طبقات الأولياء ومراتبهم وأصنافهم
ذكر الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن العربي مراتب الأولياء وطبقاتهم على
اختلاف أحوالهم في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية،وأطال في ذلك وقد رأيت
الإمام المناوي في مقدمة طبقاته الصغرى اختصر ذلك من الفتوحات ولكنه لم يتقيد بعباراتها
بل تصرف فيها، وترك فوائد كثيرة مهمة، فأردت أن أختصر ذلك هنا منها وأحافظ على عبارات
سيدي محيي الدين وأنقل كثيراً من الفوائد التي تركها المناوي رحمه الله.
قال اعلم أن رجال الله في هذه الطريقة هم المسمون بعالم الأنفاس. وهو اسم
يعم جميعهم، وهم على طبقات كثيرة، وأحوال مختلفة، ومنهم من تجمع له الحالات كلها والطبقات،ومنهم
من يحصل له من ذلك ما شاء الله، وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأحوال والمقامات،
ومنهم من يحصره عدد من كل زمان، ومنهم من لا عدد له لازم فيقلون ويكثرون.ولنذكر منهم
أهل الأعداد ومن لا عدد له بألقابهم إن شاء الله تعالى.
القسم الأول
في ذكر أصحاب مراتب الولاية الذين يحصرهم عدد
(فمنهم رضي الله عنهم: الأقطاب) وهم الجامعون للأحوال والمقامات
بالأصالة أو بالنيابة، وقد يتوسعون في هذا الإطلاق فيسمون قطبا كل من دار عليه مقام
ما من المقامات وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه. وقد يسمى رجل البلد قطب ذلك البلد،
وشيخ الجماعة قطب تلك الجماعة، ولكنَّ الأقطاب الْمُصطَلَحَ عَلَى أن يكون لهم هذا
الاسم مطلقاً من غير اضافة لا يكون منهم في الزمان إلا واحد وهو الغوث أيضاً وهو من
المقربين وهو سيد الجماعة في زمانه، ومنهم من يكون ظاهرَ الحكمِ ويحوز الخلافة الظاهرة
كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية
بن يزيد وعمر بن عبد العزيز والمتوكل، منهم من حاز الخلافة الباطنة خاصة ولا حكم له
في الظاهر كأحمد بن هارون الرشيد الستي وكأبي يزيد البسطامي،وأكثر الأقطاب لا حكم لهم
في الظاهر.
(
ومنهم رضي الله عنهم: الأئمة)
لا يزيدون في كل زمان على اثنين لا ثالث لهما. الواحد عبد الرب، والآخر
عبد الملك، والقطب عبد الله ولو كانت أسماؤهم ما كانت، وهما اللذان يخلفان القطب إذا
مات، وهما له بمنزلة الوزيرين، الواحد منهم مقصور على مشاهدة عالم الملكوت والآخر على
عالم الملك.
(ومنهم رضي الله عنهم: الأوتاد)
وهم الأربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون. رأينا شخصاً منهم بمدينة
فاس يقال له ابن جعدون كان ينخل الحناء بالأجرة. الواحد منهم يحفظ الله به المشرق وولايته
فيه، والآخر المغرب، والآخر الجنوب والآخر الشمال والتقسيم من الكعبة، وقد يكون منهم
النساء، وكذلك غيرهم،وألقابهم عبدالحي، وعبد العليم، وعبد القادر، وعبد المريد.
(ومنهم رضي الله عنهم: الأبدال)
وهم سبعة، لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل بدل
منهم إقليم فيه ولاية،الواحد منهم على قدم الخليل وله الاقليم الأول،والثاني على قدم
الكليم، والثالث على قدم هارون،والرابع على قدم إدريس،والخامس على قدم يوسف، والسادس
على قدم عيسى،والسابع على قدم آدم على الكل الصلاة والسلام.وسموا أبدالاً لكونهم إذا
فارقوا موضعاً ويريدون أن يخلفوا به بدلاً منهم في ذلك الموضع لأمر يرون فيه مصلحة
وقربة يتركون به شخصاً على صورتهم، لا يشك أحداً ممن أدرك رؤية ذلك الشخص أنه عين ذلك
الرجل، وليس هو بل هو شخص روحاني يتركه بدله بالقصد على علم منه، فكل من له هذه القوة
فهو البدل، ومن يقيم الله عنه بدلاُ في موضع ما ولا علم له بذلك فليس من الأبدال المذكورين.
