الثلاثاء، 30 أبريل 2019

الأصول العشرة في طريق القوم


الأصول العشرة في طريق القوم



تأليف

أبي الجناب نجم الدين البكري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي وضع الأصول لتأسيس بناء الأصول، والصلاة والسلام على حضرة الرسول، الذي هو مفتاح كل مسئول، وعلى آله وأصحابه المبشرين، لا سيما العشرة.
أما بعد ...

فهذه (الأصول العشرة) المنسوبة إلى الشيخ العالم العارف المشتهر بأبي الجناب نجم الدين البكري، قدس الله سره وعمم بره، فاعلم ذلك واعمل ؛ حتى يتيسر لك الوصول إلى الله عز وجل، وطريقنا الذي نشرع في شرحه هو أقرب الطرق إلى الله وأوضحها وأرشدها، وذلك لأن الطرق مع كثرة عددها محصورة في ثلاثة أنواع: أحدها: طريق أرباب المعاملات بكثرة الصوم والصلاة وتلاوة القرآن والحج والجهاد وغيرها من الأعمال الظاهرة وهو طريق الأبرار، والواصلون بهذا الطريق أكثر من ذلك الفريق لكن الوصول بذلك منهم من النوادر كما سأل أبو منصور إبراهيم الخواص في أيّ مقام تروض. فقال أروض نفسي في مقام التوكيل منذ ثلاثين سنة.

وثالثها  : طريق السائرين إلى الله وهو طريق الشطار من أهل المحبة، والواصلون بهذا الطريق في البدايات أكثر من غيرهم في النهايات - فهذا الطريق المختار مبني على الموت بالإرادة كما قال عليه الصلاة والسلام «موتوا قبل أن تموتوا، وعد نفسك في الموتى». وهو محصور في عشرة أصول.

الأصل الأول التوبة، وهي الرجوع إلى الله تعالى، كما أن الموت رجوع بغير الإرادة كقوله تعالى: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ وهي الرجوع عن الذنب، وهو ما يحجبك عن الله من مراتب الدنيا والآخرة، فالواجب على الطالب الخروج عن كل مطلوب سواه حتى الوجود كما قيل: وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر.


الأصل الثاني الزهد في الدنيا، وهو الخروج عن متاعها وشهواتها قليلها وكثيرها مالها وجاهها كما أن الموتى يخرجون منها، وحقيقة الزهد: أن تزهد في الدنيا والآخرة كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرامٌ على أهل الدنيا وهما حرامان على أهل الله».

الأصل الثالث: التوكل على الله تعالى وهو الخروج عن الأسباب والتسبب بالكلمة ثقة بالله تعالى كما هو بالموت. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.

الأصل الرابع: القناعة، وهي الخروج عن الشهوات النفسانية والمتمتعات الحيوانية إلا ما اضطر إليه من الحاجة الإنسانية، فلا يسرف في المأكول والملبوس والمسكن، ويقتصر على ما لا بد منه لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾.

الأصل الخامس: العزلة وهي الخروج عن مخالطة الخلق بالانزواء والانقطاع كما هو بالموت إلا عن خدمة شيخ واصل مرب له، أو أستاذ نافع مشفق لأنهما كالغسال للميت فينبغي للطالب أن يكون بين يديهما كالميت بين يدي الغسال المتصرف فيه كيف يشاء ليغسله بماء الولاية عن جنابة الأجنبية ولوث الحدوث، وأصل العزلة: عزل الحواس بالخلوة عن التصرف في المحسوسات، فإنها كل آفة وبلاء وفتنة تبتلى الروح بها وكانت تقوية النفس وتربية صفاتها وإنما دخلت من روزنة الحواس وبها استتبعت النفس الروح إلى أسفل سافلين وقيدته بها واستولت عليه، فبالخلوة وعزل الحواس ينقطع مدد النفس عن التصرف في المحسوسات، كما أن الطبيب في معالجة المريض يأمر أولًا بالاحتماء مما يضره ويدبره في علل مرضه فينقطع بذلك عنه مدد المواد الفاسدة التي ينبعث به المرض وتنقى به المواد، وقد قيل: الحمية رأس كل دواء، ثم يعالجه بالمسهل ليزيل عنه المواد الفاسدة وتقوى به القوة الطبيعية، والحرارة الغريزية فيزول عنه المرض بدفع الطبيعة ويحدث الصحة، فالمسها ههنا بعد الاحتماء وتنقية مواد الذكر الدائم.

