الاثنين، 3 يناير 2022

الأوراد وخصائص الأذكار

 



الأوراد وخصائص الأذكار

بسم الله الرحمن الرحيم.

 

(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي). اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.

لَبِيسَ عبد شغلته النعم يرجوها ويدعو بها عن المنعم، وألهته محبوبات النفس عن محبوب القلب، وبدَّد شمله هم المكان والزمان عن استجماع همته في ذكر مولاه. تعتري المومن فترات غفلة لأن الإنسان جبل على النسيان، فيفتر عن ذكر ربه  وينشغل. لكنه يرجع إلى الذكر ويُراجِع. ولمثل هذا قال الله على صورة خطاب موجه لسيد الذاكرين  واذكر ربك إذا نسيت .(سورة الكهف، الآية: 24) نسيان المومن موقوتٌ طارئٌ، ونسيان الجاحدين والكافرين والمنافقين والغافلين حالٌّ مقيم!  نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (سورة الحشر، الآية: 19).

كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه كما روى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها. وبذلك أُمِرَ في قوله يخاطبه: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (سورة الكهف، الآية: 28).

وقوله: واذكر ربك في نفسك تـضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (سورة الأعراف، الآية: 205).

وجاء القرآن بتحريض الرجال, حقِّ الرجال على الذكر في أطراف الليل والنهار في قوله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (سورة النور، الآيتان: 36-37).

كلمة "سَبَّحَ" ذاتُ دلالة عامة تشمل كل العبادات من قول وفعل ونية كما قال الراغب الإصفهاني رحمه الله . واستغراق الوقت كله بالذكر والتسبيح درجة عليا نَدَبَ الله  إليها رسله وسائر عباده المومنين. استغراق الوقت كله في الذكر والتسبيح علامة على إقبال العبد على ربه إقبالا كليا. قال الله لحبيبه  في سورة طه: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (الآية: 130). استدل الفقهاء بهذه الآية على توقيت الصلوات الخمس. وهو كذلك. والصلاة من أعظم الذكر. والذكر اللساني والقلبي فيها بتلاوة القرآن والخشوع والمناجاة من أعظم ما يرجوه العبد من عمله. والذكر بعدها وما بين الصلوات وَصْلَةٌ مطلوبة. قال الله : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض (سورة آل عمران، الآيتان: 190-191).

وهكذا يلحق أولو الألباب بالدرجات العُلى إن هم ذكروا الله  على كل أحوالهم كما كان يفعل المصطفى .

درجة فوق مجرد ملء الأوقات بالذكر هي درجة الاستهتار التي اختص الله  بها المفردين الذين يذكرون الله  حتى يقال مجنون.

وقد سن رسول الله لأمته معراجا يتدرج فيه الذاكر ليصل إلى ما شاء الله  من تلك الدرجات. قال : "أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه". رواه البخاري ومالك عن عائشة رضي الله عنها. وروى مسلم عنها عن رسول الله : "أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل". وفي رواية لأبي داود عنهاعن النبي : "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحب العمل إلى الله أدومُه ولو قل. وكان إذا عمل عملا أثبته". أثبته بمعنى داوم عليه في وقته من نهار أو ليل.

المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المومن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه.

الأوراد هي الطريق إلى الله  لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل. قيل للجنيد : نراك تحافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال طريق وصلنا بها إلى الله  لا نتركها. قال الإمام الغزالي  "اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله ، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله  وعارفا بالله ، وأن المحبة والأُنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وفي أفعاله(...) وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار".[1]

الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به. لذلك حذر العلماء من الدخول في الأوراد بخِفَّة مخافة أن لا يفي العبد بما عاهد الله  عليه منها. قال العالم الفقيه أحد عباقرة الفقه الإمام الشاطبي: "إن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة لأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال. وقد قيل في قوله في الذين ترهبوا: فما رعوها حق رعايتها : إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار. فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليه بإطلاق. لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم. فالمكلَّف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه ألاّ ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء، حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أو لا".[2]

للذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله . قال ابن عطاء الله  في حكمه: "لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله  فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعَسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز".