وقد يتفق ذلك كثيراً عايناه ورأيناه، ورأينا هؤلاء السبعة الأبدال بمكة، لقيناهم خلف
حطيم الحنابلة، وهنالك اجتمعنا بهم فما رأيت أحداً أحسن سمتاً منهم، وكنا قد رأينا
منهم موسى البيدراني بأشبيلية سنة 586. وصل إلينا بالقصد واجتمع بنا، ورأينا منهم شيخ
الجبال محمد بن أشرف الرندية ولقي منهم صاحبنا عبد المجيد بن سلمة شخصاً اسمه معاذ
بن أشرص كان من كبارهم، وبلغني سلامه علينا، سأله عبد المجبد هذا عن الأبدال بماذا
كانت لهم هذه المنزلة؟ فقال بالأربعة التي ذكرها أبو طالب المكي، يعني: الجوع والسهر
والصمت والعزلة.
(ومنهم رضي الله عنهم: النقباء)
وهم اثنا عشر نقيباً في كل مكان وزمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج
الفلك الاثني عشر برجاً، كل نقيب عالم بخاصية برج. واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي
هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها
وخداعها. وأما ابليس فمكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه.وهم من العلم بحيث
إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي. مثل العلماء بالآثار
والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور وإذا رأوا شخصاً يقولون
هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر ويكون كذلك.وليسوا بأولياء لله تعالى فما ظنك بما يعطيه
الله لهؤلاء النقباء من علوم الآثار.
(ومنهم رضي الله عنهم: النجباء)
وهم ثمانية في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون وهم الذين تبدو منهم وعليهم
أعلام القبول من أحوالهم وإن لم يكن لهم في ذلك اختيار لكن الحال يغلب عليهم ولا يعرف
ذلك منهم إلا هو فوقهم لا من هو دونهم.
(ومنهم رضي الله عنهم:الحواريون)
وهو واحد في كل زمان فيه اثنان (فإذا مات ذلك الواحد أقيم غيره) وكان في
زمن رسول الله ، الزبير بن العوام هو كان صاحب هذا المقام، مع كثرة أنصار الدين بالسيف
والحواري من جمع في نصرة الدين بين السيف والحجة، فأعطي العلم والعبادة والحجة وأعطي
السيف والشجاعة والإقدام، ومقامه التحري في إقامة الحجة على صحة الدين المشروع.
(ومنهم رضي الله عنهم: الرجبيون)
وهم أربعون نَفْساً في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، وهم رجال حالهم القيام
بعظمة الله وهم من الأفراد وسموا رجبيين لأن حال هذا المقام لا يكون لهم إلا في شهر
رجب من أول استهلال هلاله إلى يوم انفصاله، ثم يفقدون ذلك الحال من أنفسهم فلا يجدونه
إلى دخول رجب من السنة الآتية، وقليل من يعرفهم من أهل هذا الطريق، وهم متفرقون في
البلاد، ويعرف بعضهم بعضا، منهم من يكون باليمن والشام وبديار بكر. قال سيدي محيي الدين:
لقيت واحدا منهم بدنسير من ديار بكر ما رأيت منهم غيره، وكنت بالأشواق إلى رؤيتهم.
