السبت، 6 أبريل 2019

قراءة في ثلاثية الوجود عند الشيخ ابن عربي


قراءة في ثلاثية الوجود عند الشيخ ابن عربي


دراسة مختصرة مأخوذة من كتاب ( ثلاثية الوجود )
للأستاذ الباحث نضال فاضل كاني البغدادي
ومرسلة للجامعة العربية المفتوحة لشمال أمريكا
7 سبتمبر2010 م




المقدمة

الفكر الإنساني ، شعلة الحضارة التي لا تنطفئ ولا تنضب ، ومن خلال هذه الشعلة استطاع الإنسان ان يقتحم غوامض الوجود بما فيه من أبعاد فيزيقية أو ميتافيزيقية ليرفد الإنسانية جميعاً بأفكارها التي نشأت أول ما نشأت عبارة عن أسئلة بسيطة ، ثم بنى الإنسان من خلالها أفكاراً ومبادئ ومذاهب استمرت تنمو في مسارها الطويل من الفكر وما تزال .

ومذهب وحدة الوجود نموذج لتلك الأفكار والمذاهب التي ظهرت في صورتها البدائية البسيطة محاولات تعكس رؤيا الإنسان الى الطبيعة وموقفه من الآلهة . واستمرت لتتحول إلى نظريات فلسفية كبيرة في الفكر الإنساني .

بين طيات هذا التراث الفكري ظهر الفكر الإسلامي والذي تميز بخصوصية انطلاقه من مسلمات القرآن الكريم في إقرار الصلة بين الله والعالم ، وقد كانت هذه الانطلاقة في ثلاث اتجاهات وهي علم الكلام والتصوف والفلسفة ، حيث استطاعت كل من هذه الاتجاهات على حدة أن تغني مسيرة الفكر الإسلامي من خلال ما صبت فيه من أفكار ومذاهب وآراء أدت بالتالي إلى ظهور مذاهب إسلامية في وحدة الوجود ، والتي تقتصر الرؤية فيها على علاقة الله بالعالم وتفسير هذه العلاقة أو الصلة على أساس من الوحدة الإلهية التي تطغى على كل ما في الوجود ، واعتبار هذا الوجود مظاهر وصفات وأسماء لهذه الوحدة الإلهية .

ووحدة الوجود في الإسلام اقترنت باسم الشيخ ابن عربي ، إذ بنظر الكثيرين هو الذي هذب هذا المذهب ووصل به إلى صورته المتكاملة في التصوف الإسلامي ، فلم يعرف قبله بصورته التي اصبح عليها عنده أو بعده ، أي وجد مذهب وحدة الوجود صيغته الصوفية الفلسفية المتكاملة على يديه .

وقد أدى قوله بهذا المذهب أو نسبته إليه إلى اختلاف الناس فيه اشد الاختلاف ، فنظره الفلاسفة من أهل الشرق والغرب على أنه فيلسوف من فلاسفة الإسلام والديانات ، وذلك لما رأوه في مؤلفاته من العمق ودقيق الفكر ، والعبارة والحكمة ، وانقسم المسلمون فيه إلى فريقين : فريق يعتبره رأس الضلالة والإلحاد ، قائلاً بوحدة الوجود بما تتضمنه من حلول واتحاد([1])، وفريق يعتبره شيخ المحققين ومربي العارفين ، إمام أهل الكشف والوجود([2]) من المتأخرين ، وذلك لما أتى به من علوم العرفان والإلهيات التي لم يسبقه إليها أحد من الصوفية والعارفين ، والتي لم يأت أحد بعده بمثلها إلى يومنا هذا .

وفي هذه الدراسة سنحاول ان نسلط الضوء على الجوانب الدقيقة في رؤية الشيخ ابن عربي من حيث موقفه من طبيعة الوجود ونوعية وحدته . للحصول على الإجابة على العديد من الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالتوحيد في الفكر الإسلامي من خلال المنظار الصوفي عند أحد كبار منظريه وهو الشيخ ابن عربي .

إنها محاولة لمعرفة موقف الشيخ ابن عربي من طبيعة الوجود ، وهل كان الشيخ ابن عربي من الوجودية ، أي من دعاة وحدة الوجود بالمعنى الأكثر شيوعا ؟ .

وإذا كان كذلك فهل كان من صنف الوجودية الملاحدة أم الموحدة ؟.

وهل كان من دعاة الوحدة أم الثنائية ؟ .

أم أنه سار في طريق ثالث يتوسط بين القائلين بالوحدة المحضة والثنائية البحتة ؟ .

إن هذه المحاولة تقتضي من الباحث ان يتناول دراسة الشيخ ابن عربي من جانبين :

الأولى : الجانب الوجودي ومذهب الشيخ ابن عربي في طبيعة الوجود والتالي نظريته الخاصة بوحدة الوجود .

الثاني : الجانب المعرفي وآراء الشيخ ابن عربي التأويلية لفهم وتفسير كل من : القرآن ، الإنسان ، الوجود .

فأما الجانب الأول فقد خصصنا له هذه الدراسة ، وأما الجانب الثاني فسنتناوله بالبحث والتحليل في الجزء الثاني بعونه تعالى .

ولكي نشرح نظرية الشيخ ابن عربي في الوجود بأسهل وأقصر طريق ، فسنقوم بعملية تركيب لمذهبه المتفرق في مؤلفاته ، وفي الوقت نفسه نقوم بتحليل ذلك التركيب بناءً على آراءه وأقواله في كل فقرة من فقرات مذهبه في الوجود والمعرفة . وللوصول إلى ذلك فقد قسمنا الدراسة إلى تمهيد ومباحث ثلاث وخلاصة :

فأما التمهيد فقد عرضنا فيه لأمور نراها ضرورية للتقرب من آراء الشيخ ابن عربي وفيها سنستعرض قضية مهمة وهي : هل تصنف آراءه ضمن الإطار الفلسفي أم الصوفي ، ومناقشة أفكار الباحثين فيه قديماً وحديثاً من عرب مسلمين ومستشرقين ، ونظرة موجزة عن تاريخ وحدة الوجود والتعاريف المتعارضة لها .

وأما المباحث الثلاث فتناولنا فيها – باختصار – نظرته للوجود وحقيقته وقد ركزنا فيها على العالم الوسيط الذي تقوم على بنيته الذاتية كل نظريات الشيخ ابن عربي في الوجود والمعرفة ، حيث يعتبر المفتاح الخاص عند الشيخ ابن عربي والذي استخدمه لفتح مغاليق الإشكاليات الفلسفية والعقائدية والفكرية .

ومن الجدير بالذكر هنا أن مراتب الوجود عند الشيخ ابن عربي هي ( 28 ) مرتبة وقد اخترنا منها الأهم في هذه الدراسة مما يتناسب والمقام فحسب .

وفي الختام نسأل الله تعالى ان ينفع بهذا العمل طلاب الحقيقة والمعرفة والله من وراء القصد .





المبحث الأول

الشيخ ابن عربي ووحدة الوجود

بين التصوف والفلسفة

يعد الشيخ الأكبر الشيخ ابن عربي الأوحد من بين الصوفية الذين خلفوا مؤلفات صوفية كثيرة ، ويمكن اعتبار هذا القول هو الأمر المشترك بين الباحثين حول الشيخ ابن عربي ونتاجه الفكري أو الأدبي أو الصوفي ، فقد قال بعضهم عن الشيخ ابن عربي ومؤلفاته : أنها لا يكاد العقل يتصور صدورها عن مؤلف واحد لم ينفق كل لحظة من لحظات حياته في التأليف والتحرير .

ولو قيس الشيخ ابن عربي – على حد قول الدكتور أبو العلا عفيفي([3]) – بغيره من كبار مؤلفي الإسلام وغيرهم لتغلب عليهم جميعاً في ميدان التأليف من ناحية الكم والكيف على السواء .

وأما محاور الخلاف حول الشيخ ابن عربي فكثيرة ، حتى لا يسع الباحث إحصائها ، لعل أهمها أو الأساس فيها هو المنهجية التي كان ينطلق منها الشيخ ابن عربي في تفكيره وبالتالي مؤلفاته ، والسؤال الذي حير باحثيه هل كان الشيخ ابن عربي صوفياً كما يقول عن نفسه أم كان فيلسوفاً كما تشير إلى ذلك نظرياته في الوجود والمعرفة والجمال والحب وبقية فروع الفلسفة !! .

للإجابة على هذا التساؤل ينبغي أن نطلع أولاً على المعيار الذي نفرق على أساسه بين الفلسفة والتصوف ، لنستطيع بعد ذلك الإجابة على هذا السؤال .

معيار التفرقة بين الفلسفة والتصوف

إن الفلسفة هي جهد فكري يسعى للمعرفة بواسطة العقل والاستدلالات المنطقية ، ولا شأن للفلسفة بالممارسات العملية ولا بالقضايا الوجدانية . واما التصوف فهو جهد عملي ممثل بالرياضات والسلوك الصوفي ، والمعرفة فيها مبنية على شيء وجداني له علاقة بالإيمان والإحساس الداخلي ، فالمعرفة التي يصل إليها الصوفي معرفة مباشرة بغير وسائط من مقدمات أو قضايا أو براهين ، تسمى ( الإلهام ) أو الكشف([4]).

والفلسفة منهج فكري منظم مترابط مبني على أسس علمية ، لها مذاهب في طبيعة الوجود ، من غاياتها معرفة ترتيب الكون وكيفية تركيبه ، فالعلم عندهم نظرية في الكون .

بينما التصوف مناهج وجدانية تسعى لمشاهدة مراتب الكون روحياً والتعامل معها وتجاوزها للوصول إلى الفناء في الخالق .

أي ان الحد الفاصل بين الفكر الفلسفي والمعرفة الصوفية هو ان الفكر الفلسفي ينطلق من تفاعل بين معطيات العقل وعلاقتها بالواقع أو حتى بالخيال ، بينما تنطلق الرؤى الصوفية من تفاعل بين معطيات الخالق وعلاقته بالخلق .

وربما يمكن القول : إن الفكر الفلسفي تصاعدي ينطلق من المحدث ليرتقي الى القديم ، بينما المعرفة الصوفية تنازلية ، تنطلق من القديم ليهبط إلى المحدث .

وبناءً على هذا المعيار ذهب الدكتور عفيفي في موقفه من الشيخ ابن عربي - من حيث التصوف والفلسفة - إلى القول : بأنه لا يرى من الصواب أن يصف مذهب الشيخ ابن عربي بأنه مذهب فلسفي بحت – إذا اعتبرنا التفكير والترابط المنطقي أخص صفات الفلسفة – ولا بأنه مذهب صوفي بحت ، إذا اعتبرنا الوجدان والكشف أخص مميزات التصوف ، ولكنه مذهب فلسفي صوفي معاً ، جمع فيه بين وحدة التفكير وقوة الوجدان ، وحاول فيه ان يوفق بين وحدة التفكير وقوة الوجدان . وحاول ان يوفق بين قضايا العقل وأحوال الذوق والوجدان([5]).

لهذا يقول عفيفي أنه بالرغم من ان الشيخ ابن عربي وهب بسطة في الفكر والخيال ، وعمقاً في الحس الروحي ، يعوزه المنهج الفلسفي الدقيق والتحليل العلمي المنظم .

فهو عنده فيلسوف – من غير شك – لأنه صاحب مذهب ومؤسس مدرسة ، ولكنه فيلسوف آثر أن يهمل منهج العقل الذي هو منهج التحليل والتركيب ويأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير .

وقد علل عفيفي اتخاذ الشيخ ابن عربي لهذا المسلك لكونه ككل صوفي يعالج مسائل يستعصي على العقل غير المؤيد بالذوق ان يدركها ، ويستعصي على اللغة غير الرمزية أن تفصح عن أسرارها . ومتى كان العقل وحده أداة صالحة للوصول إلى اليقين أو إلى الحقيقة التي تطمئن إليها النفس ؟‍ ومتى كانت اللغة وحدها صالحة للتعبير عن تلك الحقيقة بعد الوصول إليها ؟ .

والواقع إننا لا نؤيد عفيفي في هذا الرأي ، فقد يكون الشيخ ابن عربي مذهباً في طبيعة الوجود ، وقد يكون له نظريات في المعرفة ، وقد يكون الشيخ ابن عربي قد استعمل اصطلاحات الصوفية ، ولكن كل ذلك ليس لأنه فيلسوف صبغ فلسفته بالصبغة الصوفية ، وإنما لأنه صوفي اتخذ طريقة التنظير الفلسفية وسيلة للتعبير عن مكاشفاته وأذواقه المعرفية .

وقد ناقض عفيفي نفسه حين قال : ان الشيخ ابن عربي قد كتب كتبه تحت تأثير نوع من الوحي و الإلهام ، فأنزل في سطورها ما أُنزل به عليه لا ما قضى به منطق العقل ، ولم يكن الرجل واهماً ولا مفترياً حينما قال عن كتابه ( فصوص الحكم ) : « ولا انزل في هذا المسطور إلا ما ينـزل به عليّ ، ولست بنبي ولا رسول ، ولكني وارث ولآخرتي حارث » فهو يعتقد عن يقين ان كتابه إملاء من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غير زيادة ولا نقصان ، أملاه عليه في رؤيا رآها ، وانه لم يكن إلا مترجماً لما كاشفه به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو منبع العلم الباطن ومصدر نور المعرفة . كما انه لم يكن واهماً عندما سمى موسوعته الكبرى في التصوف باسم ( الفتوحات المكية ) وسمى كتاباً آخر
( بالتنـزلات الموصلية ) إلى غير ذلك مما يؤيد أنه لا يصدر في كتبه عن تفكير منطقي ، بل عن كشف وإلهام .

وهذا يؤكد وجهة نظرنا في هذا الشأن والتي تتلخص في أن الشيخ ابن عربي صوفي بحت من حيث المعرفة ، له فلسفة خاصة في طرح آراءه ، فليس للعقل عنده دور في المعرفة سوى دور المُخرِج في إظهار آراءه وأفكاره . بينما يكون العقل هو السيد وهو الأصل في المعرفة والإخراج ( الترتيب المنطقي ) عند الفلاسفة .

إن الشَرَك الذي سقط فيه الكثير من الباحثين أنهم لم يميزوا بين التجربة الصوفية وبين التعبير عنها ، فطابقوا بينهما ، مطابقة كانت هي المسؤولة في إرجاع التصوف الإسلامي بشكل عام إلى أصول تارة يونانية ، هندية ، وأخرى فارسية … الخ . ومن جهة ثانية أدت إلى إرجاع نتاج الشيخ ابن عربي بشكل خاص إلى الإطار الفكري الفلسفي . وإذا أردنا إيضاح ذلك - كما يقول الدكتور محمد كمال – قلنا : إن في التصوف جوانب ثلاثة متميزة ، يمكن تناول التصوف منها :

أولها : الجانب العملي وهو الطريق .

وثانيها : الجانب النفسي أو الشعوري أو الوجداني أو العاطفي وهو التجربة .

وثالثها : الجانب النظري أو الفكري أو التفسيري أو التعبيري وهو المذهب الفلسفي ([6]).

فالتجربة الصوفية هي تجربة ( جوانية ) تتحرك في إطار ذاتية معيشة . بعيداً عن التفكير العقلي والمنطقي ، وبعيداً عن الحروف والكلمات .. بعيداً عن الآخرين ، وهي تجربة قرب عرفاني مجالها الحيوي كما تقول الدكتورة سعاد الحكيم : تجربة إسلامية من نمط قرآني خاص مبني على أساس قوله تعالى: ] وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[ ([7]) . أما التعبير عن هذه التجربة ، فهو خروج من الجوانية والذاتية إلى الآخرين ، هي عودة الصوفي من رحلته في الأعماق إلى الآفاق . وهنا تأخذ هذه الجوانية أشكالاً لدى التعبير عنها ، تأخذ ( لغة الآخرين ) فتظهر في صورة ( النظريات الفلسفية ) المتعارف عليها بين الفلاسفة العقليين .

هذا التعبير المتشابه لتعبير الآخرين يعد منسجماً مع ما ورد في السنة من أمر بتكليم الناس على قدر عقولهم . فالخطاب الصوفي تنـزل من عوالم ( الذات الإنسانية ) في إطلاقها إلى حدود الحرف .. إلى إفهام الآخرين .. إلى ( قدر العقول ) . وهنا ، أي على مستوى التعبير ، تدخل العبارات الاصطلاحية والمفاهيم السائدة في زمن الخطاب ، فيتناولها الصوفي ليعبر بها عن تجربته ، في محاولة تواصل مع الآخرين . فتظهر على مستوى التعبير مفردات أو صياغات نجد جذورها في فلسفات شرقية أو يونانية ، والواقع ان هذا التعبير يلي مرحلة التجربة الصوفية في نقائها وصفائها .

ولقد كان الشيخ ابن عربي كما ترى الدكتورة سعاد الحكيم([8]) من أوائل الذين انفصلوا عن تجربتهم الصوفية ليحللوها ، ولينتقلوا بها من ميدان المواجيد والأحوال - كالحلاج والبسطامي - إلى منطق العلم والنظريات . فقد كان يتحلى ، إلى جانب تجربته الواسعة الغنية ، بملكة التعبير عنها إذ انه يملك أسلوب التعبير الصحيح بالوسائل ( الكلاسيكية ) جميعها ، فنراه يعبر عن فكرته الواحدة بفنون من القول .