الأصل السادس: ملازمة الذكر، وهو الخروج عن ذكر ما سوى الله بالنسيان، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ أي غير الله كما هو بالموت، فأما نسبة مسهلية الذكر وهو كلمة لا إله إلا الله فإنه معجون مركب


من النفي والإثبات فالنفي يزيل المواد التي يتولد منها مرض القلب، وقيد الروح وتقوية النفس، وتربية صفاتها، وهي الأخلاق الذميمة النفسانية، والأوصاف الشهوانية الحيوانية وبإثبات إلا الله تحصل صحة القلب وسلامته عن الرذائل من الأخلاق، وانحراف مزاجه الأصلي، واستواء مزاجه وحياته بنور الله تعالى، فتتحلى الروح بشواهد الحق، وتجلي ذاته وصفاته، ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾ وزالت عنها ظلمات صفاتها، تحلى ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ﴾ الذي أهلك بتجلي جلاله كل الموجودات، وبرزوا لله الواحد القهار، فقد نبهتك على أمر عظيم إن كنت من أهل القلب السليم الفهيم فعلى قضية ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، الذاكرية بالمذكورية، والمذكورية بالذاكرية فيفنى الذاكر في الذكر، ويبقى المذكور خليفة للذاكر فإذا طلبت الذاكر وجدت المذكور، وإذا طلبت المذكور وجدت الذاكر، فإذا أبصرتني أبصرته، وإذا أبصرته أبصرتني، ولا تكن ممن قيد الحق بالخلق فإنه إلحاد، وهذا مني لك إرشاد.

الأصل السابع: التوجه إلى الله تعالى بكلية وجوده، والخروج عن كل داعية تدعو إلى غير الله كما هو بالموت، فلا يبقى له مطلوب ولا محبوب ولا مقصود ولا مقصد إلا الله، ولو عرضت عليه مقامات جميع الأنبياء والمرسلين لا يلتفت إليها بالإعراض عن الله لحظة. قال الجنيد قدس سره: لو أقبل الصديق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة فما فاته أكثر مما ناله.

الأصل الثامن: الصبر، وهو الخروج عن حظوظ النفس بالمجاهدة كما هو بالموت والثبات على فطامها من مألوفاتها ومحبوباتها ؛ لتزيكتها والاستقامة على الطريقة المثلى، قال الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.

الأصل التاسع: المراقبة، وهي الخروج عن جولة وقوته كما هو بالموت مراقبًا مواهب الحق متعرضًا لنفحاته بالطاعة، معرضًا عما سواه، مستغرقًا في بحر هواه مشتاقًا إلى لقائه، قلبه يحن لديه، وروحه بائن به يستعين عليه، ومنه يستغيث إليه، حتى يفتح الله باب رحمة لا ممسك لها، ويغلق عليه باب


إيلامه لا مفتح له بنور ساطع من رحمة الله على النفس تزول به أمارية النفس في لحظة ما تزول في ثلاثين سنة بالمجاهدات والرياضات، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، وهم الأخيار، بل يبدل سيئات النفس بحسنات لقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ وهم الأبرار. بل تكون حسنات الأبرار سيئات المقربين بحسنات ألطافه تعالى لقوله تعالى:
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ فهذه الزيادة حسنات ألطاف الحق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الأصل العاشر: الرضا، وهو الخروج عن رضا نفسه بالدخول في رضا الله تعالى بتسليم الأحكام الأزلية، والتفويض إلى التدبيرات الأبدية، بلا منازعة ولا اعتراض كما هو بالموت كما قال بعضهم: وكلت إلى محبوبي أمري كله إن شاء أحياني وإن شاء أماتني، فمن يموت بإرادته عن هذه الظلمانية يحييه الله بنور عنايته كما قال جل ذكره: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ أي من كان ميتًا عن أوصافه الظلمانية في شجرة الأنانية، فأحييناه بأوصافنا الربانية، وجعلنا له نورًا من أنوار جمالنا يمشي به في الناس بالفراسة، ويشاهد أحوالهم، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: أي كمن لا ظهر له بزهرة المؤمنية، وإثمار الولاية والنبوة.

تم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الخلق أجمعين وآله وصحبه والمقتدين والمهتدين والمسلمين. آمين.

هناك تعليق واحد:

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...