ومنهم من يبقي عليه في سائر السنة أمرٌ ما مِمَّا كان يكاشف به في حاله في رجب. ومنهم
من لا يبقى عليه شئ من ذلك
وهؤلاء الرجبيون أول يوم يكون في رجب يجدون كأنما أُطْبِقَتْ عليهم السماء
فيجدون من الثقل بحيث لا يقدرون على أن يَطْرفُوَا ولا تتحرك فيهم جارحة، ويضطجعون
فلا يقدرون على حركة أَصلا، ولا قيام ولا قعود ولا حركة يد ولا رجل ولاجفن عين، يبقى
ذلك عليهم أول يوم، ثم يخف في ثاني يوم قليلا، وفي ثالث يوم أقل وتقع لهم الكشوفات
والتجليات والاطلاع على المغيبات، ولا يزال مضطجعا مسجى ثم يتكلم بعد الثلاث أو اليومين،
فيتكلم معه ويقول ويقال له إلى أن يكمل الشهر، فإذا فرغ الشهر ودخل شعبان قام كأنما
نشط من عقال، فإن كان صاحب صناعة أو تجارة اشتغل بشغله وسلب عنه جميع حاله كله إلا
من يشاء الله أن يبقى عليه من ذلك شيئا - هذا حالهم وهو حال غريب، مجهول السبب والذي
اجتمعت به منهم كان في شهر رجب وكان في هذه الحال.
(ومنهم رضي الله عنهم: الختم)
وهو واحد لا في كل زمان بل هو واحد في العالم يختم الله به الولاية المحمدية
فلا يكون في الأولياء المحمديين أكبر منه.
وثم ختم آخر يختم الله به الولاية العامة من آدم إلى آخر ولي وهو عيسى
عليه السلام هو ختم الأولياء، كما كان ختم دورة الفلك فله يوم القيامة حشران يحشر في
أمة محمد ويحشر رسولاً مع الرسل عليهم السلام.
(ومنهم رضي الله عنهم: ثلثمائة نفس على قلب آدم عليه السلام) في
كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، واعلم أن معنى قول النبي في حق هؤلاء: الثلثمائة (أنهم
على قلب آدم) وكذلك قوله في غير هؤلاء. ممن هو على قلب شخص من أكابر البشر أو الملائكة،
إنما معناه أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية تقلب ذلك الشخص إذا كانت واردات العلوم
الإلهية إنما تَرِدُ على القلوب، فكل علم يَرِدُ على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول
فإنه يَرِدُ على هذه القلوب التي هي على قلبه، وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان،
وهو بهذا المعنى نفسه،وقد أخبر رسول الله عن هؤلاء الثلثمائة أنهم على قلب آدم.
قال سيدي محيي الدين:وما ذكر رسول الله أنهم ثلاثمائة في أمته فقط، أو
هم في كل زمان وما علمنا أنهم في كل زمان إلا من طريق الكشف، وأن الزمان لا يخلو عن
هذا العدد ولكل واحد من هؤلاء الثلثمائة من الأخلاق الإلهية ثلثمائة خلق إلهي، من تخلق
بواحد منها حصلت له السعادة وهؤلاء هم المجتبون المصطفون ويستحبون من الدعاء ما ذكره
الحق سبحانه في كتابه {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}.
(ومنهم رضى الله عنهم: أربعون شخصاً على قلب نوح عليه السلام)
في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، هكذا ورد الخبر عن رسول الله في هذه
الطبقة، أن في أمته أربعين على قلب نوح عليه السلام وهو أول الرسل والرجال الذين هم
على قلبه صفتهم القبض ودعاؤهم دعاء نوح: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً
وللمؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الظالمين إلا تبارا} ومقام هؤلاء الرجال مقام الغيرة
الدينية وهو مقام صعب المرتقى، وكل ما تفرق في هؤلاء الأربعين اجتمع في نوح، كما أنه
كل ما تفرق في الثلثمائة اجتمع في آدم وعلى معارج هؤلاء الأربعين عملت الطائفة الأربعينيات
في خلواتهم لم يزيدوا على ذلك شيئاً وهي خلوات الفتح عندهم،ويحتجون على ذلك بالخبر
المروي عن رسول الله : « من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على
لسانه »
(ومنهم رضى الله عنهم: سبعة على قلب الخليل عليه السلام)
لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان، ورد به الخبر المروي عن رسول الله ودعاؤهم
دعاء الخليل: { رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} ومقامهم مقام السلامة من جميع الريب
والشكوك، وقد نزع الله عنهم الغل من صدورهم في هذه الدنيا وسلم الناس من سوء ظنهم ،
إذ ليس لهم سوء الظن، بل ما لهم ظن، فإنهم أهل علم صحيح فإنما الظن يقع ممن لا علم
له فيما لا علم له به بضرب من الترجيح، فلا يعلمون من الناس إلا ما هم عليه الناس من
الخير، وقد أسبل الله بينهم وبين الشرور التي هم عليها ـ الناس ـ حجبا. قال سيدي محيي
الدين: وقد لقيتهم يوماً وما رأيت أحسن سمتاً منهم علماً وحلماً: (إخوان صدق على سرر
متقابلين) وقد عجلت لهم جناتهم المعنوية الروحانية في قلوبهم.
(ومنهم رضى الله عنهم: خمسة على قلب جبريل عليه السلام)
لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان ورد بذلك الخبر المروي عن النبي « هم
ملوك أهل هذه الطريقة » لهم من العلوم على عدد ما لجبريل من القوى المعبر عنها بالأجنحة
التي بها يصعد وينزل ولا يجاوز علم هؤلاء الخمسة علم جبريل وهو الممد لهم من الغيب
ومعه يقفون يوم القيامة في الحشر.
(ومنهم رضى الله عنهم: ثلاثة على قلب ميكائيل عليه السلام)
لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان لهم الخير المحض والرحمة والحنان والعطف
والغالب على هؤلاء الثلاثة البسط والتبسم ولين الجانب والشفقة المفرطة ومشاهدة ما يوجب
الشفقة ولهم من العلوم على قدرما لميكائيل من قوى.
(ومنهم رضى الله عنهم: واحد على قلب اسرافيل عليه السلام)
في كل زمان وله الأمر ونقيضه جامع للطرفين ورد بذلك خبر مروي عن رسول الله
فيمن له علم اسرافيل ـ وكان أبو يزيد البسطامي ممن كان على قلب اسرفيل وله من الأنبياء
عيسى عليه السلام فمن كان على قلب عيسى فهو على اسرافيل ومن كان على قلب اسرافيل قد
لا يكون على قلب عيسى. قال سيدي محيي الدين: وكان بعض شيوخنا على قلب عيسى وكان من
الأكابر.
(وأما رجال عالم الأنفاس رضى الله عنهم)
فأنا أذكرهم وهم على قلب داود عليه السلام لا يزيدون ولا ينقصون في كل
زمان وإنما نسبناهم إلى قلب داود وقد كانوا موجودين قبل ذلك بهذه الصفة ـ فالمراد بذلك
أنه ما تفرق فيهم من الأحوال والعلوم والمراتب اجتمع في داود ولقيت هؤلاء العالم كلهم
ولازمتهم وانتفعت بهم. وهم على مراتب لا يتعدونها بعدد مخصوص لا يزيد ولا ينقص.وأنا
أذكرهم إن شاء الله تعالى:
1
ـ (فمنهم رضى الله عنهم: رجال الغيب)
وهم عشرة لا يزيدون ولا ينقصون هم أهل خشوع فلا يتكلمون إلا همساً لغلبة
تجلي الرحمن عليهم دائماً في أحوالهم. قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا
همساً} وهؤلاء هم المستورون الذين لا يعرفون، خبأهم الحق في أرضه وسمائه فلا يناجون
سواه ولا يشهدون غيره {يمشون على الارض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} دأبهم
الحياء إذا سمعوا أحداً يرفع صوته في كلامه ترعد فرائصهم ويتعجبون، واعلم أن لفظ رجال
الغيب في اصطلاح أهل الله يطلقونه ويريدون به هؤلاء الذين ذكرناهم وهي هذه الطبقة وقد
يطلقونه ويريدون به من يحتجب عن الأبصار من الإنس،وقد يطلقونه أيضاً ويريدون به رجالاً
من الجن من صالحى مؤمنيهم. وقد يطلقونه على القوم الذين لا يأخذون شيئاً من العلم والرزق
المحسوس من الحس ولكن يأخذونه من الغيب.