للذكر آثار عامة وفوائد خاصة. احذر كل الحذر من الذين يتخذون آيات الله  هُزُؤاً ويرتبون لأنفسهم وللناس أذكارا. تقول كذا وكذا مرة في وقت كذا ليحصل لك كذا وكذا من أغراض الدنيا. هذا والسحر من بابة واحدة. ومن كان على بصيرة من ربه علم من أي باب يُرزق. ما سوى هذا من الأذكار الخاصة السنية أو الأثرية من عمل السلف الصالح لا اعتراض عليه. وفي أدعية رسول الله التي علمها أصحابه  والأمة الشفاء والغناء. لكل نازلة وحاجة وحالة توسل ودعاء وذكر. من الناس من يعتمد على تجارب الصالحين في التماس خصائص الأذكار. لابأس إن كان الذكر واردا في كتاب أو سنة قال ابن القيم رحمه الله: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: من واظب على "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الصبح أربعين مرة أحيى الله قلبه".[3] فهذا مريد اتخذ شيخه مرجعا نهائيا في المسألة. سند هذا الذكر بهذا العدد رؤيا رأى فيها الشيخ الكتاني النبي يأمره بذلك كما ذكر القشيري في رسالته.

الخاصية العامة للذكر والدعاء في قوله : فاذكروني أذكركم ((سورة البقرة، الآية: 152) وقوله:عز::: ادعوني أستجب لكم ((سورة غافر، الآية: 60) وقوله : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (سورة الزخرف، الآية: 36).

قال الشيخ عبد القادر : "اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. اذكروني بالمجد والثناء أذكركم بالعطاء والجزاء. اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوْبة. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة. اذكروني بالإيمان أذكركم بالجِنان. اذكروني بالقلب أذكركم بكشف الحجْب. اذكروني بصفاء السر أذكركم بخالص البِر. اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو. اذكروني بالجُهد فِيَّ أذكركم بتمام النعمة".[4]

من أعظم الأذكار فضلا، وأجلها قدرا، وأوفاها بمقصود المريدين المحبين المتقربين الصلاة على رسول الله . هي شيخ من لا شيخ له. هي وسيلتنا إلى ربنا إذ هي ميثاق وفاء ومحبة، تلتقي صلاتنا عليه  بصلاة الله عليه  وصلاة ملائكته. فأي فضل أعظم من أن يكون موضوع صلاتنا مطابقا موافقا؟ روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي طلحة أن رسول الله "جاء ذات يوم والبشر في وجهه. فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك! قال : "إنه أتاني الملك فقال: يا محمد! إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلّي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا. ولا سلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا؟". وروى الترمذي بإسناد حسن وأحمد وغيرهما عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف أن رسول الله قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي". وأخرج الإمام أحمد وحسنه المنذري عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: "إن من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة". وقال في رواية أحمد والنسائي بإسناد حسن عن زيد بن خارجة: "صلوا علي، فاجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد".

اللهم شكرا على نعمتك العظمى وتعرُّضاً لوعدك الكريم نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

دوام الذكر، وتغلغل الذكر في القلب عن طريق الأوراد اللسانية التفكرية طريق الولاية مع الصحبة. قال الشيخ عبد القادر : "الذاكر لله  لا يفتر عن الذكر حتى ينتقل من حياة إلى حياة. فلا موت له سوى لحظة. إذا تمكن الذكر في القلب دام ذكر العبد لله وإن لم يذكره بلسانه. كلما دام العبد في ذكر الله دامت موافقته له ورضاه بأفعاله.(...). ما أعجب أمورَ القوم؟ وما أحسن أحوالهم! كل ما يأتيهم من الحق عندهم طيب. قد سقاهم بَنْجَ معرفته، ونومهم في حجر لطفه، وآنسهم بأُنْسه. فلا جَرَمَ يَطيب لهم المُقام معه. والغيبة عن كل شيء سواه. لا يزالون موتى بين يديه وقد ملكتهم الهيبة، فإن شاء أنشرهم وأقامهم وأحياهم ونبَّههم"[5] وتلك هي الولاية الكبرى: البقاء بعد الفناء.

وقال يُعلم الغلام المريد الجديد في خدمة مولاه: "يا غلام! اذكر الحق أولا بقلبك ثم بقالبك ثانيا. اذكره بقلبك ألف مرة وبلسانك مرة. اذكره عند مجيء الآفات بالصبر وعند مجيء الدنيا بالترك، وعند مجيء الأخرى بالقبول، وعند مجيء الحق بالتوحيد، وعند مجيء غيره بالجملة بالإعراض عنه. إذا أرخيت عنان نفسك طمعت فيك ورمت بك. ألْجِمها بلِجام الورع ودع عنك القال والقيل".[6]

ذكر الله  باللسان والقلب والاستغراق والاستهتار والمحافظة على الأوراد آناء الليل وأطراف النهار بناء على غير أساس إن لم يَصن ذلك الذكر الكثير ذكرُ الله عند الأمر والنهي، ذكرُهُ عند حق كل ذي حق، ذكره في الدرهم والدينار، ذكره في الأمة التي تنتظر مجاهدين لإقامة دين الله  في الأرض.

قال الإمام الشافعي يناجي ربه ويذكره:

 

قلبـي برحمتـك اللهم ذو أُنُـسٍ*** في السر والجهر والإصباح والغلس

وما تقلبت من نومي وفي سِنَتـي***إلا وذكرك بيـن النَّفْـسِ والنَّفَـسِ

لقد مننت علـى قلبـي بمعرفـة*** بـأنـك الله ذو الآلاء والـقُـدُس

وقد أتيـت ذنوبـاأنـت تعلمها***ولم تكن فاضحي فيها بفعلِ مُسـي

فامنن علي بذكـرالصالحين ولا ***تجعل عليَّ إذاً في الدين من لَبَـسِ

وكن معي طول دنياي وآخرتــي ***ويوم حشري بما أنزلت في عَبـس

 

لعله رحمه الله يشير إلى قوله في سورة عبس: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة (الآيتان: 38-39) اللهم اجعلنا منهم بمنك وبجاه نبيِّك .

قالت روح تحوم حول الحرم النبوي الشريف مُحبَّة وَالِهَةً:

 

يا سعد إن جئت لذاك المقـام***أنْشِدْ فؤاداً في حماهـم قـام

وإن رأت عيناك ذاك اللِّـــوَى***عرِّض بذكر الواله المُسْتهـام

يا عين إن لاحت لنـا يثـــربٌ***فالسير من تلك علينا حـرام

لما بدا وادي العقيق انثنَـتْ*** ترفل فـي مشيتهـا كالنَّعـام

يا صاحبي أَجْرِ معـي أَدْمُعـــا*** ًشوقا إلى محفل بدْر التمـام

وقل إذا ما سِرْتَ في رَوْ ضِـــه*** يا ساكن الحيِّ عليـك السـلام

 

وقال مشتاق إلى ذلك الحمى:

 

نعم، لولاك ما ذكر العقيـق***ولا جابت له الفَلـواتِ نـوقُ

نعم، أسعى إليك على جفوني***تدانَى الحي أو بَعُدَ الطريـقُ

إذا كانت تحن لـك المطايا***فماذا يفعل الصــبُّ المشـوقُ

 

وقلت:

 

يا رَبِّ شَقَّ النُّزلُ شَقَّ المُقامْ***قد اغتربنا بيـن قـوم لئـامْ

همُ أذَلُّـوا أمَّـة المُصطفــى***ورَكــبوا وأمسكـوا بالزِّمـامْ

يا رَبِّ نصرَك على جمعهِــــم***ومَنْ تَكُــن لــهُ فَليـس يُضـامْ

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

[1] الإحياء ج1 ص 299.

[2] الموافقات ج2 ص 177-178.

[3] مدارج السالكين ج3 ص 264.

[4] الغنية ج2 ص43.

[5] الفتح الرباني ص 77.

[6] المصدر السابق ص 207.

 

المصدر: منتديات شمس المعاني


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...