ولهذا خلصت الدكتورة سعاد الحكيم إلى القول بأننا لا نستطيع أن نصنف أراء الشيخ ابن عربي ضمن الآراء النظرية الفلسفية فنبحثها على صعيد الفكر والنظريات ، كما أنه لم يغرق في غيبة الشهود ويتكلم تحت وطأة الوجد ، فنقول إن أقواله من شطحات الفانين .

كلا . لقد كانت أراءه وأقواله ، أراء وأقوال ( المشاهد الصاحي ) ، ومن هنا نشأ الخلاف بين دارسيه ، فجعل البعض نتائجه نظرية فلسفية ، والبعض الآخر جعلها ثمرة السلوك ، والأجدى أن نعترف بتكامل الشيخ ابن عربي تكاملاً يضم في حناياه الفناء والبقاء([9]) فلا نغلب حالاً على حال ([10]) .








الباحثون و مذهب الشيخ ابن عربي في طبيعة الوجود

يرى بعض الباحثين إن الشيخ ابن عربي مذهباً صوفياً فلسفياً كاملاً في طبيعة الوجود ، فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره أو الشك فيه ، غير إن هذا المذهب لا يكاد يُظفر به كاملاً في كتاب من كتبه ، ولهذا على من يريد أن يظفر بهذا المذهب أن يجمع عناصره المبعثرة في كل مكان من مؤلفاته وأن يعيد ترتيب تلك العناصر حتى يظهر في وحدته المتماسكة .

وقد شبه الدكتور عفيفي الشيخ ابن عربي في ذلك بفنان ألف لحناً موسيقياً عظيماً ثم أخفاه عن الناس فمزقه وبعثر نغماته بين نغمات الحان أخرى ، فاللحن الموسيقي العظيم هنالك لمن أراد أن يتكبد مئونة استخلاصه وجمعه من جديد . وقد سجل الشيخ ابن عربي على نفسه قصد إخفاء مذهبه والضن به بأن يظهره كاملاً في أي كتاب من كتبه في عبارة وردت في الفتوحات المكية ، حيث يقول بعد أن ذكر عقيدة العوام ثم أردفها بعقيدة الخواص : ( وأما التصريح بعقيدة خاصة الخاصة ) فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض ، لكن جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب ( الذي هو الفتوحات ) مستوفاة مبينة ، لكنها كما ذكرنا متفرقة ، فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها ويميزها من غيرها ، فإنها العلم الحق والقول الصدق ([11]).

ويبدو أن الدكتور عفيفي والعديد غيره من الباحثين المسلمين والمستشرقين حاولوا أن يقوموا بدور الجامع لذلك المذهب المتفرق ، وسواء وفُقوا في ذلك أم لا فإن الوقوف على حقيقة هذا المذهب لا تتوقف في رأينا على مجرد الدراسة النظرية أو الفكرية لآراء الشيخ ابن عربي ، وذلك لأنه ليس مجرد فيلسوف – كما أشرنا – وإنما هو صوفي عرض آراءه بطريقة الفلاسفة .

ولهذا فنحن نرى أن الدراسة الفكرية لآراء الشيخ ابن عربي أو غيره من الصوفية إذا أريد لها ان تكون موضوعية ومنصفة فينبغي أن يكون الباحث ذا تجربة صوفية ليكون قريباً من الناحيتين الفكرية والوجدانية من موضوع الدراسة الصوفية التي يقوم بها سواء أكانت الشيخ ابن عربي أو غيره من الصوفية .

من هنا نرى أن تقييم الدراسات التي تتعلق بالقضايا الصوفية يجب ان يؤخذ فيها هذا الشرط بنظر الاعتبار ، فليس الحكم على قضية صوفية مبنية على حكم نظري بحت تتساوى مع الدراسة التي تنبني على الخلفية الصوفية للباحث الذي يقوم بها .

وعلى كل حال فإن الباحثين صنفوا بشكل أو بأخر المذهب الذي يقول به الشيخ ابن عربي والذي فرقه هنا وهناك في مؤلفاته الكثيرة ضمن مذاهب ( وحدة الوجود ) ، في الوقت الذي ترى فيه الدكتورة سعاد الحكيم أن عبارة ( وحدة الوجود ) ابتدعها دارسوا الشيخ ابن عربي أو بالأحرى صنفوه في زمرة القائلين بها ، ذلك لأنها لم ترد ضمن مصطلحاته كلها على كثرتها وعظمها([12]) .

هذا بالرغم من أن الباحثين سواء كانوا من المستشرقين أو من الباحثين العرب والمسلمين -قديماً وحديثاً – قد اختلفوا في أمر الشيخ ابن عربي أشد الاختلاف ، فهو قمة في التصوف عند بعضهم ، وهو أكثر الناس إغراقاً في الإلحاد عند البعض الآخر ، في الوقت الذي تحير فيه آخرين كابن تيمية ، فتارة ينسبه إلى وحدة الوجود ويضعه إلى جانب ابن سبعين ، وأحياناً أخرى يضعه في مصاف من يفصل بين الحق والخلق والله والعالم .

ولزيادة الإيضاح فيما يتعلق بالمواقف المتباينة من الشيخ الأكبر حول وحدة الوجود عنده، سنعرض لبعض آراء الباحثين من المستشرقين والمسلمين وأقوالهم فيها .

المستشرقون ووحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي

كان من الطبيعي أن يفهم المستشرقين الشيخ ابن عربي في إطار وحدة الوجود تسليماً بما قاله عنه كل من محبيه وأعداءه على السواء . ولكنهم فهموا وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي في إطار وحدة الوجود في الفلسفة الغربية ، ومن خلال المصطلح
( Pantheism ) ، وذلك على أساس انطلاقهم من المعروف إلى المجهول في حركة معرفية تأويليه - كما يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد – هذا التصور لوحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي تبناه كل من نيكلسون وأسين بلاسيوس([13]) .

وحين لم تستجب نصوص الشيخ ابن عربي كلها لمثل تصوراتهم لم يجدوا تفسيراً لذلك سوى ان هذه النصوص تحفظات من الشيخ ابن عربي يمليها الحذر والحيطة .

وفي تقدير الدكتور نصر أبو زيد إن دراسة ( هنري كوربان ) هي اقرب الدراسات التي قدمها المستشرقون إلماماً بالجوانب المختلفة لفكر الشيخ ابن عربي ، فهي تجمع بين وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي وبين الثنائية الواضحة في فكره كذلك ، وذلك انطلاقاً من دراسة موضوع عالم وجودي وسيط هو ( عالم الخيال الخلاق ) . لا في فكر الشيخ ابن عربي فحسب ، بل في الفكر الإشراقي كله([14]) .








الباحثون العرب ووحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي

لم يختلف فهم الباحثين العرب لوحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي عن المستشرقين في شيء ، ومن بين هؤلاء الدكتور أبو العلا عفيفي الذي يعد في رأي البعض رائد الباحثين في الشيخ ابن عربي ، لا في رسالة الدكتوراه التي أعدها تحت إشراف نيكلسون فحسب ، بل في أبحاثه العديدة التي توجهت في معظمها على جوانب من فكر الشيخ ابن عربي .

وقد ذهب أبو العلا عفيفي إلى ان الشيخ ابن عربي من فلاسفة وحدة الوجود بل في رأيه أنه « لم يكن لمذهب وحدة الوجود وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل الشيخ ابن عربي ، فهو الواضع الحقيقي لدعائمه والمؤسس لمدرسته ، والمفصل لمعانيه ومراميه ، والمصور له بتلك الصورة النهائية التي اخذ بها كل من تكلم في هذا لمذهب من المسلمين من بعده »([15]) ؟ . هذا برغم تنبهه إلى التفرقة الأساسية في فكر الشيخ ابن عربي بين الذات الإلهية والعالم .

وقد علل الدكتور أبو زيد هذا الموقف من عفيفي بأنه راجع إلى إن الدكتور عفيفي قد فهم وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي في ضوء المفهوم الغربي متابعاً في ذلك أستاذه نيكلسون .

وحين لم يستجب فكر الشيخ ابن عربي لمثل هذا التصور عن وحدة الوجود اتهم بالتناقض ، وقصور أدواته الفلسفية ، وفي احسن الأحوال اتهم بالغموض والقصد إلى المداراة رغبة في ان يضفي على فكره طابعاً سنياً إسلاميا .

وقد تابع كل من إبراهيم بيومي مدكور ومحمود قاسم وأبو العلا عفيفي في رؤيته لفكر الشيخ ابن عربي ، يقول الدكتور إبراهيم بيومي مدكور : « إن مذهب وحدة الوجود لم يستكمل صياغته في الإسلام ، ولم يعرض العرض الكامل إلا في القرن السابع الهجري ، وعلى أيدي الشيخ ابن عربي الفيلسوف المتصوف ، اتخذه أساسا لدرسه وبحثه ، وبنى عليه آراءه كلها ، فصل القول فيه ، بحيث أضحى مذهباً مكتمل المراحل ، متماسك الأجزاء …

والشيخ ابن عربي زعيم مدرسة ، تأثر به من جاءوا بعده ممن قالوا بوحدة الوجود ، أمثال جلال الدين الرومي ، وحافظ ، وعبد الكريم الجيلي الذي استطاع أن يزيد المذهب وضوحاً ، ويصوغه صياغة أيسر »([16]) . وقد قارنا في دراستيهما بين الشيخ ابن عربي واسبينوزا وبين الشيخ ابن عربي وليبنتز .






الدفاع عن وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي

في مقابل الفريق الذي تابع أبو العلا عفيفي ونيكلسون وجدنا فريقاً آخر لا يرى في فكر الشيخ ابن عربي أي أثر لوحدة الوجود ، بل يرى فكره قائماً على الثنائية بين الله والعالم وبين الله والإنسان .

وقد انطلق هذا الفريق من موقف دفاعي حسن النية يستهدف تبرئة الشيخ ابن عربي من تهمة وحدة الوجود وإدخاله في حضيرة الإسلام التي حاول بعض الباحثين والدارسين إخراجه منها ، مثل عباس العزاوي الذي ذهب إلى حد اتهام الشيخ ابن عربي بالقصد إلى التخريب العقائدي في أقطار الدولة الإسلامية عن طريق نشر أفكار الباطنية في الحلول ووحدة الوجود.

ومن بين هؤلاء المدافعين الدكتور نصر حامد أبو زيد([17]) الذي يرى ان وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي يجب ان تفهم فهماً خاصاً يتباعد بها عن أي تصور مسبق لوحدة الوجود في الفلسفة الغربية أو المعاصرة أو الوسيطة أو القديمة ، وذلك لأن الشيخ ابن عربي ينطلق من ثنائية حادة واضحة يقيمها بين الذات الإلهية والعالم من جهة ، وبينها وبين الإنسان من جهة أخرى.

أما محمد غلاب فقد ذهب في دفاعه عن الشيخ ابن عربي – مستشهداً بالشعراني – إلى القول ان النصوص التي تدل على وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي قد دست عليه من الحاقدين والمتعصبين المعاصرين له أو التالين عليه .

أما جمال المرزوقي فقد حاول ان يقف من الشيخ ابن عربي موقفاً معتدلاً كما يقول ، فيأخذ من أقواله ما يتماشى مع الشرع على ما هو عليه ، ويؤول ما يمكن تأويله من أقوال الشيخ ابن عربي تأويلاً حسناً إن كان إلى ذلك سبيل ، وإلا فالإنكار أولى إن كان مخالفاً للشرع مخالفة صريحة لا تقبل شكاً ولا جدلاً .

وبين وحدة الوجود والثنائية يتردد أبو الوفا التفتازاني ، فهو في مكان يسلم بوحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي ، وفي مكان آخر يفرق بين الوحدة المطلقة التي ذهب إليها ابن سبعين والتي تنفي أي اثنينية ، وبين وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي والتي تفسح في مذهبه مكاناً للقول بوجود الممكنات .

يعد هذا العرض السريع لآراء الباحثين والدارسين وخلافهم حول حقيقة الشيخ ابن عربي وحقيقة موقفه من وحدة الوجود أحد الدوافع الرئيسية التي حثتنا على محاولة تقديم هذه الدراسة . وقبل أن ندخل في تفاصيل نظرية وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي نجد من المفيد أن نقدم نظرة مبسطة لهذه النظرية في الفكر الإنساني بشكل عام ، وعلاقتها بالعقيدة الإسلامية ، ومن ثم نعرض لموقف الشيخ ابن عربي من هذه النظرية والتي تعتبر برأي الكثير من الباحثين النواة الأساسية التي تدور حولها جميع أفكار الشيخ ابن عربي وآراءه في الوجود والمعرفة .






المبحث الثاني

وحدة الوجود وتاريخها

ظهر الميل نحو وحدة الوجود في عموم التفكير البشري وفي مختلف مراحل تطور العقلية من البسيطة الساذجة وحتى الفلسفة الناضجة ولدى مختلف الشعوب والحضارات كالسومرية والمصرية والهندية واليونانية والعربية الإسلامية والأوربية الحديثة
والمعاصرة ([18]) .

فوحدة الوجود كما يرى الدكتور إبراهيم مدكور([19]) ليست وليدة التاريخ المتوسط أو الحديث ، وإنما تصعد إلى الفكر القديم شرقياً كان أو غربياً ، فعرفت لها صور في البراهمة والكونفوشية كما بدت لها مظاهر في الفلسفة الايونية . وأوضح ما تكون لدى الرواقيين والافلوطينيين الذين شاءوا ان يردوا الكون إلى اصل الهي .

وأساسها نزعات دينية لا تسلم إلا بما هو الهي وروحي ، ثم عمقتها نظرات فلسفية وبحوث عقلية تحاول ان توفق بين الواحد والمتعدد ، وان تربط اللانهائي بالنهائي ، والمطلق بالنسبي ، فأضحت باباً من أبواب الفلسفة الإلهية ، وسبيلاً لتصوير عقيدة التوحيد تصويراً عقلياً لا يسلم إلا بوجود واحد([20]) .

وعليه فوحدة الوجود اتجاه فكري يبدو واضحاً في مجال البحث الإلهي أو الميتافيزيقي الذي يتناول العلاقة بين الله والعالم ويقر بأن الحقيقة تتضمن موجوداً واحداً هو الله ، والخلاف يدور حول وجود كل ما سوى الله ، هل وجد من العدم المحض أو هو متضمن في الله أو هو ظل الله أو غيرها من الفروض التي تتنوع على أساسها نظرية وحدة الوجود إلى أنواع ؟ .

وقد أحصى بعض الباحثين لوحدة الوجود ( العلاقة بين الله والعالم ) في المنظور الأوربي ست أشكال لها يمكن تلخيصها بما يلي :

1. وحدة الوجود الهيلوزوستية : إن الله الذي هو العنصر الأساسي للعالم ، مبثوث فيه، محدثاً قوة الحركة ، والتغيير ، لكن يبقى العالم متكثر بتعدد عناصره .

2. وحدة الوجود الشامل : إن الله جزء من العالم ، وهو بالرغم من حلوله فيه ، غير منفصل عنه ، بل ان قدرته تتصل بكليته ، أي بكل شيء فيه .

3. وحدة الوجود الواحدي المطلق : إن الله مطلق ومتوحد في العالم ، والعالم بحكم هذه الحقيقة غير متغير .

4. وحدة الوجود الواحدي النسبي : إن العالم واقع حقيقي ، ومتغير في ذات الله ( كهيئة الله ) إلا ان الله مطلق ولا يتأثر بالعالم .

5. وحدة الوجود النافية للعالم : إن بنية الحقيقة الكلية للعالم هي الله ، والعالم مظهر غير حقيقي في ذاته .

6. وحدة الوجود الموحدة للأضداد : ان الله في علاقته الدائمة بالعالم ، يوصف بتعابير متعارضة شكلياً ، وبالتالي فأن الحقيقة التي ليست موضوعاً للوصف هي حقيقة الله ([21]) .



تعريف وحدة الوجود

حقيقة الأمر .. ليس من السهولة بمكان العثور على تعريف دقيق وشامل لوحدة الوجود، وذلك لكونها نظرية موشحه بالغموض من كل حدب وصوب([22]) فحين تقول مثلاً أنها
( وحدة في كثرة ، وكثرة في وحدة ) فهذا القول وامثاله أقرب إلى الأحاجي الخارجة عن المنطق العقلي . ومع ذلك ، لابد من تعريفها ، أو محاولة الاقتراب من تعريفها .. فماذا قيل فيها ؟ .

· الله والعالم وجهان لحقيقة واحدة

تتلخص وحدة الوجود كما يرى الدكتور أبو العلا عفيفي في أنها نظرية تقول برفع الفرق والتمايز بين الخالق والمخلوق ، أي ان الحق والخلق صورتان لحقيقة واحدة ، فمن جهة هي الإله ومن جهة أخرى هي الخلق .



· الله هو العالم المادي

يقول محمد بن عبد الرسول البرزنجي : إن الوجودية طائفتان : ملاحدة وموحدة ، فالملاحدة يرون « إن الباري تعالى وتقدس ليس موجوداً في الخارج بوجود مستقل ممتاز عن عالمي الأرواح والأجسام بل هو مجموع العالم … فالعالم هو الله والله هو العالم وليس ثمة شيء غير العالم يقال له : الله »([23]) .

والى هذا المعنى ذهبت الموسوعة الفلسفية في تعريف وحدة الوجود من أفقها المادي قائلة : وحدة الوجود « تعاليم فلسفية تذهب إلى أن الله مبدأ لا شخصي ليس خارج الطبيعة ولكنه متوحد معها . ومذهب وحدة الوجود يبث الله في الطبيعة ، ويرفض العنصر الخارق
للطبيعة … »([24]) ، ويقول كرشنا مورثي : « إننا العالم ، وإن العالم نحن »([25]) .



· العالم وهم

يقول الدكتور داود علي الفاضل الفاعوري رئيس قسم العقيدة والدعوة في الجامعة الأردنية : « نظرية وحدة الوجود تعني أنه لا يوجد إلا وجود واحد فقط هو وجود الله ، أما التكثر المشاهد في العالم فهو وهم على التحقيق تحكم به العقول القاصرة العاجزة عن إدراك الوحدة الذاتية للأشياء »([26]) .



· أنواع الوحدة

يقول الدكتور جميل صليبا : « الواحدية عند المحدثين مذهب فلسفي يرد جميع الأشياء إلى مبدأ واحد ، سواء أكان ذلك من ناحية الجوهر ، أم من ناحية القوانين المنطقية ، أو الطبيعية ، أو الأدبية … إن هذا المذهب يرد الكون كله إلى المادة ، أو إلى المثال ، أو إلى الروح …

ومن لواحق هذا المعنى إطلاق الواحدية على مذهب ( أوستوالد ) الذي يرد جميع ظواهر الطبيعة إلى حقيقة جوهرية واحدة ، وهي الطاقة »([27]) .

ويقول الأستاذ نديم مرعشلي : « الواحدية مذهب يرد الكون إلى مبدأ واحد ، كالروح المحض ، أو كالطبيعة المحضة ، فالمادية ترد الوجود إلى المادة وحدها ، بينما الواحدية الروحية ترده إلى الروح الواحدية المثالية »([28]) .

المهم إن هذه النظرية تعني - بشكل أو بأخر - انعدام الفرق بين الله والعالم ، وأنه ما في الوجود إلا الإله . فالله هو الواحد الحق والوجود المطلق ، والظاهر من الأزل في صور كل المخلوقات ، وعلى هذا فالعالم من حيث جوهره قديم قدم الله نفسه ، وخلق العالم في نظر القائلين بهذه النظرية ليس إحداثاً له من العدم بل هو تجلي الحق الدائم في صور الوجود .

وقد ذهب القائلين بهذه النظرية في إثباتها مذاهب شتى ، فمنهم من قال بأن الإله حال في مخلوقاته وهم الوجودية الماديين ، ومنهم من قال بإلغاء العالم نسبة إلى الإله وهم الوجودية اللاهوتيين ، ومنهم من قال بان العالم امتداد للإله ، ومنهم من قال بأنه صورة له ، وغيرها من الآراء ..

ويمكن اختصار القول في وحدة الوجود بأنها تنفي مبدأ الثنائية بين الخالق والمخلوق . وهذه النظرية بهذا المفهوم تناقض تماماً مبدأ الثنائية الذي يتبناه رجال الدين في الإسلام . ففي نظرية الثنائية ، الخالق شيء والمخلق شيء آخر ، لا نسبة ولا تناسب بين الاثنين ، ولهذا ذهب السلف منهم إلى التوقف في الخوض في الآيات التي توحي بتشبيه الإله بصفات خلقه كالآيات التي ذكر فيها إن لله تعالى يداً أو سمعاً أو بصراً أو غيرها ، وكذلك الأحاديث النبوية التي تذكر ضحك الله أو مشيه أو جوعه أو غيرها . بينما ذهب الخلف إلى السير في طريق تأويلها بما يتناسب والتنـزيه المطلق لله تعالى عن خلقه . فمبدأ الأثنينية ينفي أي صلة وجودية أو معرفية بين الحق والخلق ، بمعنى أن الحق منـزه تماماً عن مماثلة خلقه في كل شيء ، والأصح انه على الخلق ان يتشبهوا بصفات خالقهم العظيم ليس إلا .

وبالرغم من الصبغة الفلسفية التي تكتسي هذه النظرية إلا إن العديد من الباحثين يذهبون الى القول أن مذهب وحدة الوجود تحول الآن الى نظرية مثالية عن وجود الله في الله ، وأصبح محاولة للتوفيق بين العلم والدين ، الأمر الذي يعني أن وحدة الوجود اتجاه فلسفي وديني في آن واحد ([29]) .

وعلى هذا تعد نظرية وحدة الوجود عبارة عن نظرة عامة لعموم الفكر البشري بحضاراته المختلفة والممتدة شرقاً وغرباً ، أما الذي يهمنا هنا فهو معرفة وحدة الوجود الصوفية التي احتواها الفكر الإسلامي ، وتحديداً عند الشيخ ابن عربي والبحث فيها .








المبحث الثالث

الشيخ ابن عربي ووحدة الوجود

يذهب العديد من الباحثين – ونحن نتفق معهم - الى القول بأن الشيخ ابن عربي رؤية شاملة كاملة للوجود من أعلى رتبة فيه إلى أدناها ، وقد نثر مفردات هذه الرؤية في مؤلفاته الكثيرة ، وعند محاولة تجميع متفرقات هذه الرؤية نجد من مجموعها بناءً هيكلياً ينتظم الوجود بأسره بمراتبه المختلفة . وبعد تجميع هذا البناء الهيكلي وتحليل علاقته مع بعضه البعض تتضح نوعية الوحدة الوجودية وحقيقتها في عند الشيخ ابن عربي .

يرى الشيخ ابن عربي ان العلاقة بين الخالق والمخلوق لا تقوم على الوحدة الذاتية ، تلك الوحدة التي يقال فيها ان الله هو العالم او ان العالم جسم الله او ما شابه ، كما أنه لا يرى التمايز الحاد بين الخالق والمخلوق أي الفصل التام بينهما كما يذهب الأثنينيون ، بل يرى ان هناك عالما وسيطا بين مرتبة الذات الإلهية الاحدية وبين مرتبة عالم الخلق ، وبذلك فأن الوجود عنده عبارة عن ثلاث مراتب رئيسية ، ليس بينها فصل تام كما انها ليست متحدة مع بعضها البعض اتحاد الذوبان او الاندماج ..

ان الحلقة المفقود بين التوحيد والكفر في قضية وحدة الوجود تكمن في حقيقة ذلك العالم او المرتبة الوسيطة بين الذات والعالم . لهذا يعد مفهوم العالم الوسيط العمود الفقري في هيكلية البناء الوجودي التي تستند عليها رؤية الشيخ ابن عربي في الوجود والمعرفة بأسرهما ، وذلك لانه يرى بان العالم الوسيط هو الحلقة التي تسد ثغرة الثنائيات المتعارضة أو المتناقضة في الفكر الإنساني بشكل عام والفكر الإسلامي بشكل خاص والتجربة الصوفية بشكل أخص.

بحسب رؤية الشيخ ابن عربي فأن المرتبة الوسيطة هي الاجابة لكل الاشكاليات والمعضلات والتعارضات الثنائية التي انقسم على أساسها أهل الكلام والفلاسفة إلى فرق مختلفة .

فهذا الوسيط يمكن أن يحل إشكالية صدور المحدث عن القديم ، دون أن يؤدي ذلك إلى حداثة القديم أو قدم المحدث . وينسحب ذلك على نظرية المعرفة حيث يمثل هذا العالم وسيط الرموز والدلالات الحقية ، و هو المجال الذي يتصل به الخيال الإنساني فيستمد منه معرفته وعلمه . وعلى مستوى النص الديني يمكن لهذا العالم الوسيط ان يحل إشكالية التشبيه والتنـزيه ، الذات والصفات ، الوحدة والكثرة ، المحكم والمتشابه ، الجبر والاختيار ، العدل الإلهي والمشيئة المطلقة ، الخ هذه الثنائيات المتناقضة .

من هذا المنطلق يكتسب هذا الوسيط أهمية على المستوى الوجودي والمعرفي الديني ، إذ انه يتضمن كل التناقضات والثنائيات ويمتص صراعها داخله ، وفي ظل هذا العالم الوسيط تصبح التناقضات مجرد أوهام ، والثنائيات اعتبارات مختلفة لحقيقة واحدة ، وتزول الخلافات داخل اتجاهات الدين الواحد ، وبين الأديان بعضها بالبعض الآخر ، ويصل الشيخ ابن عربي إلى الدين الكلي الشامل دين الحقيقة والحب الذي يسع كل أشكال العبادات وصورها .

فما هي هذه المرتبة الوسيطة ؟ وكيف يمكنها تحقيق كل ذلك ؟

بداية ينبغي توضيح مفهوم المرتبة عند الشيخ ابن عربي لأهميته .

المرتبة الوجودية ومفهومها عند الشيخ ابن عربي

يمكننا توضيح المراد بهذه المفهوم عند الشيخ ابن عربي من خلال المثال الآتي : لو فرضنا جدلا أن واحداً من الجن وقف على بساط من عالمنا الحسي فإنه قطعاً لا يحرقه بالرغم من كونه مخلوق من مارج من نار بحسب القرآن الكريم ، فلماذا ؟

لأن المرتبة الوجودية لعالم الجن تختلف عن المرتبة الوجودية لعالمنا ، إن المرتبة معنى يحدد الشيء خارج حدود الزمان والمكان ، فمن الممكن ان يكون جني الآن في نفس المكان الذي أجلس فيه أنا الآن ، ولا تعارض في هذا لأننا من مرتبتين مختلفتين .

وكذلك يمكن أن تكون مرتبة الجنة والنار والسماوات والعوالم الغيبة الأخرى كلها موجود في مكان واحد دون تداخل أو يؤثر بعضها على البعض الآخر ، وذلك لأن كل منها قائما في بُعد وجودي أو مرتبة وجودية تغاير الأخرى .

وعلى هذا فالمرتبة مفهوم يدل على إمكانية اجتماع عدة عوالم في مكان واحد وزمان واحد دون أن يؤثر أحدهما على الآخر أو يفقد أحدهم من خصائصه الذاتية والوجودية والمعرفية شيء .

قد يكون التحليل العلمي لهذا التداخل في العوالم هو أن هذه العوالم موجودة في فضاءات متوازية بحسب العلماء الذين يتبنون هذه النظرية . ولربما يمكننا أن نعبر عن هذه العوالم بالسماوات ، إذ كل عالم بالنسبة إلى الآخر هو سماء أو بعد وجودي لا يمكنه الوصول إليه إلا بظروف خاصة كالتروحن بالنسبة للمخلوقات الكثيفة أو التجسد بالنسبة إلى المخلوقات اللطيفة أو بواسطة التقدم العلمي والتكنلوجي إن استطاع الوصول إلى صناعة آله تبلغ سرعتها سرعة الضوء أو تزيد وهي الحالة التي قال إينشتاين عنها أنها تمكن الجسم من أن يكون في مكانين أو أكثر في وقت واحد ، وبهذا تخرق أقطار الأرض ، أي الفضاءات الموازية في عالمنا الأرضي ، ولعل هذه الآلة مع بعض التعديل والتطوير تقترب من صفة البراق الذي استطاع النفوذ من كل مراتب الوجود خارج حدود الزمان والمكان . وليس هذا الرأي بدعاً من القول إذ أشار إليه الحق سبحانه وتعالى بقوله : ] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [([30]) ، وهو نص يشير إلى إمكانية النفوذ عبر مراتب الوجود في التعبير الصوفي والفضاءات الموازية في التعبير العلمي وأقطار السماوات في التعبير القرآني إن توفرت الظروف المناسبة .



التوازي والتلاقي للمراتب

قد يبدوا أن مراتب الوجود منفصلة تمام الانفصال بعضها عن البعض الآخر لأنها تقع في أبعاد متوازية . والحق أن هذا المفهوم نصف الحقيقة ، والنصف الآخر أن هذه المراتب مترابطة بعضها مع البعض الآخر ومتواصلة بحيث يقوم بعضها بالبعض الآخر ، وقيمومتها ببعضها يمكن تشبيهه بالشكل المخروطي الذي له قاعدة مدورة واحدة ونهاية نقطية واحدة وهو متواصل بعضه مع البعض الآخر ، مع احتفاظ كل عالم أو مرتبة بخصائصه الوجودية بصورة مستقلة ([31]) .

وبعبارة أخرى أن هذه المراتب التي يتكون منها الوجود ذات طبيعة برزخية كالبرزخ الذي ذكره تعالى بين البحران ، فلا هما منفصلان ولا هما متحدان ، وبالنتيجة لا يبغي احدهما على الأخر ، أي الأعلى يبقى أعلى والأدنى يبقى أدنا وكل في مرتبته . بمعنى ان الحالة البرزخية عند الشيخ ابن عربي([32]) تعبر عن الوسيط الجامع للبحرين بذاته الفاصل بينهما بحيث لا يتصل ( يبغي ) أحدهما على الآخر ، أي أنه يحفظ التمايز الحاد والفرق الوجودي بين البحرين ، واللذان يشيران من الناحية التأويلية عند الشيخ ابن عربي إلى بحري الوجود والعدم ([33]) . يقول الشيخ ابن عربي : « فما من متقابلين إلا بينهما برزخ لا يبغيان ، أي لا يوصف أحدهما بوصف الآخر ، الذي به يقع التمييز ... فهو الحال الفاصل بين الوجود والعدم ، فهو لا موجود ولا معدوم ، فإن نسبته إلى الوجود وجدت فيه رائحة لكونه ثابتاً ، وان نسبته إلى العدم صدقت ، لأنه لا وجود له ... ثم إن هذا البرزخ الذي هو الممكن بين الوجود والعدم سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين
بذاته »([34]) .

وعلى هذا يمكن اجمال مراتب الوجود الرئيسية عند الشيخ ابن عربي بثلاثة مراتب هي :

أولاً : مرتبة الذات الإلهية .

ثانياً : مرتبة العالم الوسيط البرزخي ( الوسائط بين الذات والعالم ) .

ثالثاً : مرتبة العالم .

لاحظ اننا قلنا بأن العالم الوسيط هو مجموعة وسائط ، بمعنى انه ليس حالة واحدة بل هو عبارة عن مجموعة من الوسائط المتداخلة المتواصلة التي تربط بين الذات والإلهية والعالم .








العالم الوسيط ومراتبه

يرى الشيخ ابن عربي ان العالم الوسيط يتكون من اربع مراتب برزخية وهي :

أولا : الألوهة

يقول الشيخ ابن عربي : لما تحققنا الألوهة ما وجدنا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحسنى ، فليس للذات من حكم في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية ، ولا يعرف من الحق غير هذه الأسماء الإلهية ([35]) . بمعنى ان الاسماء الإلهية وسيط برزخي بين الذات الإلهية والعالم ، ومعلوم ان اسماءه تعالى تدل صفاته وصفاته قائمة بذاته ، فلا هي هو ولا هي غيره ، ومجموعها يسمى الألوهة القائمة في الذات ، مثالها – ولله المثل الأعلى – مجموع صفات الإنسانية القائمة في ذات الإنسان .

إنها لا توحد بين الذات والعالم وتلغي ثنائيتهما عند الشيخ ابن عربي – كما يزعم أو يفهم بعض باحثي وحدة الوجود– بل الأحرى القول أنها تجمع بينهما ، كما تحفظ لكل منهما استقلاله المتميز في نفس الوقت بالطريقة التي بينها في خصائص وصفات الوسيط البرزخي ، فهي تجعل البحران يلتقيان دون ان يبغي أحدهما على الآخر كما أشار إلى ذلك النص القرآني .

على ان الدكتور نصر حامد أبو زيد يذهب إلى القول بأن الألوهة في فهم الشيخ ابن عربي يمكن أن تساوي العلة الفاعلة عند الفلاسفة مع فارق هام ، وهو ان العلة الفاعلة عند الفلاسفة منفصلة عن المفعول ، ففي مثال النجارة ، إذا كان النجار يمثل العلة الفاعلة ، فإن الكرسي أو المائدة ( نتيجة الفعل ) مفصولة شكلاً ومضموناً عن الفاعل بوجود مستقل متميز ، بينما دور الألوهة كعلة فاعلة مع العالم لا يقوم على هذا الانفصال والتمايز التام ، كما أنه لا يقوم على أساس الاتحاد التام . وأمر آخر يشير إليه الدكتور وهو أن العلة الفاعلة عند الفلاسفة هي علة مادية هيولية ، ومنها تكون العالم ، بينما الألوهة في منظور الشيخ ابن عربي يمكن اعتبارها علة ميتافيزيقية وليست مادية ([36]) .

ثانيا : حقيقة الحقائق الكلية

مرتبة الحقيقة الكلية عند الشيخ ابن عربي هي بذاتها المرتبة الوجودية للألوهة ، والفارق بينهما أن الألوهة تعد قوة فاعلة مؤثرة حاكمة لأنها أصلاً جمعية الأحكام الإلهية ، وأما من حيث الحقيقة الكلية فتلك الأسماء تعد الكينونة الأولى لتلك الأحكام ، وبتعبير الفلاسفة تعد المادة الأولى الهيولانية لتلك الأحكام ، والشيخ ابن عربي نفسه يطلق على حقيقة الحقائق أسماء مثل الهيولي الكل ، المادة الأولى ، جنس الأجناس . يقول الشيخ ابن عربي : هي الهيولي التي أوجد الله العالم من مادتها الموجودات العلويات والسفليات ، فهي الأم الجامعة لجميع الموجودات ، وهي معقولة في الذهن غير موجودة في العين وهو أن تكون لها صورة ذاتية ، لكنها في الموجودات حقيقة من غير تبعيض ولا زيادة ولا نقص ، فوجودها عن بروز أعيان الموجودات قديمها وحديثها ، ولولا أعيان الموجودات ما عقلناها ، ولولاها ما عقلنا حقائق الموجودات ، فوجودها موقوف على وجود الأشخاص ، والعلم بالأشخاص موقوف على العلم بها ([37]) .

إن هذه المرتبة الوجودية المعقولة هي مرتبة هامة ولا تقل عن مرتبة الوجود الحسي الأمر الذي يعطي هذه الوسائط في فكر الشيخ ابن عربي قدراً من الاستقلالية والتمايز يقف عائقاً دون وحدة الوجود بالمعنى الفلسفي التقليدي .

ثالثا : العماء ( الاعيان الثابتة )

ان مفهوم العماء عند الشيخ ابن عربي يمكن ان يتساوى مع العلة الصورية عند الفلاسفة ([38])باعتباره التمثل الأول في صورة غير محدودة ، صورة بالمعنى الروحي إذا صح التعبير ، فالعماء اصل كل الصور في العالم ، أو المادة الهيولية الأولى لكل الصور ، وهو في الوقت نفسه يتضمن كل صور الموجودات الروحية والحسية في العالم . وهنا يكمن نمط البرزخية ، فهو من حيث الإطلاق يمثل الصورة الكل ، ومن حيث التقييد يمثل الصور المقيدة للموجودات .

رابعا : الحقيقة المحمدية

إذا كانت الألوهة – كما أسلفنا – تمثل العلة الفاعلة ، وحقيقة الحقائق تمثل العلة الهيولانية ، والعماء أو الأعيان الثابتة تمثل العلة الصورية ، فإن هذه الحقيقة الأخيرة تمثل العلة الغائية . فما هي هذه الغاية ؟ .

يرى الشيخ حسين البغدادي أن الحقيقة المحمدية هي الحقيقة التي أوجدها الله تعالى من تجلي ذاته لذاته لتكون له U كالمرآة ليشاهد جميع صفاته وكمالاته في ذاته . وهي اصل نوع الإنسان في الحضرة العلمية ، فوجدت حقائق العالم كلها بوجودها إجمالياً ثم أوجدهم فيها تفصيلياً ([39]) ، هذا المعنى يؤكد نظرية الشيخ ابن عربي في غائية إيجاد العالم وهي تتلخص في إظهار سلطان الأسماء الإلهية واحكامها من جانب ، والظهور في صورة غيرية من جانب آخر ، فكما يقول الشيخ ابن عربي « إن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة »([40]) .

فالغاية من ظهور العالم هي إظهار فاعلية الأسماء الإلهية من جهة ، ورؤية الله ذاته في مرآة من جهة أخرى وهو المشار إليه في الحديث : « كنت كنـزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق فتعرفت إليهم فبي عرفوني ».

على انه يجب ان لا يغفل عن الاختلاف بين مفهوم الغائية عند الفلاسفة وبينه عند الشيخ ابن عربي فالانقسام إلى علة فاعلة وعلة هيولانية وعلة صورية وعلة غائية عند الفلاسفة هو تقسيم واقعي بينما هذا التقسيم عند الشيخ ابن عربي هو تقسيم توضيحي لا يعني كثرة ، إذ كلها مراتب متعددة لحقيقة واحدة هي البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق أو برزخ البرازخ الذي يمثل وسيطاً بين الذات الإلهية والعالم من جهة ، وبينها وبين الإنسان من جهة
أخرى ([41]) .

إن الحقيقة المحمدية تتحد بهذه الحقائق وتشترك معها في وظيفتها البرزخية الوجودية والمعرفية على السواء . فتتوحد بالعماء من حيث كونها الموجود الأول الذي اصطفاه الله من في هذا العماء ، فكانت أول العقول ، وقد جعلها الله بسيطة بحيث لا تغفل ولا تنام ولا تنسى، فصارت أحفظ الموجودات واضبطه لما علمه الله من ضروب العلم ([42]) .

بعبارة أوضح : إن هذه الحقيقة كانت في العماء عبارة عن العقل الأول أو الكلي ، وهي أول الأعيان الثابتة ، وهي ذات وظيفة برزخية وجودية ومعرفية بين الله والعالم والإنسان .

وكما توحدت هذه الحقيقة بالعماء ، فإنها تتوحد كذلك بحقائق العلم الإلهي ، أي الحقيقة الكلية ، فالعلوم التي يعرفها العقل الأول بالتجلي الإلهي ويحصيها ويدونها باعتبارها قلماً هي عبارة عن حقائق العلم الإلهي ، لأن علم هذا العقل بنفسه وما هو عليه ، وحقيقة ما هو عليه يتضمن كل الأشياء التي تنبعث عنه في العالم بكل مراتبه إلا حقيقة الألوهة .

فالوجود عند الشيخ ابن عربي أشبه بدائرة مركزها الذات الإلهية ، والعلاقة بين مركز الدائرة ومحيطها لا تقوم على الانفصال ولا على الاتصال ، فالمحيط بطبيعته يطلب المركز ، والمركز يطلب المحيط ([43]) .





الخلاصة



من خلال دراستنا لهذا العالم الوسيط تبين لنا أن فكر الشيخ ابن عربي يقوم على أساس الإيمان بثلاثية الوجود وليس بالثنائية التي يقول بها رجل الدين أو وحدة الوجود التي يقول بها الفلاسفة والمتكلمين ، والتي يتهمه بها الكثيرين .

بعبارة أخرى : وحدة الوجود عند الشيخ ابن عربي ذات طبيعة برزخية تنتضم في حقيقتها لمراتب متداخلة ، وكل مرتبة لا هي غير المراتب الأخرى ولا هي عينها .

احيانا اشبه هذه الرؤية بحرف ( أ ) اذا نظرت له رأيته حرفا واحدا ، ولكن ان تمعنت أكثر وجدته يتكون من حرف ثلاث هي ( أ ل ف ) ، مع الفارق بالتأكيد .

ولهذا يذهب الباحث الى اعتبار إن وحدة الشيخ ابن عربي وحدة ايمانية توحيدية كونها وفقت في ذاتها بين مفهومي ( الوحدة عند الفلاسفة ) وبين ( الثنائية عند رجال الدين )






______________________

أهم المراجع

أولا : القرآن الكريم

ثانيا : المراجع المخطوطة

●شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الابواب المغلقات من العلوم اللدنية ، الشيخ عبد الكريم الجيلي ، مخطوطة برقم ( 37372) .

● الرسالة الحسينية في كشف حقائق الانسانية، الشيخ حسين البغدادي، مخطوط مكتبة الاوقاف العامة ببغداد ، رقم (19379) .

● البوارق النورية ، الشيخ عبد الحميد التبريزي ، مخطوطة متحف دلهي، الهند ، برقم (1778 DA ) .

●اصطلاحات الصوفية ، القاشاني ، مخطوط برقم ( 3825 ) .

ثالثا : المراجع المطبوعة

● انشاء الدوائر ، ابن عربي ، طبع ليدن ، مطبعة بريل 1336 هـ .

● الفتوحات المكية ، ابن عربي ، دار صادر ، بيروت .

● فصوص الحكم ، الشيخ الاكبر ابن عربي ، بقلم أبو العلا عفيفي ، مكتبة دار الثقافة ، نينوى ، ط2 ، 1989 .

● الكتاب التذكاري (محي الدين بن عربي ) في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، أشرف عليه وقدم له: د. إبراهيم بيومي مدكور ، دار الكتاب العربي ، القاهرة ، 1969 .

● كتاب التعريفات ، علي بن محمد الشريف الجرجاني ، مكتبة لبنان ، بيروت ، 1985

● معراج التشوف الى حقائق اهل التصوف ، احمد بن محمد بن عجيبة الحسني ، تصحيح وتعليق محمد بن احمد بن الهاشمي بن عبد الرحمن التلمساني ، مطبعة الاعتدال ، دمشق ، الطبعة الاولى سنة 1355 هـ ، 1937 م .

● المعجم الصوفي ، د . سعاد الحكيم ،ندرة للطباعة والنشر(بيروت)، ط1 ، 14.1 هـ

● فلسفة التأويل ، الدكتور نصر حامد ابو زيد .

● فلسفة وحدة الوجود ، أصولها وفترتها الإسلامية ، نظلة احمد نائل الجبوري .

● وحدة الوجود من الغزالي إلى الشيخ ابن عربي ، محمد الراشد .

● الموسوعة الفلسفية ، وضع لجنة من العلماء ، اشراف روزنتال ، بودين ، ترجمة سمير كرم ، طبعة بيروت ، 1981 .

● روبير لنسن ، التطور النفسي في الألف القادمة ، ترجمة ندرة اليازجي ، ط دمشق ، 1981 .

● المعجم الفلسفي ، الدكتور جورج صلبيا ، ط بيروت .

● معجم مصطلحات الصوفية ، د . عبد المنعم الحفني ، دار المسيرة بيروت، الطبعة الاولى سنة 1400 هـ ،1980 م .

● المعجم الفلسفي، مراد وهبة ويوسف كرم ويوسف شلال ، القاهرة ، 1970






[1] - ومن ذلك ما ذهب إليه عبد الرحمن الوكيل حيث أعتبر ان الرب عند الشيخ ابن عربي ( هو الذي يجمع بين النقيضين فهو الواحد الحق والعدم الصرف وهو الخلاق وهو المخلوق وهو عين كل كائن وصفاته عين صفات كل موجود وكل معدوم ، هو الحق الكريم والباطل اللئيم ، هو الفكرة العبقرية ، والخرافة الحمقاء ، هو المؤمن والكافر … ) ولهذا يخلص إلى القول : ( فالشيخ ابن عربي كما ترى أصرح الدعاة إلى وحدة الوجود ، بل هو كاهنها الأكبر ) أنظر : عبد الرحمن الوكيل – هذه هي الصوفية – ص 30 .


[2] - أهل الكشف والشهود : مصطلح صوفي يراد به « الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا » ، انظر : الجرجاني – التعريفات – ص 193 .


[3] - ابو العلا عفيفي : ( 1897 -1966)، عالم بالفلسفة الإسلامية ، تخرج في دار العلوم 1921 وأوفد في بعثة علمية إلى إنجلترا حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كمبردج 1930 برسالته عن ( فلسفة الشيخ ابن عربي الصوفية ) تحت اشراف المستشرق البريطاني رينولد نيكسون .


[4] - « الكشف ... هو اطلاع العارف على ما وراء الحجب الغيبية بأنوار التجليات الإلهية » ، الشيخ عبد الحميد التبريزي – مخطوطة البوارق النورية – ورقة 57 أ .


[5] - الذوق والوجدان في الاصطلاح الصوفي : « هو دوام حلاوة الشهود ، واتصاله مع غلبة السكر والدهش » ، الشيخ أحمد بن عجيبة – معراج التشوف إلى حقائق التصوف – ص 34 – 35 .


[6] - كمال الدين القاشاني – اصطلاحات الصوفية – ص 5 .


[7] - البقرة: من الآية282


[8] - أستاذة علم التصوف بكلية الآداب يالجامعة اللبنانية ، من أسرة صوفية .


[9] - الفناء والبقاء بابسط معانيهما الاصطلاحية عند الصوفية : « الفناء : هو سقوط الأوصاف المذمومة ، كما أن البقاء وجود الأوصاف المحمودة » ، تعريفات الجرجاني – ص 176 .


[10] - د . سعاد الحكيم – المعجم الصوفي – ص 1149


[11] - الشيخ ابن عربي – فصوص الحكم – ص 11 .


[12] - د . سعاد الحكيم – المعجم الصوفي – ص 1145 .


[13] - أنظر : الشيخ ابن عربي حياته ومذهبه ص 251 – 252 .


[14] - د. نصر حامد ابو زيد – فلسفة التأويل – ص 21 .


[15] - الشيخ ابن عربي – فصوص الحكم – ج1 ص 25 .


[16] - الكتاب التذكاري لمحي الدين الشيخ ابن عربي – ص 379 – 370 .


[17] - الدكتور نصر حامد أبو زيد : نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010) أكاديمي مصري، وباحث متخصص في الدراسات الإسلامية ومتخصص في فقه اللغة العربية والعلوم الإنسانية


[18] - نظلة احمد نائل الجبوري – فلسفة وحدة الوجود ، أصولها وفترتها الإسلامية – ص 15 .


[19] - إبراهيم مدكور ( 1902م - 1996م). عالم لغة ومختص بالفلسفة وأستاذ جامعي مصري ومصلح اجتماعي وسياسي. رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1974م خلفا لطه حسين .


[20] - الكتاب التذكاري – ص 368 .


[21] - - نظلة احمد نائل الجبوري – فلسفة وحدة الوجود ، أصولها وفترتها الإسلامية – ص 19 .


[22] - محمد الراشد – وحدة الوجود من الغزالي إلى الشيخ ابن عربي – ص 17 .


[23] - الجاذب الغيبي في شرح الجانب الغربي في حل مشكلات الشيخ ابن عربي – نسخة مخطوطة حديثة من مكتبة رياض المالح / دمشق- ق296


[24] - الموسوعة الفلسفية – وضع لجنة من العلماء ، اشراف روزنتال ، بودين – ترجمة سمير كرم – طبعة بيروت – 1981 – ص 580


[25] - روبير لنسن – التطور النفسي في الألف القادمة – ترجمة ندرة اليازجي – ط دمشق – 1981 – ص 23.


[26] - فلسفة التصوف من خلال النشأة والتطور – ص175 .


[27] - د . جورج صلبيا – المعجم الفلسفي – ط بيروت – ج2 ص 584 .


[28] - د . عبد المنعم الخفجي – معجم اصطلاحات الصوفية – ط بيروت – 1980 – ص 263 .


[29] - مراد وهبة ويوسف كرم ويوسف شلال – المعجم الفلسفي – ط2 – القاهرة – 1970 ص 4-5 .


[30]- الرحمن:33


[31] - يطلق الشيخ ابن عربي على الترتيب المخروطي للوجود اسم ( الصور ) وهو نفس الصور الذي ينفخ فيه اسرافيل يوم القيامة ، ويعي الشيخ ابن عربي بهذا الصور ( عالم الصور الروحية والجسمانية ) على السواء ، ويشبهه بالقرن الذي أعلاه ضيق واسفله واسع . أنظر : الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 1 ص 306 – 307 . د . نصر حامد ابو زيد – فلسفة التأويل – ص 95 .


[32] - حاول الدكتور ابو العلا عفيفي جاهداً ان يرد مفهوم البرزخ إلى تأثير ( فيلون الاسكندري )، حيث رأى أن تأثير هذا المفهوم بارز بوضوح في التشابه في المصطلحات التي يستخدمها كل منهما.

وقد رد الدكتور نصر حامد ابو زيد على هذا الرأي بقوله : إن ابو العلا عفيفي منطلقاً من تصوره الأساسي لفلسفة الشيخ ابن عربي قد وحد بين مصطلحات كثيرة ، واعتبرها اسماء تدل على حقيقة واحدة . ورغم تنبه ابي العلا عفيفي إلى الأصل القرآني الذي يمكن أن يفسر مفهوم الكلمة وكذلك البرزخ عند الشيخ ابن عربي ، فإنه يرجح التأثير اليهودي والمسيحي على التأثير القرآني . والحق أن مصطلح البرزخ له اصله القرآني في فكر الشيخ ابن عربي .

أنظر : الفلسفة الصوفية لالشيخ ابن عربي – ص 90 . وأيضاً : ص 66 هامش 1 .

نظرية الإسلاميين في الكلمة 35 ، 48 ، 55 ، 56 .

فلسفة التأويل – ص 38 –39 .


[33] - د . سعاد الحكيم – المعجم الصوفي – ص 186 .

وانظر : الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – سفر 1 فقرة 482 .


[34] - الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج3 ص 47 .


[35]- الشيخ ابن عربي - الفتوحات المكية – ج4 – ص 208 .


[36] - نصر حامد ابو زيد – فلسفة التأويل – ص 67 .


[37] - الشيخ ابن عربي – انشاء الدوائر – ص 24 – 26 .


[38] - الشيخ ابن عربي نظرية خاصة في الصورة أسميناها ( نظرية الصورة ) ، أنظر تفاصيلها في الباب الثاني .


[39] - الشيخ حسين البغدادي – مخطوطة الرسالة الحسينية في كشف حقائق الإنسانية – ص22 – 23 (بتصرف) .


[40] - الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 1 ص 739 ، فصوص الحكم – 48 –49 .


[41] - د. نصر حامد ابو زيد – فلسفة التأويل – ص 94 .


[42] - أنظر : الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 2ص 422 .


[43] - الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية - ج 1 ص 125 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...