ب ـ (ومنهم رضى الله عنهم: ثمانية عشر نفساً أيضاً. هم الظاهرون بأمر الله
عن أمر الله) لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان، ظهورهم بالله قائمون بحقوق الله مُثْبتُون
الأسباب، العوائدُ لهم عادةٌ، آيتهم {قل الله ثم ذرهم} وأيضاً {إني دعوتكم جهاراً}،
كان منهم شيخنا أبو مدين رحمه الله تعالى كان يقول لأصحابه: أظهروا للناس ما عندكم
من الموافقة كما يظهر الناس بالمخالفة، وأظهروا ما أعطاكم الله من نعمه الظاهرة (يعني
خرق العوائد) والباطنة (يعني المعارف) فإن الله يقول: {وأما بنعمة ربك فحدث} وقال عليه
الصلاة والسلام: « التحدث بالنعمة شكر
».
جـ ـ (ومنهم رضي الله عنهم: ثمانية رجال يقال لهم رجال القوة الإلهية)
آيتهم من كتاب الله {أشداء على الكفار} لهم من الأسماء الإلهية (ذو القوة المتين) لا
تأخذهم في الله لومة لائم، وقد يسمون رجال القهر، لهم همم فعالة في النفوس وبهذ1 يعرفون.
كان بمدينة فاس منهم رجل واحد يقال له أبو عبد الله الدقاق، كان يقول: (ما اغتبت أحداً
قط، ولااغتيب بحضرتي أحد قط). قال سيدي محيي الدين ولقيت أنا منهم ببلاد الأندلس جماعة
ولقيت أنا منهم أثر عجيب ومعنى غريب وكان بعض شيوخي منهم.
(ومن نمط هؤلاء رضى الله عنهم خمسة رجال) في كل زمان لا يزيدون ولا
ينقصون هم على قدم هؤلاء الثمانية في القوة غير أن فيهم لِيناً ليس في الثمانية وهم
على قدم الرسل في هذا المقام، آيتهم قوله تعالى {فقولا قولاً ليناً} وقوله تعالى {فبما
رحمة من الله لنت لهم} فهم مع قوتهم لهم لين في بعض المواطن. أما في العزائم فهم على
قوة الثمانية على السواء ويزيدون عليهم بما ذكرناه مما ليس للثمانية. قال سيدي محيي
الدين وقد لقينا منهم رضى الله عنهم وانتفعنا بهم.
د ـ (ومنهم رضى الله عنهم: خمسة عشر نفساً)
هم رجال الحنان والعطف الإلهي آيتهم آية الريح السليمانية {تجري بأمره
رخاء حيث أصاب} لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون الخلق بعين الجود والوجود،
لا بعين الحكم والقضاء، لا يولي الله قط منهم أحداً ولاية ظاهرة من قضاء أو ملك لأن
ذوقهم ومقامهم لا يحتمل القيام بأمر الخلق فهم مع الخلق في الرحمة المطلقة التي قال
الله تعالى فيها {ورحمتي وسعت كل شيء} ولقيت منهم جماعة وماشيتهم على هذا القدم.
هـ ـ (ومنهم رضى الله عنهم: أربعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله {الله الذي خلق سبع سموات ومن
الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} وآيتهم أيضاً في سورة الملك {الذي خلق سبع سموات طباقا
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} هم رجال الهيبة والجلال.
كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم
لا خوف ظلم ولكن خوف اجلال
وهم الذين يمدون الأوتاد، الغالب على أحوالهم الروحانية، قلوبهم سماوية،
مجهولون في الأرض، معروفون في السماء. أحدهم على قلب محمد ، والآخر على قلب شعيب عليه
السلام، والثالث على قلب صالح عليه السلام، والرابع على قلب هود عليه السلام، ينظر
إلى أحدهم من الملأ الأعلى عزرائيل، وإلى الآخر جبريل. وإلى الآخر ميكائيل. وإلى الآخر
اسرافيل. شأنهم عجيب وأمرهم غريب. قال سيدي محيي الدين ما لقيت فيمن لقيت مثلهم، لقيتهم
بدمشق فعرفت أنهم هم وقد كنت رأيتهم ببلاد الأندلس واجتمعوا بي ولكن لم أكن أعلم أن
لهم هذا المقام، بل كانوا عندي من جملة عباد الله، فشكرت الله على أن عرفني بمقامهم
وأطلعني على حالهم.
و. (ومنهم رضى الله عنهم: أربعة وعشرون نفسا في كل زمان يسمون رجال الفتح)
لا يزيدون ولا ينقصون، بهم يفتح الله على قلوب أهل الله ما يفتحه من المعارف والأسرار
جعلهم الله على عدد الساعات، لكل ساعة رجل منهم، فكل من يفتح عليه في شئ من العلوم
والمعارف في أي ساعة كانت من ليل أو نهار فهو لرجل تلك الساعة، وهم متفرقون في الأرض
لا يجتمعون أبدا، كل شخص منهم لازمٌ مكانَهُ لا يبرح أبدا، فمنهم باليمن اثنان، ومنهم
ببلاد الشرق أربعة، ومنهم بالمغرب ستة، والباقي بسائر الجهات. آيتهم من كتاب الله
{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}.
ز. (ومنهم رضى الله عنهم: سبعة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، رجال المعارج العلا، لهم في كل نفس معراج، وهم أعلى
عالم الأنفاس. أي الأولياء أصحاب المراتب، آيتهم من كتاب الله تعالى {وأنتم الأعلون
والله معكم} يتخيل بعض الناس من أهل الطريق أنهم الأبدال لما يرى أنهم سبعة كما يتخيل
بعض الناس في الرجبيين أنهم الأبدال لكونهم أربعين عند من يقول أن الأبدال أربعون نفساً.
ومنهم من يقول سبعة أنفس. وسبب ذلك أنهم لم يقع لهم التعريف من الله بذلك، ولا بعددٍ
ما، ولله في العالم في كل زمان من الرجال المصطفين الذين يحفظ الله بهم العالم فيسمعون
أن ثم رجالاً عددهم كذا، كما أن ثم أيضاً مراتب محفوظة لا عدد لأصحابها معين في كل
زمان ـ بل يزيدون وينقصون كالأفراد، ورجال الماء، والأمناء والأحباء، والأخلاء، وأهل
الله، والمحدثين والسُّمَرَاءِ، والأصفياء، وهم المصطفون، فكل مرتبة من هذه المراتب
محفوظة برجال في كل زمان، غير أنهم لا يتقيدون بعدد مخصوص مثل من ذكرناهم.
ج ـ (ومنهم رضى الله عنهم: أحد وعشرون نفساً وهم رجال التحت الأسفل)
وهم أهل النفس الذي يتلقونه من الله لا معرفة لهم بالنفس الخارج عنهم،
وهم على هذا العدد في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، آيتهم من كتاب الله تعالى {ثم
رددناه أسفل سافلين} يريد تعالى عالم الطبيعة إذ لا أسفل منه، رده إليه ليحيا به فإن
الطبع ميت بالأصالة فأحياه بهذا النفس الرحماني الذي رده إليه وهؤلاء الرجال لا نظر
لهم إلا فيما يَرِدُ من عند الله مع الأنفاس فهم أهل حضور على الدوام.
