشرية بل هوصفة إلهية محضة، وبيان طبيعة صفة الكلام الإلهي معنى يستغرق كتبا في التصوف والفكر والفلسفة إن لم نقل أزمنة وجهودا وأجيالاً. مقاربة الفلسفة انطلاقا من بعض رموزها الكبرى تَعِدُنا بالكثير فيما يتعلق بجماليات اللغة بكل متعلقاتها في باب العرفان الإسلامي. ودراسة ابن عربي لهذا الشأن دراسة تتفرع على أوجه وأبواب وتفاريع مختلفة، فهولم يناقش هذه المسألة بطريقة كلاسيكية عادية، بل رأى إلى أوجهها الخفية واطلع عليها رمزا وأشار إلى كل ذلك إشارة، وعلى الدارس حينئذ أن يتفطن للعبة الكلمات التي تعيد صياغة الفكر من منظور جديد.
ما هي أطروحة ابن عربي في الكلام والكتابة والصمت؟ كيف تتجلى الجماليات في المسائل التي طرحها داخل منظومة العرفان؟ كيف تشكلت هذه المسائل لتأخذ صفة الجمالية؟ وهل هذه القضايا لها راهنيتها ومستقبلها؟ كيف يمكن الحديث عن أبعاد هذه المسائل على المستوى الروحي والمعرفي؟ هذه جملة من الأسئلة التي ستكون الإجابة عنها تشكل مادة هذه الدراسة. وقد دلّت الصفحات السابقة رؤية تبسيطية لبعض هذه المسائل التي ستظلّ حاضرة دائما في صلب النقاشات المعاصرة.
في فلسفة ابن عربي وتصوفه نجد إرهاصاتٍ لمعانٍ تدلّ دائما على ما هوآتٍ. لا يتحدث ابن عربي عمّا مضى بشكل ميت، بل يستعمل ما هوحيٌّ في اللغة لكي يتجاوز عصره، وهذا يبرّر حقا مدى الاهتمام الكبير بعرفانيته على جميع المستويات. في الفتوحات المكية نجده يقول عن الكلام: «فما عندنا في الوجود صامت أصلاً»(14) أي كل شيء يتكلم بالضرورة، وإن لم يقصد الكلام فقد قصد معنى النطق بالدلالة، نطق باللسان أوبغير اللسان. هكذا يتحدث ابن عربي أيضا في كتابه المشاهد: «تكلمت أوصمت فأنت متكلم»(15) أو بتعبير هايدجر الذي يتقارب مع مفهوم ابن عربي: «نحن نتكلم باستمرار حتى لولم ننطق بكلمة»(16) والدلالة متقاربة إن لم نقل بأنها واحدة، ولكن التعبير عنها مختلف بحسب موقع كل واحد منهما في لغته. يحاول ابن عربي أن يوحي بدلالة الوجود الذي يتكلم بالضرورة. فالعالم بما فيه من أشياء وموجودات لا ينقطع عن الكلام أبدا، فدلالته مستمرة ما دام موجودا، وهذا حاصل ما يراه العارف في هذا الوجود. فعلى المستوى الجمالي نلاحظ أن ابن عربي يوسع من دائرة المعنى الخاص بالكتابة والكلام والصمت بحكم كونه متضمنا في عملية الكلام والدلالة، ويجعل هذه الدائرة تنداح إلى دوائر أخرى عبر القراءة التي تستمر مع القارئ.
ربما يحق لنا أن نسأل كيف يمكن أن يتشكل فعل الكلام في الوجود؟ لا شك أن بداهة الإجابة ستكون متمحورة حول فعل الكتابة التي يقول عنها ابن عربي بشكل أخّاذ ورمزي: «فإن الكتابة أمر وجودي فلا بد أن يكون متناهيا»(17).
المرحلة الجديدة في فعل الكتابة تبدأ من هذا الوجود الذي يتحدث عنه ابن عربي بشكل رمزي. ولكن طبيعة المقاربة لظاهرة الكتابة لا بدّ أن تبدأ من المعنى التقليدي للكتابة، لأن هذا الفعل الرمزي سيتسع ليدل على مفهوم أوسع وهي كتابة الوجود الذي يتصل بعالم الدلالة ذاتها، إذ : «العالم ليس فقط مكانا لأشياء ومواد وأشخاص وأحداث، ولكنه صور دالة من جهة، ورمزية من جهة أخرى»(18) وسنحاول أن نحيل على نص في الفتوحات يجمع بين دلالتين مختلفتين للكتابة استرعى انتباه الدارسين، لأنه حمّال أوجه، وفيه يقول ابن عربي: «اعلم أن الكلام على قسمين: كلام في موادّ تسمى حروفاً وهوعلى قسمين: إما مرقومة أعني الحروف وتسمى كتاباً، أومتلفظاً بها وتسمى قولاً وكلاماً. والنوع الثاني كلام ليس في موادّ، فذاك الكلام الذي لا يكون في مواد يُعلم ولا يقال فيه يفهم فيتعلق به العلم من السامع الذي لا يسمع بآلة بل يسمع بحقٍ مجردٍ عن الآلة، كما إذا كان الكلام في غير مادة فلا يسمع إلا بما يناسبه»(19) فهو ميز على مستوى الكلام بين نوعين، أحدهما متضمن في مادة معلومة، فإذا كان مرقوما فهوالكتابة والرقم هنا هو التسطير التي قال عنه بول ريكور: «هو تعقل مضموني خالص لفعل التكلم»(20) أما إذا كان شفويا فهو قول أوكلام. وأما القسم الثاني فهو الذي يتضمن نوعا من الغموض كما لاحظ أحد الدارسين(21) فقط لأن المسألة لها علاقة بدلالة النوع الثاني من الكلام الذي لا يستحيل إلى مادّة أوشكل أوصورة. إن عملية الفهم مقترنة بسماعه دون آلة ولا يشترط فيه أن توجد وسيلة إلى ذلك، لأنه في الحقيقة كلام رمزي يتجاوز معطيات الحس الإنساني المرتبط بالوسائل والآلات المؤدية إلى الفهم. وهذا السماع الذي يتجاوز الصورة التقليدية ليس معطى عاما بل هو لخصوص العارفين الذين لا يتقيدون بالصورة التي يشتغل بها العوام أو الغير.
إن ابن عربي كثيرا ما يشتغل على المعطيات غير المادية لآليات التفكير عند الإنسان أو البشر عموما، لأنه معنيّ بصورة العارف أوالإنسان الكامل الذي اكتملت لديه المعطيات البشرية وغير البشرية للفهم والتلقي عن الإله، وهذا ما قام بشرحه في مقام متجدد لما تحدث عن الخطاب الإلهي مستدلا بقوله تعالى: ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَومِن وَرَاء حِجَابٍ أَويُرْسِلَ رَسُولًا “(الشورى/51)، مفرقا بين مقامات الخطاب التي جعلها في الوحي أومن وراء حجاب أوإرسال الرسل، ومقام من وراء الحجاب يكاد يشتبه بالكلام الذي ليس في مواد، حيث يقول عنه ابن عربي: «وأما قوله تعالى “أَومِن وَرَاء حِجَابٍ” فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي عليه فيفهم منه ما قصد به من أسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي.»(22) والتجلي ليس شرطا فيه أن يكون قوليا، والقول نفسه عند ابن عربي قولان: «قول حال وقول خطاب»(23).

الجمعة، 17 مايو 2019

علم الخيال - الإمام محي الدين بن عربي



علم الخيال - الإمام محي الدين بن عربي




النوع السادس من علوم المعرفة وهو علم الخيال وعالمه المتصل والمنفصل وهذا ركن عظيم من أركان المعرفة وهذا هو علم البرزخ وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات وهو علم سوق الجنة وهو علم التجلي الألهي في القيامة في صور التبدل وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة مثل الموت في صورة كبش وهو علم ما يراه الناس في النوم وعلم الموطن الذي يكون فيه الخلق بعد الموت وقبل البعث وهو علم الصور وفيه تظهر الصور المرئيات في الأجسام الصقيلة كالمرآة وليس بعد العلم بالاسماء الألوهية ولا التجلي وعمومه اتم من هذا الركن فانه واسطة العقد إليه تعرج الحواس وإليه تنزل المعاني وهو لا يبرح من موطنه تجبي إليه الثمرات كل شئ وهو صاحب الأكسير الذي تحمله على المعنى فيجسده بأي صورة شاء لا يتوقف له النفوذ في التصف والحكم تعضده الشرائع وتثبته الطبائع فهو المشهود له بالتصرف التام وله التحام المعاني بالأجسام يحير الأدلة والعقول فلنبينه ان شاء الله في هذا الفصل بأوجز ما يمكن وأبلغ والله الموفق لا رب غيره اعلموا يا أخواننا انه ما من معلوم كان ما كان الأولة نسبة إلى الوجود بأي نوع كان من انواع الوجود فانه على أربعة أقسام فمنها معلوم يجمع مراتب الوجود كلها ومنها معلوم يتصف ببعض مراتب الوجود ولا يتصف ببعضها وهذه المراتب الأربعة التي للوجود منها الوجود العيني وهو الموجود في نفسه على أي حقيقة كان من الإتصاف بادخول والخروج أو بنفيهما فيكون مع كونه موجوداً في عينه لا داخل العالم ولا خارجه لعدم شرط الدخول والخروج وهو التحيز وليس ذلك إلا لله خاصة وأما ما هو من العالم قائم بنفسه غير متحيز كالنفوس الناطقة والعقل الأول والنفس والأرواح المهيمنة والطبيعية والهباء وأعني بهذا كلها أرواحها فكل ذلك داخل العالم إلا انه لا داخل أجسام العالم ولا خارج عنها فانها غير متحيزات والمرتبة الثانية الوجود الذهني وهو كون المعلوم متصوراً في النفس على ما هو عليه في حقيقته فان لم يكن التصور مابقاً للحقيقة فليس ذلك بوجود له في الذهن والمرتبة الثالثة الكلام وللمعلومات وجود في الألفاظ وفي الوجود اللفظي ويدخل في هذا الوجود كل معلومة حتى المحال والعدم فان له الوجود اللفظي فانه يوجد في اللفظ ولا يقبل الوجود العيني وان الكان العدم الذي هو المحال فلا يقبل الوجود العيني والمرتبة الرابعة الوجود الكتابي وهو الوجود الرقمي وهو نسبته إلى الوجود في الخط أو الرقم أو الكتابة ونسبة المعلومات كلها من المحال نسبة واحدة فهذا محال وان كان لا يوجد له عين فله نسبة وجود في اللفظ والخط فما هو معلوم لا يتصف باوجود بوجه وسبب ذلك قوة الوجود الذي هو أصل الأصول وهو الله تعالى إذ به ظهرت هذه المراتب وتعينت هذه الحقائق وبوجوده عرف من يقبل مراتب الوجود كلها ممن لا يقبلها فالاسماء متكلمة بها كانت أو مرقومة ينسحب وجودها على كل معلوم فيتصف ذلك المعلوم بضرب من ضروب الوجود فما في العلم معدوم مطلق العدم ليس له نسبة إلى الوجود بوجه ما هذا ما لا يعقل فافهم هذا الأصل وتحققه ثم أعلم بعد هذا ان حقيقة الخيال المطلق هو المسمى بالعماء الذي هو أول ظرف قبل كينونة الحق ورد في الصحيح انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ربنا قبل ان يخلق خلقه قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وانما قال هذا من أجل ان العماء عند العرب هو السحاب الرقيق الذي تحته هواء وفوقه هواء فلما سماه بالعماء أزال ما يسبق إلى فهم العرب من ذلك فنفى عنه الهواء حتى يعلم انه لا يشبهه من كل وجه فهو أول موصوف بكينونة الحق فيه فان الحق على ما أخبر خمس كينونات كينونة في العماء وهو ما ذكرناه وكينونة في العرش وهو قوله وهو الله في السموات وفي الأرض وكينونة عامة وهو مع الموجودات على مراتبها حيثما كانت كما بين ذلك في حقنا فقال "وهو معكم أينما كنتم" وكل هذا النسب بحسب ما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تصور بل كما تعطيه ذاته وما ينبغي ان ينسب إليها من ذلك لا إله إلا هو العزيز فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته الحكيم الذي نزل لعباده في كلماته فقرب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى ففتح الله تعالى في 1لك العماء صور كل كا سواه من العالم.
...
المصدر : الفتوحات المكية

المعرفة - الإمام محي الدين بن عربي


المعرفة - الإمام محي الدين بن عربي




اعلم ان المعرفة نعت إلهي لا عين لها في الاسماء الإلهية من لفظها وهي أحدية المكانة لا تطلب إلا الواحد والمعرفة عند القوم بحجة فكل علم لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك فهو معرفة لانه عن كشف محقق لا تدخله الشبه بخلاف العلم الحاصل عن النظر الفكري لا يسلم أبدا من دخول الشبه عليه والحيرة فيه والقدح في الأمر الموصل إليه واعلم انه لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته وكل من عرف شيأ بأمر زائد على ذاته فهو مقلد لذلك الزائد فيما أعطاه وما في الوجود من علم الأشياء بذاته إلا واحد وكل ما سوى ذلك الواحد فعلمه بالأشياء وغير الأشياء تقليد وإذا ثبت انه لا يصح فيما سوى الله العلم بشئ إلا عن تقليد فلنقلد الله ولا سيما في العلم به وانما قلنا لا يصح العلم بأمر ما فيما سوى الله إلا بالتقليد فان الانسان لا يعلم شيئأ إلا بقوة ما من قواه التي أعطاه الله وهي الحواس والعقل فالانسان لا بد ان يقلد حسه فيما يعطيه وقد يغلط وقد يوافق الأمر على ما هو عليه في نفسه أو يقلد عقله فيما يعطيه من ضرورة أو نظر والعقل يقلد الفكر ومنه صحيح وفاسد فيكون علمه بالأمور بالإتفاق فما ثم إلا تقليد وإذا كان الأمر على ما قلناه فينبغي للعاقل إذا أراد ان يعرف الله فليقلده فيما أخبر به عن نفسه في كتبه وعلى ألسنة رسله وإذا أراد ان يعرف الأشياء فلا يعرفها بما تعطيه قوة وليسع بكثرة الطاعات حتى يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه فيعرف الأمور كلها بالله ويعرف الله بالله إذ ولا بد من التقليد وإذا عرف الله بالله والمور كلها بالله لم يدخل عليك في ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب فقد نبهتك على أمر ما طرق سمعك فان العقلاء من أهل النظر يتخيلون انهم علماء بما أعطالهم النظر والحس والعقل وهم في مقام التقليد لهم وما من قوة إلا لها غلط قد علموه ومع هذا غالطوا انفسهم وفرقوا بين ما يغلط فيه الحس والعقل والفكر وبين ما لا يغلط فيه وما يدريهم لعل الذي جعلوه غلطاً يكون صحيحاً ولا مزيل لهذا الداء العضال إلا من يكون علمه بكل معلوم بالله لا بغيره وهو سبحانه عالم بذاته لا بأمر زائد فلا بد ان تكون انت عالماً بما يعلمه به سبحانه لانك قلتدت من يعلم ولا يجهل ولا يقلد في علمه وكل من يقلد سوى الله فانه قلد من يدخله الغلط وتكون إصابته بالإتفاق فان قيل لنا ومن أين علمت هذا وربما دخل لك الغلط وما تشعر به في هذه التقسيمات وانت فيها مقلد لمن يغلط وهو العقل والفكر قلنا صدقت ولكن لما لم نرى إلا التقليد ترجح عندنا ان نقلد هذا المسمى برسول والمسمى بانه كلام الله وعلمنا عليه تقليداً حتى كان الحق سمعنا وبصرنا فعلمنا الأشياء بالله وعرفنا هذه التقاسيم بالله.
قال صلى الله عليه وسلم : فقال "من عرف نفسه عرف ربه" وقال أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه فجعلك دليلاً على معرفتك به فإما بطريقة ما وصفك بما وصف به نفسه من ذات وصفات وجعله إياك خليفة نائباً عنه في أرضه وإما بما انت عليه من الإفتقار إليه في وجودك وأما الأمر ان معاً.
.....
المصدر : الفتوحات المكية

مناجاة سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه


مناجاة سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه




إِلَهِى أَنَا الْفَقِيرُ فِى غِنَاىَ فَكَيْفَ لاَ أَكُونُ فَقِيرًا فِى فَقْرِى ؟ إِلَهِى أَنَا الْجَاهِلُ فِى عِلْمِى فَكَيْفَ لاَ أَكُونُ جَهُولاً فِى جَهْلِى ؟ إِلَهِى إِنَّ اخْتِلاَفَ تَدْبِيرِكَ وَسُرْعَةَ حُلُولِ مَقَادِيرِكَ مَنَعَا عِبَادَكَ الْعَارِفِينَ بِكَ عَنِ السُّكُونِ إِلَى عَطَاءٍ ، وَالْيَأْسِ مِنْكَ فِى بَلاَءٍ . إِلَهِى مِنِّى مَا يَلِيقُ بِلُؤْمِى ، وَمِنْكَ مَا يَلِيقُ بِكَرَمِكَ . إِلَهِى وَصَفْتَ نَفْسَكَ بِاللُّطْفِ وَالرَّأْفَةِ بِى قَبْلَ وُجُودِ ضَعْفِى ، أَفَتَمْنَعُنِى مِنْهُمَا بَعْدَ وُجُودِ ضَعْفِى ؟ إِلَهِى إِنْ ظَهَرَتِ الْمَحَاسِنُ مِنِّى فَبِفَضْلِكَ ، وَلَكَ الْمِنَّةُ عَلَىَّ ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَسَاوِئُ فَبِعَدْلِكَ وَلَكَ الْحُجَّةُ عَلَىَّ. إِلَهِى كَيْفَ تَكِِلُنِى إِلَى نَفْسِى وَقَدْ تَوَكَّلْتَ لِى ، وَكَيْفَ أُضَامُ وَأَنْتَ النَّاصِرُ لِى ، أَمْ كَيْفَ أَخِيبُ وَأَنْتَ الِحَفِىُّ بِى ؟ هَا أَنَا أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَقْرِى إِلَيْكَ ، وَكَيْفَ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِمَا هُوَ مُحَالٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ ؟ أَمْ كَيْفَ أَشْكُو إِلَيْكَ حَالِى وَهِىَ لاَ تَخْفَى عَلَيْكَ ؟ أَمْ كَيْفَ أُتَرْجِمُ لَكَ بِمَقَالِى وَهُوَ مِنْكَ بَرَزَ إِلَيْكَ ؟ أَمْ كَيْفَ تَخِيبُ آَمَالِى وَهِىَ قَدْ وَفَدَتْ إِلَيْكَ ؟ أَمْ كَيْفَ لاَ تَحْسُنُ أَحْوَالِى وَبِكَ قَامَتْ وَإِلَيْكَ ؟ إِلَهِى مَا أَلْطَفَكَ بِى مَعَ عَظِيمِ جَهْلِى ، وَمَا أَرْحَمَكَ بِى مَعَ قَبِيحِ فِعْلِى ، إِلَهِى مَا أَقْرَبَكَ مِنِّى وَمَا أَبْعَدَنِى عَنْكَ ، إِلَهِى مَا أَرْأَفَكَ بِى ! فَمَا الَّذِى يَحْجُبُنِى عَنْكَ ؟ إِلَهِى قَدْ عَلِمْتُ بِاخْتِلاَفِ الآَثَارِ وَتَنَقُّلاَتِ الأَطْوَارِ أَنَّ مُرَادَكَ مِنِّى أَنْ تَتَعَرَّفَ إِلَىَّ فِى كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى لاَ أَجْهَلَكَ فِى شَىْءٍ . إِلَهِى كُلَّمَا أَخْرَسَنِى لُؤْمِى أَنْطَقَنِى كَرَمُكَ وَكُلَّمَا آيَسَتْنِى أَوْصَافِى أَطْمَعَتْنِى مِنَّتُكَ . إِلَهِى مَنْ كَانَتْ مَحَاسِنُهُ مَسَاوِىَ فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ مَسَاوِيهِ مَسَاوِىَ ؟ وَمَنْ كَانَتْ حَقَائِقُهُ دَعَاوِىَ فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ دَعَاوِيهِ دَعَاوِىَ ؟ إِلَهِى حُكْمُكَ النَّافِذُ وَمَشِيئَتُكَ الْقَاهِرَةُ لَمْ يَتْرُكَا لِذِى مَقَالٍ مَقَالاً ، وَلاَ لِذِى حَالٍ حَالاً . إِلَهِى كَمْ مِنْ طَاعَةٍ بَنَيْتُهَا وَحَالَةٍ شَيَّدْتُهَا هَدَمَ اعْتِمَادِى عَلَيْهَا عَدْلُكَ ، بَلْ أَقَالَنِى مِنْهَا فَضْلُكَ . إِلَهِى أَنْتَ تَعْلَمُ وَإِنْ لَمْ تَدُمِ الطَّاعَةُ مِنِّى فِعْلاً جَزْمًا فَقَدْ دَامَتْ مَحَبَّةً وَعَزْمًا . إِلَهِى كَيْفَ أَعْزِمُ وَأَنْتَ الْقَاهِرُ ؟ وَكَيْفَ لاَ أَعْزِمُ وَأَنْتَ الآَمِرُ ؟ إِلَهِى تَرَدُّدِى فِى الآَثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزَارِ فَاجْمَعْنِى عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِى إِلَيْكَ . إِلَهِى كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِمَا هُوَ فِى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ ؟ أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرُ لَكَ ؟ مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ ؟ وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآَثَارُ هِىَ الَّتِى تُوصِلُ إِلَيْكَ ؟ إِلَهِى عَمِيَتْ عَيْنٌ لاَ تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيبًا ، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبًا . إِلَهِى أَمَرْتَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الآَثَارِ فَارْجِعْنِى إِلَيْهَا بِكُسْوَةِ الأَنْوَارِ وَهِدَايَةِ الاسْتِبْصَارِ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْتُ إِلَيْكَ مِنْهَا مَصُونَ السِّرِّ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا ، وَمَرْفُوعَ الْهِمَّةِ عَنِ الاعْتِمَادِ عَلَيْهَا ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ . إِلَهِى هَذَا ذُلِّى ظَاهِرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ ، وَهَذَا حَالِى لاَ يَخْفَى عَلَيْكَ ، مِنْكَ أَطْلُبُ الْوُصُولَ إِلَيْكَ ، وَبِكَ أَسْتَدِلُّ عَلَيْكَ ، فَاهْدِنِى بِنُورِكَ إِلَيْكَ ، وَأَقِمْنِى بِصِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ . إِلَهِى عَلِّمْنِى مِنْ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ ، وَصُنِّى بِسِرِّ اسْمِكَ الْمَصُونِ . إِلَهِى حَقِّقْنِى بِحَقَائِقِ أَهْلِ الْقُرْبِ ، وَاسْلُكْ بِى مَسَالِكَ أَهْلِ الْجَذْبِ . إِلَهِى أَغْنِنِى بِتَدْبِيرِكَ عَنْ تَدْبِيرِى ، وَبِاخْتِيَارِكَ لِى عَنِ اخْتِيَارِى ، وَأَوْقِفْنِى عَلَى مَرَاكِزِ اضْطِرَارِى . إِلَهِى أَخْرِجْنِى مِنْ ذُلِّ نَفْسِى ، وَطَهِّرْنِى مِنْ شَكِّى وَشِرْكِى قَبْلَ حُلُولِ رَمْسِى . بِكَ أَسْتَنْصِرُ فَانْصُرْنِى ، وَعَلَيْكَ أَتَوَكَّلُ فَلاَ تَكِلْنِى وَإِيَّاكَ أَسْأَلُ فَلاَ تُخَيِّبْنِى ، وَفِى فَضْلِكَ أَرْغَبُ فَلاَ تَحْرِمْنِى ، وَلِجَنَابِكَ أَنْتَسِبُ فَلاَ تُبْعِدْنِى ، وَبِبَابِكَ أَقِفُ فَلاَ تَطْرُدْنِى . إِلَهِى تَقَدَّسَ رِضَاكَ عَنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ عِلَّةٌ مِنْكَ ، فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ عِلَّةٌ مِنِّى ؟ أَنْتَ الْغَنِىُّ بِذَاتِكَ عَنْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ النَّفْعُ مِنْكَ فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ غَنِيًّا عَنِّى ؟ إِلَهِى إِنَّ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ غَلَبَنِى وَإِنَّ الْهَوَى بِوَثَائِقِ الشَّهْوَةِ أَسَرَنِى ، فَكُنْ أَنْتَ النَّصِيرَ لِى حَتَّى تَنْصُرَنِى وَتَنْصُرَ بِى ، وَأَغْنِنِى بِفَضْلِكَ حَتَّى أَسْتَغْنِىَ بِكَ عَنْ طَلَبِى . أَنْتَ الَّذِى أَشْرَقْتَ الأَنْوَارَ فِى قُلُوبِ أَوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ ، وَأَنْتَ الَّذِى أَزَلْتَ الأَغْيَارَ مِنْ قُلُوبِ أَحْبَابِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى غَيْرِكَ ، أَنْتَ الْمُؤْنِسُ لَهُمْ حَيْثُ أَوْحَشَتْهُمُ الْعَوَالِمُ ، وَأَنْتَ الَّذِى هَدَيْتَهُمْ حَتَّى اسْتَبَانَتْ لَهُمُ الْمَعَالِمُ . مَاذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ ؟ وَمَا الَّذِى فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ ؟ لَقَدْ خَابَ مَنْ رَضِىَ دُونَكَ بَدَلاً ، وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغَى عَنْكَ مُتَحَوَّلاً . إِلَهِى كَيْفَ يُرْجَى سِوَاكَ وَأَنْتَ مَا قَطَعْتَ الإِحْسَانَ ؟ وَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَأَنْتَ مَا بَدَّلْتَ عَادَةَ الامْتِنَانِ ؟ يَا مَنْ أَذَاقَ أَحِبَّاءَهُ حَلاَوَةَ مُؤَانَسَتِهِ فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَمَلِّقِينَ ، وَيَا مَنْ أَلْبَسَ أَوْلِيَاءَهُ مَلاَبِسَ هَيْبَتِهِ فَقَامُوا بِعِزَّتِهِ مُسْتَعِزِّينَ . أَنْتَ الذَّاكِرُ مِنْ قَبْلِ الذَّاكِرِينَ ، وَأَنْتَ الْبَادِئُ بِالإِحْسَانِ مِنْ قَبْلِ تَوَجُّهِ الْعَابِدِينَ ، وَأَنْتَ الْجَوَّادُ بِالْعَطَاءِ مِنْ قَبْلِ طَلَبِ الطَّالِبِينَ ، وَأَنْتَ الْوَهَّابُ ثُمَّ أَنْتَ لِمَا وَهَبْتَنَا مِنَ الْمُسْتَقْرِضِينَ . إِلَهِى اطْلُبْنِى بِرَحْمَتِكَ حَتَّى أَصِلَ إِلَيْكَ ، وَاجْذِبْنِى بِمِنَّتِكَ حَتَّى أُقْبِلَ عَلَيْكَ . إِلَهِى إِنَّ رَجَائِى لاَ يَنْقَطِعُ عَنْكَ وَإِنْ عَصَيْتُكَ ، كَمَا أَنَّ خَوْفِى لاَ يُزَايِلُنِى وَإِنْ أَطَعْتُكَ . إِلَهِى قَدْ دَفَعَتْنِى الْعَوَالِمُ إِلَيْكَ ، وَقَدْ أَوْقَفَنِى عِلْمِى بِكَرَمِكَ عَلَيْكَ . إِلَهِى كَيْفَ أَخِيبُ وَأَنْتَ أَمَلِى ؟ أَمْ كَيْفَ أُهَانُ وَعَلَيْكَ مُتَّكَلِى ؟ إِلَهِى كَيْفَ أَسْتَعِزُّ وَأَنْتَ فِى الذِّلَّةِ أَرْكَزْتَنِى ؟ أَمْ كَيْفَ لاَ أَسْتَعِزُّ وَإِلَيْكَ نَسَبْتَنِى ؟ أَمْ كَيْفَ لاَ أَفْتَقِرُ وَأَنْتَ الَّذِى فِى الْفَقْرِ أَقَمْتَنِى ؟ أَمْ كَيْفَ أَفْتَقِرُ وَأَنْتَ الَّذِى بِجُودِكَ أَغْنَيْتَنِى ؟ أَنْتَ الَّذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ تَعَرَّفْتَ لِكُلِّ شَىْءٍ فَمَا جَهِلَكَ شَىْءٌ ، وَأَنْتَ الَّذِى تَعَرَّفْتَ إِلَىَّ فِى كُلِّ شَىْءٍ فَرَأَيْتُكَ ظَاهِرًا فِى كُلِّ شَىْءٍ فَأَنْتَ الظَّاهِرُ لِكُلِّ شَىْءٍ . يَا مَنِ اسْتَوَى بِرَحْمَانِيَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَصَارَ الْعَرْشُ غَيْبًا فِى رَحْمَانِيَّتِهِ كَمَا صَارَتِ الْعَوَالِمُ غَيْبًا فِى عَرْشِهِ . مَحَقْتَ الآَثَارَ بِالآَثَارِ ، وَمَحَوْتَ الأَغْيَارَ بِمُحِيطَاتِ أَفْلاَكِ الأَنْوَارِ ، يَا مَنِ احْتَجَبَ فِى سُرَادِقَاتِ عِزِّهِ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الأَبْصَارُ ، يَا مَنْ تَجَلَّى بِكَمَالِ بَهَائِهِ فَتَحَقَّقَتْ عَظَمَتَهُ الأَسْرَارُ . كَيْفَ تَخْفَى وَأَنْتَ الظَّاهِرُ ؟ أَمْ كَيْفَ تَغِيبُ وَأَنْتَ الرَّقِيبُ الْحَاضِرُ ؟

الأربعاء، 1 مايو 2019

أهل البدايات وأهل النهايات


أهل البدايات وأهل النهايات

( سيدي علي الجمل )



 (اعلم أن تنوير الظاهر، ضامن لإيجاد مواهب العمل، وهو سبب في تظليم البواطن، وكذلك العكس: تنوير البواطن ضامن لإيجاد مواهب العلم وهو السبب في تظليم الظواهر، وإلا فتنوير الظواهر حتمًا لا يكون إلا على قدر تظليم البواطن، وكذلك العكس: تنوير البواطن حتمًا لا يكون إلا على قدر تظليم الظواهر، وهذا القياس يحكم به على أهل البدايات. وأما أهل النهايات الذين استوى نفعهم بالظلمات والنور، وهم الذين صاروا عبيدًا لله في جميع الحالات حقًا، فهؤلاء لا ينكرون ظلمة ولا نورًا، ولا يفرحون لنور ولا يحزنون لظلمة، وإنما فرحهم بخالق النور والظلمة، قد امتحت نفوسهم بشهود مولاهم، بحيث صارت إرادتهم هي إرادة مولاهم وأفعالهم هي أفعال مولاهم وأقوالهم هي أقوال مولاهم، إذا قاموا قاموا بالله، وإذا قعدوا عدوا بالله، وإذا ناموا نامْوا بالله، وإذا استيقظوا استيقظوا بالله، وإذا تحركوا تحركوا بالله. ومفتاح هذه المنزلة العظمى هي كثرة المرافقة لأهل الله وكثرة النظر إليهم والتخلق بأخلاقهم، يكون ذلك استعمالًا حتى يصير حقيقة. أولًا تفنى فيهم عن نفسك، ثم بعد ذلك تفنى في مولاهم عنهم وعن أنفسهم، ومن لا فناء له في أولياء الله لا فناء له في الله. جرت عادة الله في خلقه أنه ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح )، وقال: (اعلم أن جمال الحقيقة في مقام النهاية، أساسه هو جلال الشريعة في مقام البداية. كما أن جلال الشريعة في مقام نهاية النهايات، أساسه هو جمال الحقيقة في مقام النهايات: أي على قدر ما يأخذ المريد من جلال الشريعة في البدايات، على قدر ذلك يأخذ من جمال الحقيقة في النهايات وعلى قدر ما يأخذ من جمال الحقيقة في النهايات على قدر ما يأخذ من جلال الشريعة في نهاية النهايات. ومن لا جلال له في بدايته لا جمال له في نهايته، كما أن من لا جمال له في نهايته لا جلال له في نهاية نهايته، يقول صاحب القوانين في هذا المعنى: من ادعى شهود الجمال قبل تأدبه بالجلال ارفضه فإنه دجال )، وقال: (اعلم مبتدئ بدايته على أصلها، أفضل من منتهي خصوصيته لا أصل لها )، وقال: (اعلم أن البدايات إذا لم تكن على شبه النهايات فهي فساد، وذلك لأن النهايات حتمًا لا تكون على شبه البدايات، وإذا كانت البدايات فسادًا وخرابًا على كل حال تكون النهايات مثلها، فلذلك وجب على الشيخ: أول ما يباشر به المريد ينزله في منازل أهل النهايات كما قال في الحكم: « من أشرقت بدايته أشرقت نهايته ». وقولنا ينزله في منازل أهل النهايات يعني بذلك الاعتدال والتوسط في الأمور كلها لقوله : « أفضل الأمور أوسطها »، والتوسط في الأمور هي منزلته  ومنزلة الصحابة كلهم والخلفاء الراشدين والتابعين وتابع التابعين والسالكين على منهجهم من خاصة العارفين رضي الله عنهم أجمعين. العارف: أول ما يأمر به المريد، التوسط في العمل والسير على السنة والجماعة، لأن السنة بها تكون البدايات وإليها تكون النهايات، لأنه إذا أمره بكثرة العمل يعظم خوفه وذلك هو التعطيل، وإذا أمره بقلة العمل يعظم رجاؤه وذلك أيضًا تعطيل، وإذا أمره بالسير على قواعد السنة يحصل التوسط والاعتدال في الرجاء والخوف وذلك هو المطلوب في البدايات وهو المقصود في النهايات، لأن الباطن سائر على سير الظاهر، كما أن الظاهر سائر على سير الباطن. على قدر تقوية أفعال الظواهر يتقوى الخوف وبالعكس، على قدر تقوية الباطن يتقوى الرجاء وبالعكس ).
...
المصدر : كتاب سيدي علي الجمل

الظل فى الاصطلاح الصوفى


الظل فى الاصطلاح الصوفى


الظل فى الاصطلاح الصوفى فيعنى أمرين :
1- الظل : كل ما سوى اللَّه من أعيان الكائنات ، وذلك من وجهين :
الوجه الأول : هو أنه لما لم يكن لشئ من الكائنات استقلال بنفسه لاستحالة وجود ما سوى الحق تعالى بذاته ، صارت الكائنات ظلا لله من حيث أن الظل لا تحرك له إلا بحركة صاحبه ، ولا حقيقة له ولا صورة ولا ذات ، إلا بحسب ما ينبعث عن الشئ الذى هو ظل له ، فهكذا من شهد الحقيقة ، فإنه يرى الكائنات ظلا لا تستطيع لنفسها نفعا ولا ضرا ولا موتا ، ولا حياتا ولا نشورا .

الوجه الثانى : هو أنه لما كانت حقيقة الظل ، إنما هو عدم النور الشمسى أو غيره فى بقعة ما لساتر ما صارت الكائنات ظلا بهذا المعنى ، لأن حقيقة الظل لا ترجع إلى شئ فى نفسه ، بل إنما تتعين بالنور فكذلك كل ما سوى اللَّه تعالى ، ليس هو شيئا فى نفسه، إنما هو شئ بربه ، فهو أعنى الظل المشار به إلى ما سوى اللَّه تعالى ، ما يحصل من انبساط النور الإلهى على أعيان من الأعيان الممكنات التى ليست نورا فى نفسها ، وقد يظهر الظل الذى هو ظلمة محضة ، لأنه ليس يظهر إلا بانبساط النور ، ولا هو نور محض.

وقال الكاشانى : ( الظل هو الوجود الإضافى الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها، التى هى معدومات ظهرت باسمه النور الذى هو الوجود الخارجى المنسوب إليها ، فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بصورها صار ظلا لظهور الظل بالنور وعدميته فى نفسه ، قال اللَّه تعالى : ( أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) [الفرقان/45] ، أى بسط الوجود الإضافى على الممكنات ، فالظلمة بإزاء هذا النور هو العدم ، وكل ظلمة فهى عبارة عن عدم النور ، ولهذا سمى الكفر ظلمة لعدم نور الإيمان من قلب الإنسان ، الذى من شأنه أن يتنور به ، قال تعالى : (اللَّهُ وَليُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة/257] ).

2- الظل : يعنى وجود الراحة خلف الحجاب ، وهذا من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، فإنه قد أطلق الظل ، وأراد الراحة التى يجدها المستظل به ، فإذا كانت السبحات الذاتية محترقة ، فالحجاب الذى يمنع سوايتها كظل يعطى الراحة، وهو تفسير صوفى لحديث أبي موسى الأشعرى رضى اللَّه عنه ، قال : قام فينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بخمس كلمات وذكر منها .. حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ، ما انتهى إليه بصره من خلقه )، فسبحات وجه اللَّه كالشمس المحرقة ، والحجاب هو الظل المريح .

وربما أطلق الصوفية اصطلاح ظل الإله ، وأرادوا الإنسان الكامل ، يقول ابن عربى : (السلطان ظل اللَّه فى الأرض ، فالظل لا محالة تابع لمن هو ظله .. فإن اللَّه حجب الجميع عنه ، وما ظهر إلا للإنسان الكامل الذى هو ظله الممدود ، وعرشه المحدود ، وبيته المقصود ، الموصوف بكمال الوجود .. فجعل الإنسان الكامل خليفة عن الإنسان الكل الكبير يقصد اللَّه عز وجل ، الذى هو ظل اللَّه فى خلقه من خلقه ، فعن ذلك هو خليفة ، ولذلك هم خلفاء عن مستخلف واحد فهم ظلاله .. فأول مفتاح فتح اللَّه به ، مفتاح غيب الإنسان الكامل ، الذى هو ظل اللَّه فى كل ما سوى اللَّه .

الاتصال فى الاصطلاح الصوفى


الاتصال فى الاصطلاح الصوفى   




مصطلح الاتصال فى عرف الصوفية أو الواصل ، موضوع على معنى تجيزه الأصول القرآنية والنبوية ، وإن لم يرد  اللفظ  فى  القرآن  والسنة  على  المعنى الصوفى ، فالواصل عندهم ، هو من كان على صلة بربه ، فلا يرى بسره معنى التعظيم غيره ، ولا يسمع الأمر إلا منه (4) ، وهذا معنى شرعى محمود ، ثابت بمجمل الأصول الداعية إلى صلة العبد بربه .
 وروى عن يحى بن معاذ الرازى (ت:258هـ) أنه قال عن الواصل : ( من لم يعم عينه عن النظر إلى ما تحت العرش ، لم يصل إلى ما فوق العرش ).
   يعنى لم يلحق ما فاته من مراقبة الذى خلق العرش ، وكلامه يدل على الدعوة إلى التعلق بالله ، وترك ما سواه ومثله وعن أبى يزيد البسطامى (ت:261هـ) قال : ( الواصلون فى ثلاثة أحرف ، همهم فى اللَّه وشغلهم فى اللَّه ، ورجوعهم إلى اللَّه )، وينسب إلى أبى بكر الشبلى (ت:334هـ) أنه قال فى إظهار معنى التواضع لمن جاهد فى الوصول إلى الإيمان بربه ، من خلال المراقبة والصدق مع  الله : ( من  زعم  أنه  واصل ، فليس له  حاصل ، وسبب الحرمان من الوصول والاتصال،  انعدام المراقبة )، وروى أيضا عن عبد الله بن خفيف الشيرازى (ت:371هـ) أنه قال : ( الواصل، من اتصل بمحبوبه دون كل شئ سواه وغاب عن كل شئ سواه ) ، ويذكر الكلاباذى (ت:380هـ) فى معنى الاتصال عند الصوفية ، أن ينفصل العبد بسره عما سوى اللَّه.
ويرون كما سبق أن الاتصال يوجب الافتقار فيه ، فلا يظن العبد أنه قد وصل وإلا فليتقين أنه انفصل.
  والاتصال بالمعنى الصوفي ، وإن كان قائما فى بدايته على أصول القرآن والسنة التى دعت إلى دوام مراقبة اللَّه عز وجل ، ومتانة الصلة بين العبد وربه ، وأداء العبودية لله على وجه الكمال ، إلا أنه أخذ بمعنى آخر ، فعند الحلاج ، الاتصال يؤدى إلى مفارقة الشريعه ، واعتقادها هوسا كما قال : ( اعلم أن العبد قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى التوحيد ، فإذا وصل إليه سقطت من عينه وصارت عنده هوسا ) ، والاتصال عند ابن عربى وتلاميذ مدرسته أخذ على معنى ملاحظة العبد عينه ، متصلا بالوجود الأحدى ، بقطع  النظر  عن  تقيد وجوده بعينه وإسقاط إضافته إليه ، فيرى اتصال مدد الوجود ونفس الرحمن إليه على الدوام بلا انقطاع، حتى يبقى موجودا به، ويرى عبد الكريم الجيلى أن الاتصال فى دوام الوصلة بلا انقطاع ، ولا فتور حيث تتواتر تجليات الحق تعالى على العبد فى هذا المشهد ، من غير رجوع إلى النفس فالوصال هو لحوق العبد بالله تعالى.

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...