الثلاثاء، 30 أبريل 2019

الإنسان والوجود


الإنسان والوجود 

( لسيدي علي الجمل )




قال سيدي علي الجمل: (اعلم أنه ما تخلص باطنك من المكونات ملئ بالمكون ونشأت المحبة بينك وبين سائر المكونات، وما ملئ باطنك من المكونات خرج منه المكون ونشأ البغض بينك وبينه اثر المكونات، ومهما صفت معاملتك مع الخلق عطفت عليك الحكم والسلطان عليه، ولا حكم له عليك: هذا إن كنت له فإنه يكن لك كل شيء، وإذا كنت به كان بك كل شيء )، وقال: (اعلم أنه ما خلق الله جسد الإنسان إلا لأجل الروح، ومهام غابت الروح هلك الجسد وفنى وتلاشى، كذلك خلق الله الوجود لأجل الإنسان ولو غاب الإنسان لهلك هذا الوجود وفنى وتلاشى. خلق الله الجسد كرامة للروح، كما خلق هذا الوجود كرامة للإنسان، فضلًا ورحمة منه. بحانه من لا يحصر جوده وكرمه، الكريم المتعال )، وقال: (اعلم أن حدث السن وحدث العقل، لا تجد صفاته إلا غالبة على ذاته، وشامخ السن وشامخ العقل لا تجد ذاته إلا غالبة على صفاته. حدث السن مكسو بكسوة حضرة الربوبية، وهي كسوة العز والعلو، وهي تغرس صاحبها في الذل والدنو، أحب أم كره، وشامخ العقل مكسو بكسوة حضرة العبودية، وهي كسوة الذل والدنو، وهي تغرس صاحبها في العز والعلو، أحب أم كره. غرس الصفات عز، يثمر بأثمار الذات ذل. وغرس الذات ذل، يثمر بأثمار الصفات عز، هكذا في الإنسان، وهكذا في الوجود. كأن الأشياء كامنة في أضدادها في الوجود، كذلك الأشياء كامنة في أضدادها في الإنسان. الإنسان نسخة الوجود، والوجود نسخة الإنسان. الإنسان ملك على الوجود، والوجود مملوك للإنسان. ملك الإنسان قائم بمملكة الوجود، ومملكة الوجود قائمة بملك الإنسان. ما شاء الإنسان كان في الوجود، وما شاء الوجود لا يكون في الإنسان. تصرف الإنسان في الوجود، كتصرف القلب من الإنسان، والقلب بيت الله في الإنسان، وهو بين أصابع الرحمن، يتقلب في كل حال وفق إرادة الملك الديان )، وقال: (اعلم أن حقيقة الإنسان كحقيقة أحوال الوجود، وحقيقة أحوال الوجود كحقيقة أحوال الإنسان، حرفًا حرفًا، من غير زيادة ولا نقصان. فأحوال الوجود قامت بالأضداد، كالشتاء والمصيف نعني به الحرارة والبرودة، كل حالة لا تقوم إلا بالأخرى معها، ولو كانت حالة واحدة لاضمحل الوجود، ولكن لا بد أن يكون الحكم لواحدة على الأخرى أي التي تكون في الوقت غالبة يكون لها الحكم على الأخرى، ولو كانت معها لا تفارقها ولا تقوم إلا بها، كما أن في المصيف يكون الحكم للحرارة، مع أن البرودة لا تفارقها، ولو كان في المصيف الحرارة من غير برودة لاضمحل الوجود ومن هو فيه وتلاشى بالحر، وكما أن في الشتاء يكون الحكم للبرودة، مع أن الحرارة لا تفارقها، ولو كان في الشتاء البرودة من غير الحرارة لاضمحل الوجود ومن فيه وتلاشى بالبرودة. كذلك الإنسان كل فصل وكل وقت يكون فيه الحال وضده، ولكن الحكم للغالب في الوقت، لأن وجود الوجود ما قام واستوى إلا بالأشياء وأضدادها أبدًا، ولو كان فيه حال واحد طرفة عين لهلك الوجود وعدم. كذلك الإنسان ما قام واستوى وجوده إلا بالأشياء وأضدادها أبدًا، ولو كان فيه حال واحد طرفة عين لهلك الإنسان وعدم واضمحل، وهكذا فإن الإنسان كما قلنا أولًا نسخة من الوجود، والوجود نسخة من الإنسان. قيل إن عالم النفوس هو العالم الأكبر، وعالم الوجود نسخة منه، لأن عالم النفوس له الحكم على عالم الوجود، ولا حكم لعالم الوجود على عالم النفوس، وذلك لما عظمه وشرفه حيث قال: « لن تسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن ». هذا هو الدليل على شرفه عليه )، وقال: (اعلم أن حقيقة الإنسان وحقيقة الوجود، حكمهما كأنه واحد، من غير زيادة ولا نقصان. وإن فتشتهما في الأصل وجدتهما حقيقة واحدة، وحكمهما يرجع إلى خمسة أقسام: أولها: إما أن تكون حرارتهما على قدر برودتهما فهذه منزلة الاعتدال، وإما أن تكون حرارتهما من غير برودة، وإما أن تكون برودة من غير حرارة، وإما أن تكون حرارة وبرودة لكن الحرارة أقوى من البرودة، أو تكون حرارة وبرودة أيضًا ولكن البرودة أقوى من الحرارة. أما القسم الأول وهو قسم الاعتدال وهو الذي ذمه الله تعالى في قوله: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾ [ النساء: 143]، فزيادة هذا القسم زيادة سفلية. والقسم الثاني وهو حرارة من غير برودة، زيادته أيضًا سفلية. والقسم الثالث برودة من غير حرارة، زيادته أيضًا سفلية. والقسم الرابع وهو ترجيح الحرارة على البرودة، وهو مذهب أهل الباطن، زيادته علوية. والقسم الخامس هو ترجيح البرودة على الحرارة، هو مذهب أهل الظاهر، وزيادته علوية. أما الثلاثة جرت عادة الله بها في الوجود: منزلة الاعتدال، ومنزلة الترجيح الأول، ومنزلة الترجيح الثاني. وأما منزلة الحرارة فقط، ومنزلة البرودة فقط، ما جد في شيء إلا عدم )، وقال: (اعلم أنك إذا خفت من الوجود وغلبك الوجود فخوفك منه أصلي وغلبته لك أصلية، وإذا غلبت الوجود وخاف منك الوجود فغلبتك له أصلية وخوفه منك أصلي. 



وحاصل هذا الكلام أنك إذا كنت بالله تغلب كل شيء ويخاف منك كل شيء ويكون بمرادك وعند أمرك ونهيك، وإذا كنت بنفسك غلبك كل شيء وخفت من كل شيء، وأين من يخاف منه كل شيء مرأ مرأ منع الذي يخاف من كل شيء. الثاني مملوك للوجود، والأول مالك للوجود، وشتان بين المالك والمملوك )، وقال: (اعلم ومما يدلك على الوجود كله واحد، وأنت هو ذلك الواحد، إلا إذا اهتممت بشيء في باطنك ولم يعلم بطويتك سواك، فإن الوجود كله لا يقابلونك إلا بما اهتممت به خيرًا كان أو شرًا )، وقال: (اعلم أنك ما تهيأت لشيء إلا تهيأ لك ذلك الشيء كان ظاهرًا أو باطنًا، ولا طلبت شيئًا إلا طلبك، ولا نكرت شيئًا إلا نكرك، ولا أقبلت على شيء إلا أقبل عليك، ولا أعرضت عن شيء إلا أعرض عنك، ولا أحببت شيئًا إلا أحبك، ولا كرهت شيئًا إلا كرهك هو، وحاصله: الوجود مثل المرآة، ما قابلته بشيء إلا قابلك به، وأين ما طرحت نفسك ثم تجدها، قال تعالى: ﴿ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ [ إبراهيم: 34 ]، وعنه > : « إن الله يرزق العبد على قدر همته »، أو كما قال. النفس مثل النحلة: البلدة التي رتعت فيها، من طعمها تتعشى، وبه تروح في مخلبها إلى جبحها )، وقال: (اعلم أنك إذا توجهت للوجود بظاهرك ظلمة وبباطنك نورًا فإن الوجود يقابلك كما قابلته ظواهره ظلمة وبواطنه نورًا، وإذا قابلته بعكس هذا الأمر يعني بظاهرك نورًا وببواطنك ظلمة فإن الوجود يقابلك كذلك أيضًا، أي بما قابلته يقابلك، ومن جملة ذلك لبس الثياب الجميلة جمال للخلق جلال لنفسك كذلك يقابلك الخلق يدفعون الجمال إليك والجلال لأنفسهم، وكذلك لبس الثياب الرثة جلال للخلق جمال لنفسك كذلك يقابلك الخلق يدفعون الجلال إليك والجمال لأنفسهم كأن الوجود مرآة بما تقابله يقابلك )، وقال: (اعلم أنك إذا تواضعت للوجود وملكته نفسك، فإن الوجود يتواضع إليك ويملكك نفسه، فيكون طوع يديك تفعل به ما تريد. وإذا تعاظمت على يده يفعل بك ما أراد. صار ملك الإنسان في عبوديته، وعبودية الإنسان في ملك، قال تعالى: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [ الأنعام: 139 ]. انظر قول الشاذلي رحمه الله: واجعلنا عبيدًا لك في جميع الحالات، لأن الوجود يتلون بتلونك كما تتلون المرآة بتلونك إذا قابلتها، وذلك لأن الوجود منك، وأنت منه، والوجود أنت، وأنت الوجود )، وقال: (اعلم أنك إذا أقررت للوجود أنه منك وأنت منه، فإن الوجود يقر لك أنك منه وهو منك، فإذا حصل هذا الإقرار بينك وبينه، فإن الوجود كله يصير عندك بمنزلة أعضائك يتحرك بتحرك همتك ويسكن بسكونها، فإذا صار الأمر هكذا يصير الوجود فوقي وسفلي كله واحد، وأنت ذلك الواحد. قال الششتري رحمه الله في بعض كلامه:

إذا شعرت بالوجود قد لاح في ذاتك

هو دس ولازم الجحود هدك صفاتك

واضرب بترسك العقود والق عصاتك


لأن هذا الوجود خلقه الله تبارك وتعالى منك، وخلقك منه، يعني كانت نشأته منك في عالم الحقيقة، كما كانت نشأتك منه في عالم الشريعة، لكن فضلك وكرمك عليه حيث جعلك أميرًا عليه وجعله تابعًا لهمتك وأمرك وإرادتك. جعلك الله تحكم عليه، ولا يحكم عليك. الوجود كله مرآة مقابلة لك: أحوالك أحواله، وأقوالك أقواله، وأفعالك أفعاله، من غير زيادة ولا نقصان. إذا عطفت عليه وأقررت له بقربه منك، عطف عليك وأقر لك بقربك منه. وإذا أبعدته منك ونكرت قربه، بعدك ونكر قربك منه )، وقال: (اعلم أن الوجود في الحقيقة هو منك وأنت منه، يعني على قدر ما تكون أنت منه يكون هو منك، وعلى قدر ما تكون عبدًا له يكون هو عبدًا لك، وعلى قدر ما تكون أنت سيده يكون هو سيدك، وعلى قدر ما تعظمه وتشكره يعظمك ويشكرك هو على قدر ذلك، وعلى قدر ما تحتقره وتذمه يحتقرك هو ويذمك، وعلى قدر ما تنفق وتتكرم على الوجود ينفق هو عليك ويتكرم عليك، من غير زيادة ولا نقصان، وعلى بخلك عليه يكون بخله عليك قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [ محمد: 38 ]، وعلى قدر حبك له يكون حبه لك، وعلى قدر بغضك له يكون بغضه لك، وعلى قدر إقرارك له يكون إقراره لك، وعلى قدر إنكارك له يكون إنكاره لك، وعلى قدر صدقك معه يكون صدقه معك، وعلى قدر إحسانك معه يكون إحسانه معك، وعلى قدر إساءتك له تكون إساءته لك، وعلى قدر ذلك له يكون ذله لك، وعلى قدر عزك عليه يكون عزه عليك، إلى ما ليس له نهاية من هذه الأمور. كأن الأمور كلها منك تخرج، وعليك تعود، خيرياتها وشرياتها. كأن الأمور كلها بيدك، والحق هو أنها كلها بيدك من جهتك التي قابلت بها الربوبية، والحق أيضًا هو أنه ليس بيدك شيء منها أي من جهتك التي قابلت بها العبودية. وكل إنسان له هاتان الوجهتان: وجهة الربوبية ووجهة العبودية، وهو كالمرآة إذا قابلته العبودية ظهر عليه آثارها أحب أم كره، وإذا قابلته الربوبية ظاهر عليه آثارها أحب أم كره. ولكن العموم صاروا عمومًا لأنهم جاهلون بذلك يردونه ولا يعرفون حكمه، من أجل ذلك منعوا من


نفحاته. والخصوص نفعنا الله بهم صاروا خصوصًا لعلمهم بذلك وعملهم به، يردونه على معرفة وعيان فحصلت لهم نفحاته عاجلة وآجلة، شموا الأنوار وأكلوا الأُثمار. رزقنا الله محبتهم وجعلنا من المتعلقين بأذيالهم في الدنيا والآخرة، بفضله وإحسانه ).
...
المصدر  : كتاب : سيدي علي الجمل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...