ط ـ (ومنهم رضى الله عنهم: ثلاثة أنفس)
وهم رجال الإمداد الإلهي والكوني في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون فهم
يستمدون من الحق ويمدون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة لا بعنف ولا شدة ولا قهر يقبلون
على الله بالاستفادة، ويقبلون على الخلق بالإفادة، فيهم رجال ونساء قد أهلهم الله للسعي
في حوائج الناس وقضائها عند الله لا عند غيره وهم ثلاثة قال سيدي محيي الدين لقيت واحداً
منهم بأشبيلية وهو من أكبر من لقيته يقال له موسى بن عمران، سيد وقته كان أحد الثلاثة
لم يسأل أحداً حاجة من خلق الله. وقد ورد في الخبر أن النبي قال: « من تقبل لي بواحدة
تقبلت له بالجنة أن لا يسأل أحداً شيئاً ». وصفة هؤلاء إذا أفادوا الخلق ترى فيهم من
اللطف وحسن التأني حتى يظن أنهم هم الذين يستفيدون من الخلق. وأن الخلق هم الذين لهم
اليد عليهم ما رأيت أحسن منهم في معاملة الناس.
ى ـ (ومنهم رضى الله عنهم: ثلاثة أنفس إلهيون رحمانيون في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون، يُشْبهونَ الأبدالَ في بعض الأحوال وليسوا بأبدال
آيتهم من كتاب الله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} لهم اعتقاد عجيب في
كلام الله بين الاعتقاديين. هم أهل وحي إلهي لا يسمعونه أبداً إلا كسلسلة على صفوان،
لا غير ذلك،ومثل صلصلة الجرس هذا مقام هؤلاء القوم.
ك ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجل واحد وقد تكون امرأة في كل زمان)
آيته (وهو القاهر فوق عباده) له الاستطالة على كل شيء سوى الله شهم شجاع
مقدام كثير الدعوى بحق يقول حقاً ويحكم عدلاً. قال سيدي محيي الدين كان صاحب هذا المقام
شيخنا عبد القادر الجيلي ببغداد كانت له الصولة والاستطالة بحق على الخلق كان كبير
الشأن أخباره مشهورة لم ألقه ولكن لقيت صاحب زماننا في هذا المقام، ولكن كان عبد القادر
أتم في أمور أخر من هذا الشخص الذي لقيته، وقد درج الآخر ولا علم لي بمن وليَّ بعده
هذا المقام إلى الآن.
ل ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجل واحد مركب ممتزج في كل زمان)
لا يوجد غيره في مقامه وهو يشبه عيسى عليه السلام متولد بين الروح والبشر
ولا يعلم له أب بشري كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجن والإنس فهو مركب من جنسين
مختلفين، وهو رجل البرزخ به يحفظ الله تعالى عالم البرزخ دائماً فلا يخلو كل زمان عن
واحد مثل هذا الرجل يكون مولده على هذه الصفة فهو مخلوق من ماء أمه خلافاً لما ذكره
أهل علم الطبائع أنه لا يتكون من ماء المرأة ولد، بل الله على كل شيء قدير.
م ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجل واحد وقد يكون امرأة)
له دقائق ممتدة إلى جميع العالم وهو شخص غريب المقام لا يوجد منه في كل
زمان إلا واحد يلتبس على بعض أهل الطريق ممن يعرفه بحالة القطب، فيتخيل أنه القطب وليس
بالقطب.
ن ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجل يسمى بمقامه سقيط الرفرف ابن ساقط العرش)
قال سيدي محيي الدين: لقيته بقونية آيته من كتاب الله {والنجم إذا هوى} حاله لا يتعداه،
شغله بنفسه وبربه، كبير الشأن عظيم الحال، رؤيته مؤثرة في حال من يراه، فيه انكسار،
هكذا شاهدته صاحب انكسار وذل، أعجبتني صفته، له لسان في المعارف، شديد الحياء.
س ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجلان يقال لهما رجال الغنى بالله)
في كل زمان من عالم الأنفاس أي الأولياء أصحاب المراتب كما تقدم، آيتهما
من كتاب الله { والله غني عن العالمين} يحفظ الله بهما هذا المقام، للواحد منهما إمداد
عالم الشهادة فكلُّ غني في عالم الشهادة فمن هذا الرجل، وللآخر منهما إمداد عالم الملكوت
فكل غنيٍ بالله في عالم الملكوت فمن هذا الرجل، والذي يستمدان منه (هذان الرجلان) روحٌ
علوي متحقق بالحق غِنَاهُ اللهُ ما هو غناه بالله، فإن أضفته إليهما فرجال الغني ثلاثة
وإن نظرت إلى بشريتهما، فرجال الغنى اثنان، وقد يكون منهم النساء فغني بالنفس وغني
بالله وغني غناه الله، قال سيدي محيي الدين: ولنا جزء لطيف في معرفة هؤلاء الرجال الثلاثة
رضى الله عنهم.
ع ـ (ومنهم رضى الله عنهم: شخص واحد يتكرر بقلبه في كل نفس)
لا ترى في الرجال أعجب منه حالاً، وليس في أهل المعرفة بالله أكبر معرفة
من صاحب هذا المقام، يخشى الله ويتقيه، تحققت به ورأيته وأفادني. آيته من كتاب الله
{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقوله تعالى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} لا يزال
ترعد فرائصه من خشية الله هكذا شاهدناه.
ف ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجال عين التحكيم والزوائد وهم عشرة أنفس في
كل زمان) لا يزيدون ولا ينقصون مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في الدعاء،
وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين في تحصيل ذلك الغيب، فلا يكون لهم غيب. إذ كل
غيب لهم شهادة، وكل حال لهم عبادة، فلا يصير لهم غيب شهادة، إلا ويزيدون إيماناً بغيب
آخر ويقينا في تحصيله، آيتهم من كتاب الله تعالى {وقل رب زدني علماً} }{وليزدادوا إيماناً
مع إيمانهم} ـ {فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} بالزيادة وقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي
عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
ص ـ (ومنهم رضى الله عنهم: اثنا عشر نفساً يقال لهم البدلاء وما هم الأبدال)
وهم في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون. مقامهم إظهار غاية الخصوصية بلسان الانبساط في
الدعاء، وحالهم زيادة الإيمان بالغيب واليقين، وسموا بدلاء لأن الواحد منهم لو لم يوجد
الباقون، ناب منابَهُم وقام بما يقوم به جميعُهُمْ.
ق ـ (ومنهم رضى الله عنهم: رجال الاشتياق وهم خمسة أنفس وهم من ملوك أهل
طريق الله) بهم يحفظ الله وجود العالم، آيتهم من كتاب الله تعالى {حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى} لا يفتُرُون عن صلاة في ليل ولا نهار. قال سيدي محيي الدين وكان صالح
البربري منهم لقيته وصحبته إلى أن مات وانتفعت به، وكذلك أبو عبد الله المهدوي بمدينة
فاس صحبته كان من هؤلاء أيضاً.
ر ـ (ومنهم رضى الله عنهم: ستة أنفس في كل زمان)
لا يزيدون ولا ينقصون. كان منهم ابن هارون الرشيد أحمد السبتي. قال سيدي
محيي الدين : لقيته بالطواف يوم الجمعة يوم الصلاة سنة 599 وهو يطوف بالكعبة،وسألته
وأجابني ونحن بالطواف، وكأن روحه تجسد لي في الطواف حساً كتجسد جبريل في صورة أعرابي
ولهم سلطان على الجهات الست التي ظهرت بوجود الإنسان قال : وأخبرت أن واحداً منهم كان
من جملة العوانية من أهل أرزن الروم، أعرف ذلك الشخص بعينه وصَحِبْتُه، وكان يعظمني
ويراني كثيراً، واجتمعت به في دمشق وفي وسواس وفي ملطية وفي قيصرية، وخدمني مُدَّة،وكانت
له والدة كان بارا بها، واجتمعت به في حَرَّانَ في خدمة والدته، فما رأيت فيمن رأيت
من يَبَرُّ أمَّهُ مثله،وكان ذا مال وله سنون فقدته من دمشق، فما أدري هل عاش أو مات
وبالجملة فما من أمر محصور في العالم في عدد ما إلا ولله رجال بعدده في كل زمان يحفظ
الله بهم ذلك الأمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق