من قواعد التصوف
( المصدر : قواعد التصوف لسيدي أحمد زروق)
قاعدة 1
ضرورة تعريف التصوف قبل الخوض فيه
الكلام
في الشيء فرع تصور ماهيته، وفائدته ومادته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي، ليرجع إليه
في أفراد ما وقع عليه ردّاً وقبولاً وتأصيلاً وتفصيلاً.
فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه، إعلاماً به وتحضيضاً
عليه، وإيماء لمعادنه، فافهم.
قاعدة 2
تعدد تعريفات التصوف
ماهية
الشيء حقيقته، وحقيقته ما دلت عليه جملته. وتعريف ذلك
بحد:
وهو أجمع،
أو
رسم: وهو أوضح،
أو
تفسير وهو أتمّ لبيانه وسرعة فهمه.
وقد حُدّ التصوف ورُسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين. مرجعها
كله لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنّما هي وجوه فيه، والله أعلم.
قاعدة 3
تصوف كل أحد صدق توجهه
الاختلاف
في الحقيقة الواحدة، إن كثر، دلّ على بعد إدراك جملتها، ثمّ هو إن رجع لأصل واحد،
يتضمن جملة ما قيل فيها كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه، وجملة الأقوال واقعة
على تفاصيله. واعتبار كلّ واحد له على حسب مثاله منه علماً، أو عملاً، أو حالاً،
أو ذوقاً، أو غير ذلك.
والاختلاف
في التصوف من ذلك، فمن ثمّ ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حليته عند
تحليته كلّ شخص، قولاً من أقوالهم يناسب حاله قائلاً: وقيل إنّ التصوف كذا.
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن
تصوف كلّ أحد صدق توجهه، فافهم.
قاعدة 4
صدق التوجه مشروط برضا الحق .. ولا تصوف إلا بفقه
صدق
التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه
{وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ}، فلزم تحقيق الإيمان. {وَإِنْ تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ} فلزم العمل بالإسلام.
فلا
تصوف إلا بفقه، إذ لا تُعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا
عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع
لتلازمهما في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا
كمال له إلا بها، فافهم.
ومنه
قول مالك رحمه الله: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق،
ومن جمع بينهما فقد تحقق).
قلت: تزندق الأول: لأنّه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة
والأحكام. وتفسق الثاني: لخلو عمله عن صدق التوجه الحاجز عن معصية الله تعالى وعن
الإخلاص المشترط في العمل لله، وتحقق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك
بالحق، فاعرف ذلك.
قاعدة 5
التصوف هو الإحسان
إسناد
الشيء لأصله، والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر بحقيقته، لأن ظهور الحق
في الحقيقة يمنع من ثبوت معارضتها. فأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (بأن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك). لأنّ
معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة وعليه دائرة، إذ لفظه دال على طلب المراقبة
الملزومة به. فكان الحض عليها حضاً على عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام
والأصول عل مقام الإيمان.
فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل ليعلمه
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فافهم.
قاعدة 6
عربية مصطلح "التصوف"، وخلوه
من الالتباس
الاصطلاح
للشيء بما يدل على معناه ويشعر بحقيقته ويناسب موضوعه، ويعيّن مدلوله من غير لبس
ولا إخلال بقاعدة شرعية ولا عُرفية، ولا
رفع موضوع أصلي ولا عُرفي، ولا معارضة فرع حكمي ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب
لفظه وتحقيق ضبطه لا وجه لإنكاره.
واسم التصوف من ذلك، لأنه عربي مفهوم تامّ التركيب، غير موهم
ولا ملتبس ولا مبهم، باشتقاقه مشعر بمعناه كالفقه لأحكام الإسلام والأعمال الظاهرة
والأصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعتقد، فاللازم فيهما، لازم فيه لاستوائهما في
الأصل والنقل فافهم.
قاعدة 7
اشتقاق اسم التصوف
الاشتقاق
قاض بملاحظة معنى المشتق والمشتق منه، فمدلول المشتق مستشعر من لفظه، فإن تعدد
الشعور، ثمّ أمكن الجمع فمن الجميع وإلا فكل يلاحظ معنى فافهم إن سلم عن معارض في
الأصل.
وقد
كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، وأمسى ذلك بالحقيقة خمس:
أولها: قول من قال: (الصوفة) لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا
تدبير له.
الثاني: أنه من (صوفة القفا) للينها، فالصوفي هيّن ليّن كهي.
الثالث: أنه من (الصِّفة) إذ جملته اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف
المذمومة.
الرابع: أنه من الصفاء وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه
الله:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا *** جهلاً وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً *** صافى فصوفي حتى سمي الصوفـي
الخامس:
أنه منقول من الصُّفة لأنّ صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال
تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا
قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}. وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كلّ قول
فيه، والله أعلم.
قاعدة 8
لا يختص التصوف بفقر ولا غنى إن تحققت إرادة وجه الله
كم
التابع كحكم المتبوع فيما يتبعه فيه، وإن كان المتبوع أفضل. وقد كان أهل الصفة
فقراء في أول أمرهم، حتى كانوا يعرفون بأضياف الله. ثمّ كان منهم الغني والأمير،
والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت.
فلم يخرجهم الوجدان عما وصفهم مولاهم به من أن هم: {الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً}، كما أنهم لم يمدحوا بالفقدان، بل بإرادة وجه الملك الديان، وذلك غير
مقيد بفقر ولا غنى، وبحسبه، فلا يختص التصوف بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد وجه
الله، فافهم.
قاعدة 9
الصوفي، والفقير، والملامتي
اختلاف
النسب قد يكون لاختلاف الحقائق، وقد يكون لاختلاف المراتب في الحقيقة الواحدة.
فقيل
إنّ التصوف والفقر والملامة والتقريب من الأول، وقيل من الثاني وهو الصحيح. على
أن الصوفي هو العامل في تصفية وقته عما سوى الحق، فإذا سقط ما سوى الحق من
يده فهو الفقير. والملامتي منهما هو الذي لا يُظهر خيراً ولا يضمر شراً، كأصحاب
الحرف والأسباب ونحوهم من أهل الطريق.
والمقرب من كمُلت أحواله، فكان بربه لربه، ليس له عن سوى
الحق إخبار، ولا مع غير الله قرار، فافهم.
قاعدة 10
اختلاف المسالك لا يلزم منه اختلاف المقصد
لا
يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه،
كالعبادة والزهادة، والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، وكلها متداخلة،
فلا بد للعارف من عبادة، وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه. ولا بد له من
زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده، إذ لم يُعرض عمن سواه. ولا بد للعابد منهما، إذ لا
عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة،
ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد. أو النظر لتصريف
الحق فعارف. والكلّ صوفية، والله أعلم.
قاعدة 11
من هو المؤهل للتصوف؟
لكلّ
شيء أهل ووجه ومحل وحقيقة.
وأهلية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو
طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق أو فقيه تقيده الاتساعات، لا متحامل بالجهل، أو مستظهر
بالدعوى، أو مجازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر
من عرف في الجملة، والله أعلم.
قاعدة 12
علم بلا عمل، وسيلة بلا غاية
شرف الشيء إما أن يكون بذاته، فيتجرد طلبه لذاته، وإمّا أن
يكون لمنفعته، فيطلب من حيث يتوصل منه إليها به، وإما أن يكون لمتعلقه، فيكون
الفائدة في الوصلة بمتعلقه. فمن ثمّ قيل: (علم بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعمل بلا
علم جناية)، والعقل أفضل من علم به، والعلم به تعالى أفضل العلوم لأنّه أجلّ
العلوم. وعلم يراد لذاته أفضل، لكون خاصيته في ذاته، كعلم الهيبة والأنس ونحو ذلك.
فمن لم يظهر له نتيجة علمه في عمله فعلمه عليه لا له. وربما شهد بخروجه منه إن كان
علمه مشروطاً بعمله، ولو في باب كماله، فافهم وتأمّل ذلك.
قاعدة 13
فائدة الشيء ما قصد له وجوده
فائدة
الشيء: ما قصد له وجوده. وإفادته: حقيقته في ابتدائه أو انتهائه أو فيهما.
كالتصوف:
علم قصِد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.
وكالفقه:
لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام.
وكالأصول:
لتحقيق المعتقدات بالبرهان، وتحلية الإيمان بالإيقان.
وكالطب:
لحفظ الأبدان.
وكالنحو:
لإصلاح اللسان.، إلى غير ذلك فافهم.
قاعدة 14
أفضلية علم التصوف على غيره
العلم
بفائدة الشيء ونتيجته باعث على التهمم به، والأخذ في طلبه لتعلق النفس بما يفيدها
وإن وافقها، وإلا فعلى العكس، وقد صح أن شرف الشيء بشرف متعلقه. ولا أشرف من متعلق
علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته ومقدمة إتباع أمره.
وغايته إفراد القلب له تعالى، فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه:
(لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت
إليه).انتهى، وهو واضح.
قاعدة 15
بذل العلم لغير أهله
أهلية
الشيء تقضي بلزوم بذله لمن تأهل له، إذ يقدره حق قدره ويضعه في محله، ومن ليس بأهل
فقد يضيعه، وهو الغالب أو يكون حاملا له على طلب نوعه وهو النادر.
ومن
ثم اختلف الصوفية في بذل علمهم لغير أهله،
فمن
قائل: لا يبذل إلا لأهله، وهو مذهب الثوري وغيره.
ومن قائل: يبذل لأهله ولغير أهله، والعلم أحمى جانبا من
أن يصل إلى غير أهله، وهو مذهب الجنيد رحمه الله. إذ قيل له: كم تنادي على
الله بين يدي العامة؟ فقال: (لكني أنادي على العامة بين يدي الله) انتهى. يعني أنه
يذكر لهم ما يردّهم إليه، فتتضح الحجة لقوم وتقوم على آخرين. والحق اختلاف الحكم
باختلاف النسب والأنواع، والله أعلم.
قاعدة 16
طلب الدنيا بالتصوف واستعماله لغير غايته
وجوه
الاستحقاق مستفادة من شاهد الحال، وقد يشتبه الأمر، فيكون التمسك بالحذر أولى
لعارض الحال، وقد يتجاذب الأمر من يستحقه ومن لا، فيكون المنع لأحد الطرفين دون
الآخر.
وقد
أشار سهل لهذا الأصل بقوله: (إذا كان بعد المائتين فمن كان عنده شيء من كلامنا
فليدفنه فإنه يصير زهد الناس في كلامهم، ومعبودهم بطونهم). وعدّد أشياء تقضي بفساد
الأمر حتى يحرم بثه لحمله على غير ما قصد له، ويكون معلمه كبائع السيف من قاطع
الطريق.
وهذا
حال الكثير من الناس في هذا الوقت، اتخذوا علوم الرقائق والحقائق سلماً لأمور
كاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات
بينة وبدع ظاهرة، حتى أن بعضهم خرج عن الملة وقبل منة الجهال ذلك، بادعاء الإرث
والاختصاص في الفن، نسأل الله السلامة بمنه.
قاعدة 17
مخاطبة الناس على قدر عقولهم
في كل علم ما يُخص ويُعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه
وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل، عموماً وما وراء ذلك
على حسب قابله لا على قدر قائله، لحديث: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب
الله ورسوله؟). وقيل للجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة، فتجيب
هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: (الجواب على قدر السائل)، قال عليه السلام: (أمرنا
أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
قاعدة 18
تقديم الأهم على المهم شأن الصادقين في كل شيء
اعتبار المهم وتقديمه أبداً، شأن
الصادقين في كل شيء، فكل من طلب من علوم القوم رقيقها قبل علمه بجملة أحكام
العبودية منها، وعدل عن جليّ الأحكام إلى غامضها، فهو مخدوع بهواه، لا سيما إن لم
يُحكم الظواهر الفقهية للعبادات، ويحقق الفارق بين البدعة والسنة في الأحوال،
ويطالب نفسه بالتحلي قبل التخلي، أو يدعي لها ذلك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق