الثلاثاء، 30 أبريل 2019

رسالة الإمام الجنيد إلى عمرو بن عثمان المكي رحمهما الله تعالى


رسالة الإمام الجنيد إلى عمرو بن عثمان المكي
رحمهما الله تعالى



* أوتِيتَ من العلم والحكمة أعلى منازله ؛ وتَنَاهيتَ من الرسوخ في المعرفة إلى غاية أماكنها، وأدنِيتَ في مجالس القرب إلى أزلف مواطنها ؛ وتُبّوئَ بك من كمال جوامع الأنباءِ إلى استيعاب معالمها، فجرى ذلك لك بالتمكين وأنت مستبصر ؛ وعلوتَ في سمو انتهائه مشرفًا مستظهرًا. قد تضمنته بقوة الاشتمال عليه فأفضى (1) إليك ؛ واستغنيت عن السعاية إليه بمنيع صولة التمكين، لأنك (2) لذلك كله بوضح الحق مستبين ؛ ولأنك فيما اخُتِلفَ فيه من العلم على صحة اليقين.

وجعلك الله مع ذلك ممن سعد به إخوانه، ونالوا البُغيَةَ من العلم بوصفه وبيانه وانكشفت لهم الحقائق المشفية من تعبير لسانه، وأنس منهم من غاب أو حضر بشرف مكانه.

بل جعلك الله نورًا يملأ بسنا ضيائه الخافقين ويلوح مضيئًا طالعًا على سائر الثقلين ؛ فينال عند ذلك كل فريق منهم حظه الكامل ويصل إلى مراده الشامل الفاضل، حتى تكون هذه الظواهر أموره التي ألبسها وبوادي أحواله التي أريد بها، وقد نظر فيها فوقفت به الضنه عن ظهوره، وتضمنته الصّون والحُجبَة والكتم عن حضوره.

وذلك سر تضل العقول عن الإشارة إليه ؛ وتنقطع الفهوم عن شيء من الورود عليه، هيهات هيهات طمست عن ذلك أطواق كوامل العلماء، وضلت عنه مقاليد أكابر الفهماء. فهو في تفرد توحده عليَّ، ويعزل قيومته تجرده. فكم من مؤمئ إليه بتوهمه، ومن مظهر التحقق (3) به بالطيب عنده أن يعرض لينطق به، تلجلج لسانه وتحير عند الإيماء به إلى بيانه. ويظنُ الجاهل إذا سمعه أنه قد أصاب وهو في عمياء مظلمة عند الخطاب، يكون في دعواه وحقيقة الحق تدفعه، ويوهم بوصفه السامع * في القصد إلى ما يقع الفهم به في النفاذ فيما أمر به، والترك لما نهى عنه.

وذلك بعض حق العلم على من حمله، فمتى اقتضيت لنفسك، يقع العلم لها قبل إعطائك منها حق ما للعلم. واجب احتجب عنك نفعه ونوره وبقى عليك رسمه وظهوره، وذلك حجة للعلم عليك وإن كان رسمه ظاهرًا (4) لديك.

فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقصر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت بك الإشارة إليك وانبسطت به الألسن من الثناء عليك فإن ذلك حتف لمن هذه الصفة صفته، وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته.

فلما سمع العالم من الحكيم ما نطق به، وقرع سمعه بيان ما شرحه له، أطرق مفكرًا ثم انتحب بعد الفكرة باكيًا، فطال بكاؤه وعلا نحيبه واشتد اضطرابه، فأقبل عليه عند ذلك الحكيم فقال له: الآن حين بدت شمس الحكمة تطلع عليك وواضح نورها يصل إليك، وعند ذلك تنجلي عنك ظلمات ما أعرضت عنه من علمك، وأغفلته من موانع العلل لفهمك، وإني أؤمل بذلك صلاح ما أفسدته والتلافي لحفظ ما ضيعته.

فلما سمع العالم إقبال الحكيم عليه بذلك، سكن من اضطرابه وهدأ من شد بكائه، ثم أقبل على الحكيم فقال: زدني من دوائك هذا فقد لاوَم جراحي، وقويت الأطماع في الوقوع لحجتي، فتخلصني بلطيف حيلتك ورفق حكمتك من وبال ما أنت أعلم بما كَمُن منه في سري، واستتر عني من خفيّ هوى الشر، فقد انطوى عني في سالف الأوقات الماضية خفيَّ مستبطنات كانت في السرائر كامنة وكشفت لي عنها بجميل نعتك وأوقفتني على ما بطن منها بلطيف رفقك.


قال له الحكيم: تحمد الله أبدًا فيما أنعم به عليك من اطلاعه إياك * على ذلك وإيقافه لك على مواضع خللك، فكن بالذل بين يديه خاضعًا، وافتقر إليه بالاستكانة والخضوع ضارعًا، فإنك لا تَخفَى مناجاتك له سامعًا، وإنك إذا كنت كذلك كان لك إليه شافعًا ؛ واعلم مع ذلك أن ألسنة الحكمة لا تنطق إلا من بعد أن يؤذن لها، وإذا نطقت وقع النفع لمن أسمع بها، وإنما مثل ذلك من فضل الله على خلقه، مثل غيث سمائه الذي إذا أنزله وأحيا (5) به ميت أرضه أما سمعت الله تعالى يقول « فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » (6) وكذلك يحيي الله تعالى بألسنة الحكمة ما أمات الإعراض عنه في قلوب أهل الغفلة.

قال العالم للحكيم: أجل إن الذي وصفته كما وصفته، وإني أؤمل من الذي انتدبتني بلسان حكمتك وجاد عليّ تعطف رحمتك، أن تستنقذني من وبال التقصير بدلالتك، وتخرجني من ذلة التخلف بمصادفة رؤيتك.

وقد علمت الآن أن أربى إلى التكشف لي عما لزمني من وبال تركي للعلم بعلمي وتخلفي عما أوجبه حق العلم عليّ، وعما استتر في نفسي وانطوى بالاستخفاء في سري ما لم أكن له مدركًا ولا بما معي من العلم عليه واقفًا، وقد أشرقت الآن بقدر ما أيّدني الله تعالى به منك ومنَّ به عليّ، وكشفه لي بأسبابك على بعض ذلك، فبعلمي بالقليل من ذلك علمت أن عليَّ منه كثيرًا لم أدركه، وخَفيّ مستبطنات لم أره ولم أعرفه.

فاكشف لي أيها الحكيم من أمري عما أنت أعلم به مني، فإن الطبيب أعلم بداء السقيم من نفسه، وأحق أن يصف له من الدواء ما يكون سببًا لبُرئه (7).

قال الحكيم: قد بدت مطالعات الفهم تلحقك بمعرفة ما عليك من ذلك ولك، وبدت أوائل * معاني الصحو تلوح لعقلك، وبدت أوائل الإفاقة تسعى (8) بحركاتها لبعض ما في سرك. واعلم أن ضرر الأديان أشر من ضرر الأبدان ؛ وسقم الجوارح والأجسام أسهل من سقم القلوب والأفهام ؛ لأن علل الدين والآفات المعترضة على اليقين سبب للبوار، وموردة لأهلها على النار مؤذية إلى سخط الجبار، وما عدا ذلك إلى غيره وكان واقفًا فيما سواه من الأمراض والأسقام الكائنة في الجوارح والأجسام، فذلك ضرر يؤمل برؤه ويزول مكروهه وشره ويرجى من الله تعالى ثوابه وأجره. وأعلم أن الطبيب العالم المجرب والحكيم الناصح المؤدب أعلم بدنف الأبدان والعلل المخامرة بآفاتها للأديان، لأن المعبر عنهما يعبر عما يجد من ذاته، والواصف لما حلّ به من بلائه، مقصر عن بلوغ نعته لذلك، مختلف عن الوصف لما هنالك، ووصف المتطبب الخبير المجرب البصير يكشف لأهل الأمراض عما وجدوه، وينبههم عن زوال ما فقدوه، حتى كان الموصوف بعبارة اللسان منظور إليه بحقيقة العيان ... وإني أصف لك على أثر ذلك أمورًا تقّوي لك حالك وتبلغك غاية البغية من سؤالك والقوة بالله العظيم.

اعلم أيها المنسوب إلى العلم بوقوع الصحو لك تتبين حيرة السكرة. وبكون الإفاقة تقف على وقت الغمرة، وبصحة الذكر ينكشف لك وبال الغفلة، وبالسلامة والعافية يتميز لك وقت العلة.

فأعلم أن ذلك كله مشغل في حين كونه عن حقيقة معرفته، ضار لأهله بما لبسهم منه عن وجود حيرته إلا بحمله، عِلمٌ مزاجه اللبس والظلمة ليثبت الله تعالى بذلك عليهم الحجة.

فخلَ عن نفسك أيها المعنىّ بها والحريص على تعجيل * استنقاذها وبال السكرة والغمرة والغفلة والحيرة باستعمال ما أصفه لك، والإسراع إلى ما أحُثُّكَ عليه، والمبادرة إلى ما أشير به إليك، فإن صحة الصدقة وجودة القصد يؤديانك إلى المحل الذي هو باب المدخل فيما تحبه والمخرج مما تكرهه، ولن يحجبك عن بلوغ ما تريد – والقوة بالله – إلا بتقصيرك عن المجاهدة في واجب حق السعي عليك.


فاحذر ثم احذر أن تكون على شيء من ذلك مقصرًا، أو ألفاك وقتًا وأنت عنه فاتر راجع، فإن مطيتك الموصلة لك إلى بغيتك صدقك في إقامة المناصحة في محل مجاهدتك ؛ فقد أوقفتك على وجه المنهج والمدرجة وقربتك من المسير على أوضح المحجة.

وأعلم أيها الرجل الحاذر المحثوث المبادر أن الإقامة المانعة لك ولنظرائك بعد الحمل للعلم وطول السعاية فيه ودوام العناية بجمعه والاستكثار من الحمل له، الميل إلى التأويل والدخول به فيما خفي من النفس من الميل إلى الدنيا والركون إليها.

وهم في ذلك على معاني مختلفة: فمتأول متبين الأغماض والأعراض فيما استكن في خفايا نفسه، فمضى فيه على ما عليه منه والعلم بنكته. ولا يتركه في كثير من الأوقات ويستتر ذلك عليه في بعض أوقاته.

ومتأول قصد الصحة والتحقيق فيما تأوله، ولحقه في ذلك الميل من حيث لم يستدركه، وانطوى عليه ما عليه فيما قصد له، وكان عنده الذي عمد له وتأوّله أولى به من غيره فمضى على ذلك، وهذا نعت حاله، فكان مما قصد له في التأويل على معنى الصفة الأولى (9) التي تُبين لصاحبها خفي أغماضه وطوي ما في نفسه إذ جعل العلم ذريعة وسببًا إلى ذلك، فلبس حيلته وتحمل بلبوسه وأظهر بالتأويل * أثر العلم ودعا إليه ونصب نفسه للشهرة به ليعلم الناس ما علم منه.

فلما عُرف موضعه ومكانه وسُمع منه وأقبل الناس عليه نحوه، استحسن اجتماع العوام عليه وثناء الجاهلين بما ليس فيه، فقوى عليه بذلك سلطان التأويل، وأوهم نفسه حظ اجتماعهم وانبساط ثنائهم وكثرى تعظيمهم وحسن قبولهم له، بما ظهر من نفسه وتحسن به، مما يعلم الله تعالى منه خلاف ما أسّره وأضمره، فلما استوى له ذلك عند العوام والجهلة، وكثر حمد الحامدين.



بالغلط والغفلة، مال إلى ما في نفسه من أخذ العوض على ما نشر من علمه، ورضي بما تعجله من ذلك ثوابًا لعلمه، وصار بائعًا للعلم بالثمن اليسير والخطر القليل، ورضي بالدنيا عوضًا من الآخرة ومن ثواب الله تعالى على الأعمال الصالحة، في جملة من ذمّة الله تعالى في كتابه وقصَ علينا من بيانه على لسان نبيه >. قال الله عزّ وجلّ « وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ » (10). وقال تعالى « فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ » (11).

فذمّهم الله تعالى وقصّ علينا في كتابه وصرّح بذلك إلى العقلاء من عباده، وبينّه بيانًا محكمًا قويًا لئلا يكون لمحتج في ذلك حجة، ولا لقائل فيه مساغ ولا مدافعة.

ثم إن الله تعالى قصّ علينا قصص الأنبياء عليهم السلام وأخبرنا بما نعتهم به وبما أخذ عليهم من ترك الدنيا والتشمير إلى الآخرة، وألا يأخذوا على شيء من ذلك ثمنًا ولا يريدون عليه أجرًا. ولأن حق العلم وحق تأديته إلى الخلق ألا يكون لشيء منه جزاء إلا ثواب الله عز وجل عليه * والجنة التي جعلها دار من اتقاه وأطاعه قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: « قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ » (12). وقال تعالى: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى » (13).

وكذلك قصَّ علينا في قصص الأنبياء عليهم السلام، قال نوح « قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ » _ « وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ » (14) وقال « إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي » (15). ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى.

وهذه سيرة الأنبياء عليهم السلام في الأمم وسيرة العلماء في الناس ألا يأخذون (16) على شيء من العلم ثمنًا ولا يطلبون على شيء بما يعلمون أجرًا وسيما ( ما ) أخذه العلماء على العلم سحتًا وسيما ما أخذه الربانيون والأحبار مع نهيهم عن ذلك فقال تعالى « لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (17) والأخبار في النهي عن ذلك كثيرة والاستقصا في ذلك من الحجة يطول وصفه وقد تبين لك بعض ما فيه كفاية وبلاغ والله الموفق.

وأما الطوائف التي تأولت ورأت أن الذي تأولته هو الحق فإنهم قوم لحقهم الزلل من حيث غاب عنهم (18) علم الحقيقة ؛ ونالهم من المشكلات التي لا تبين لأهلها إلا بعد التورط فيها والانغماس في مكروهها ؛ جعل القوم أئمتهم فيما تأولوه رجالًا (19) قلت مناصحتهم لأنفسهم ولم يصادفوا صواب الحقيقة فيما عمدوه ؛ قالوا: بالخلق إلينا فيما عَلمِناه أشد الحاجة ؛ وعلمُنا إقامة الحق في سائر الخلق ؛ فمن ذلك تقديم الأئمة والمشورة عنهم والتقّوى بهم. (20) وكذلك الأمراء والرؤساء وعظماء أبناء الدنيا.

فجعلوا السعي إلى الخلفاء والأمراء والحكماء وعظماء أبناء الدنيا عملًا لهم يحتسبون به ويؤملون ثوابه، وجعلوه من أجلّ الأعمال وأعظمها قدرًا، وأوفرها عندهم ثوابًا، فحملوا العلم إليهم وطرقوا به أبوابهم، وسعوا بما حملوه منهم إلى من لم يطلبهم له ولم يدعهم إليه ولم يعرفهم به * فلحقهم في أول الأمر ذلّ السعاية، والتوسل إلى الحُجَّاب، ومهانة الوقوف على أبوابهم، فمن بين مأذون له ومن بين مردود، قد لحقتهم المذلة، وعلتهم العقوبة ولبستهم الذلة، ورجعوا بخضوع المذلة.

فلم يزالوا كذلك في نَصَبِ الغدو والرواح، وذلك سبب الهلكة والاجتياح، حتى وصلوا إلى الذي قصدوا، ونسوا الإله الذي عبدوا، وأوردتهم الغفلة والنسيان موارد الأموات، وغمرتهم كثرة العلل والآفات واتصلت بأبصارهم وقلوبهم فتنة ما أعد أبناء الدنيا لأنفسهم وآثروه على أمور آخرتهم من بهجة رونقها ونضرة زينتها ولوعة زهرتها.


واعلم أيها الباحث عن واجب العلم وشرفه، والطالب للمصافاة بخالص الأعمال لسيده، أن أقدام القوم عن مناهج الحقيقة انحرفت، وأن قلوبهم على صحيح الإرادات ما استوت، وأنهم مالوا بخفي ما في النفوس على جميل ما أظهروه وإلى محبة علم الخلق به وتعظيمهم عليه وإجلالهم من أجله. وأحبوا اجتماع الخلق عليهم وإشارتهم إليهم (21)، حتى تصوّب آراؤهم وتصدق أقوالهم وتكبر غايتهم ويتصل الثناء لهم ؛ وإن قصر عن شيء من ذلك عنهم كرهوا وإن لم يقع لهم ما يحبون (22) غضبوا، ولا تسل عن فرط الغضب منهم والرضا والتعتب منهم على من خالف مواقع الهوى. وصفهم بكل ما هو فيه يطول به الشرح ويطول به الكلام، وقد شرحت لك من وصفهم ما انبسط به لساني . وأجري لك من نعتي وبياني وفي ذلك كفاية.

فالبس الآن أنت جلابيب الحذر وتدرع بأدرع الخوف، وخذ على نفسك جُنة التقوى، وقم لله تعالى على نفسك بدوام الرعاية، ودوام التفتيش وشدة المحاسبة وجودة التحصيل وصدق البحث، وصل سراَ * مع ذلك بدوام الذكر وقَوِيّ الفكر.

فكن ممن جاهد في الله عزل وجلَ حق جهاده، وممن أثنى الله تعالى عليه من صالحي عباده، مع ما يقع لك من الوعد الجميل والثواب الجزيل. قال الله عز وجل:
« وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ » (23) وقال الله تعالى
« وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا » (24).

فهاتان آيتان موجبتان لمنالات الخير ووقع الهداية والرشد، فخذ بحظك الأوفر من العمل بهما واللزوم لما أمر الله تعالى فيهما. وكن على حذر من موافقة شيء مما تقدم به النعت من ذلك التأويل وخطأ الرأي، فإن ذلك مؤدي إلى إحباط العمل وشدة الندامة في المنقلب.


قال له العالم: أيها الحكيم قد أتيتَ على الذي في نفسي، وبلغتَ مدى ما كان يجول في صدري، وزدتَ على ذلك من الوصف أشياء عرفت فضلها، وانكشفت لي صواب العلم بها، وأرجو أن يكون ذلك من فضل الله تعالى ورحمته لي، وقد جعلك الله تعالى سببًا لتنبيهي على أمور لولا مِنةُ الله تعالى علىّ بك فيها لذهب بي التقصير عن العلم بها، حيث ذهب بمن تقدم وصفك له، فأوقفني حقيقة علمك بها على زلله وخطأ رأيه.

وقد أنعم الله علىّ بما أيّدني به منك، وعظّم عندي قدر ما جعلك الله له أهلًا وموضعًا من شرحك لما تقدم من نعته ووصفه، من أحوال الطبقات الثلاثة المتأولين، وما وقع لهم من الخطأ في القصد والميل بالعلم إلى غير منهجه، وإلى الانحراف فيه عن سواء السبيل وقد احتجت أن تصف لي العاملين لله تعالى بحقيقة * العلم القائمين بحقه، الصادقين فيما حملوا منه وفيما قلدوه من تأديته، الممدوحين بنشره وبما نقلوا إلى من دونهم منه ؛ والمحتسبين في تعليمهم الناس على صحة الإرادة وصلاح (25) النية وجميل السيرة، الذين لم تمل بهم الأطماع ولم يفتنهم الاختداع، ولم تعرج بهم الأهواء، ولم تسترقهم إرادات النفوس ؛ ولم تعطف بهم الدنيا ؛ ولم يجر عليهم الزلل والخطأ، وكانوا في ذلك كله على صحة المعنى.

قال الحكيم: ابشر بما فتح الله تعالى لك من باب السؤال، ويسرك له من صحة المقال، فإن ذلك إن شاء الله تعالى سبب لك إلى ركوب الأعمال ومباشرة في حقيقة قصدك، واجعل توسلك إلى الحكمة واستدعائك جميل الأفعال، ومؤديًا لما أؤمله لك إلى تمهيد صدقك، فأخلص (26) الإرادة لله تعالى. ما تحب منها تحصين سرك من العلل المانعة عنها ؛ وأصلح الضمير بإجمامه لما يجب لها، فإن الحكمة لمن اشتملت عليه فيها الرغبة، واستولت على خالص سره المحبة، أشد عطفًا وحنينًا وميلًا من الأم الشقيقة (27) والأب الرفيق.


وكأني مع ذلك أرى سحابًا من العلم غدقة منبسطة عليك، مونقة قد أظلك غمامها، وقويت لك الآمال باستتمامها، فاستمطر (28) الغيث الكائن فيها بدوام الوقوف بحضرة فنائها، وأدم الاستغاثة بمنزّل الغيث ومنشر السحاب وكاشف الضر ومعتق الرقاب ؛ واعلم أنه جل ثناؤه يحيي بقطرة من غيث رخمته، موات ما أنزلها عليه من بريته ؛ فتحرّى (29) طلب الحياة تكون السقيا، فإن أوائل تلك الغمام توجدك الشفا، وإن غدق ما بها يغسل عن سرك الميل إلى الدنيا، ومباشرته بجسمك * يغسل عنك سائر الأدواء، وذوقك لسائغ طعمه يميت من نفسك الهوى.

وأعلم أن الله تعالى إذا أراد عبدًا سهل له السبيل ووطأ له التثقيل (30) وأسرع به في الترحيل وبلّغه المنزل الفضيل ومنحه الحظ الجزيل. وإني أؤملك من الذي عرضك لنجح السؤال وصحيح القصد في المقال أن يبلغك بفضله عليك ورحمته إياك، منازل المنتجبين من أوليائه، والأصفياء المستخلصين من عباده.

وأنا واصف لك إن شاء الله تعالى ما سألت عنه، من نعت أهل الحقائق من أهل العلم، العاملين به، الصادقين في القصد إليه، المجتهدين في إقامة حقه، المريدين للعلم لما وجب عليهم منه، والذين لم تفتنهم فيما قصدوه أطماع الدنيا، ولم تمل بهم عن الأخذ بحقيقته، ولم يستفزهم الغواة من الأعداء، « أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ » (31) أعلم أن ما أوتي (32) المحققين من أهل العلم من العمل في أول الطلب إصلاح النية وصحة المراد والموافقة فيه للنفوس فيما بدا من إرادة الطلب، فلم يبيحوا أقدامهم السعي، ولم يتحركوا في ذلك بالجوارح، إلا من بعد ما أحكم جميل النظر لهم بالانبساط فيه ؛ فسهوا فيه على أصل ما أدبهم العلم في أول الأمر، ومضوا على صحة الحال وشهادة العلم بذلك ؛ وألزم صحة ما يبدؤ (33) به الحق قلوبهم، الإشفاق والحذر والتقية، فضمّهم وجود ذلك، وألزمهم حصر الجوارح وضبط السرائر ودوام الصمت، وخافوا مع ذلك أن يكونوا قد قصروا عن واجب حق السعي في طلب العلم، واشتد تحصيلهم على النفوس، وصحبهم جميل الذكر ودوام الفكر * في مواطن السعي فحماهم ذلك عن الانبساط عن معاشرة الطالبين له، والساعين معهم فيه فكانوا بحال والحاضرين معهم بحال، كلما بدا من غيرهم لغو أعرضوا، وكلما بدا من سواهم غفلة أو لعب خافوا وحذروا، وكلما ظهر لهم من غيرهم مزعج يجري إلى تأكيد حالهم وتشديد ضبطهم لما عليهم يدعون لمن حضرهم بالسلامة، ويحبون لهم الصلاح والاستقامة، لا يؤذون الناس ولا يحقرونهم ولا يغتابونهم ولا يذمونهم، بل يشفقون عليهم إذا رأوا منهم الزلل، ويدعون لهم إذا بدا منهم الخلل، يعرفون المنكر وينكرونه ويتجنبونه، ويعرفون المعروف ويحبونه ويستعملونه، لا يزدرون المقصّرين لكثرة وجوده، ولا يغمصون (34) مَن دونهم لما به من حالهم حمدوه، بل يعرفون ذلك بدلالة العلم عليه، ولا يخفى عليهم من القوم ما نسبهم الحق إليه. فصواب ذلك وخطؤه لهم بالعلم مميز (35) والسلامة من رؤية مكروه ذلك لهم صاحب (36)، وفيما ألزمهم الإشفاق والتقوى شاغل (37) ولهم على طلب العلم مقبل (38)، ألسنتهم بحمد ربهم عند سماع العلم ناطقة، وقلوبهم إلى اعتقاد العمل به مبادرة، وآذانهم بحسن الإصغاء إليه سامعة، وأبدانهم بالخدمة لله تعالى ساعية، أحسنوا على جميل السيرة جمعه، وبالوفاء بفضل الله تعالى عليهم فهمه، ولم يزالوا بدوام السعي إليه وشدة الإقبال عليه وبكثرة اللزوم لمن العلم حاضر لديه، حتى أخذوا منه بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر، فلما بلغوا منه إلى ما به يستعينون، وغاية ما إليه يحتاجون، وبحقائقه في سائر الأوقات يعملون، رجعوا إلى تفتيش ما كتبوا وإلى البحث عما منه طلبوا، فكان مانعًا لهم من السعاية (39) جامعًا لهم إلى الخلوة بالعبادة، ووقفت بالناس إليهم الحاجة، وعرف موضعهم بجميل الإرادة وعرف * أماكنهم من العلم ؛ وشرفت أحوالهم من الفضل، وانبسط ذلك ونشأ وظهر ذلك وبدا، فمن بين خال بعلمه متشاغل عن الخليقة بعبادته مؤثر (40) للعمل فيما فتح الله تعالى عليه منه، ولا يريد بإدامة الخدمة لله تعالى بدلًا، ولا بالخلوة بما فتح الله تعالى له من ذلك حولًا ؛ ومن بين من حضرته في نَشرِهِ العلم النية، وقويت له على تعليمه العزيمة، وسنحت له في ذلك رؤية الفضيلة، فانبسط في نشر العلم محتسبًا، وكان في العمل لله تعالى بذلك مخلصًا، يرغب إلى الله عزّ وجلّ في جميل الثواب، ويؤمّل من الله تعالى جميل العائدة في المآب، مصحوبًا (41) في ذلك بمصادفة الصواب، إذا قال نطق بقوة العلم، وإذا سكت سكت بوقار الحلم، وإذا قصد إلى البيت قّرب منال الفهم، إذا كثروا عليه أحب نفعهم، وإذا تفرقوا عنه نصحهم، يؤدي إليهم ما حمل من العلم بلسان فصيح وبيان صحيح، بقلب نصوح وقول صادق، ولا يعجل على من جهل، ولا يكافئ من زلّ وأخطأ، ولا يواقف بالمرآءة (42) أحدًا، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتجاوز عمن يتعدى عليه، لا يريد على شيء من أعماله من الخلق أجرًا، ولا يميل إلى مَدحةٍ ولا ثناء، يجتهد لله تعالى في إخلاص إعماله ويريد وجهه بجميل أفعاله، لا يقبل الدنيا ممن يبذلها له، ولا يُعّرج على من انبسط بها إليه، يضع الدنيا حيث وضعها خالقها، ويغنيه منها ما قسمه له رازقه، لا يشغل منها بما يزول، ولا يعمل فيها بما لا يدوم، منصرف بقلبه عن زينتها، منحرف عن كل ما دعى إليها من بهجة رونقها، يكفيه ما قلّ وصفًا، ويجزيه ما سلم واستوى.

يقف منها عند الشبهات، وينصرف عن الأمور المشكلات، بل هو للحلال البين تارك، وفي الأخذ لما لابد منه * مقتصد، قد آثر فيها وفي كل ما دعى إليها الزهادة، ولزوم الكَدّ والعبادة.

يرحمُ مَن مَالَ برغبته إليها ويرثي لمن أقبل بطلبه عليها، لا يراها حظًا لمن طلبها، ولا ثمنًا لسعي من اشتغل بها، ينظر إليها بعين زوالها، وبِقرب انتقالها، فهذا محل الدنيا عنده، ومكانها في العلم بها لديه، وهو مع ما وصفته لك دائم العزلة، كثير الخلوة، متصل الجد والخدمة، يجد راحة قلبه وقرة عينيه وسرور فؤاده، فيما خلص من صالح العمل إلى سيده، وَأمّل عائدة ثوابه في معاده. فإذا ظهر للناس في وقت اجتماعهم عليه، وطلبهم للعلم العتيد لديه، ظهر بجميل النية وصحيح الإرادة ؛ فكان ذلك عنده بعض الأعمال المقربة الصالحة، فهو لا يخلو من حال هو بها في الخلوة متعبدًا، وإلى الله تعالى فيما يقرب إليه مجتهدًا، ومن حاله أن تكون قد حضرته النية. ويبرز للخلق فيكون لعلمه ناشرًا، ولهم مما علمه الله تعالى معلمًا. والوجل والخوف من الله عزّ وجلّ في أحواله، والحذر والإشفاق دائمًا لا يفارقه، يقوم بشرائط علمه، ويعدل في قوله وحكمه، هو من أقوم الناس بالأحكام وأعلمهم بالحلال والحرم، وأبصرهم بشرائع الإسلام، يقع على آثار المرسلين، ويتبع سنن الأولياء والصالحين، لا يميل إلى بدعة، ولا يقصر عن الأخذ بالسنة، بعلم بارع محكم قوي، وحال واضح بَيّن مُستو (43)، متوسط بجميع المذاهب، متحري لَأقومَ الآراء، لا يميل إلى الكلام، ولا يخطر به منه اهتمام، لا يطعن على الأئمة ولا يذمها، ويحب لها من الصلاح ما يعمّها، يرى السمع والطاعة ولا ينزع يدًا من جماعة، يرى أنّ الخروج على الأئمة من فعل الجهلة الفاسقين، والغواة المارقين، الذين يريدون الفتن، ويبتغون الفساد في الأرض، أولئك العداة والفساق والظلمة الُمرَّاق، الذين سلكوا غير سبيل الهدى، واستصحبوا الغواية والرَّدى، * ومالوا بالفتنة إلى الدنيا. وقد رفع الله عزّ وجلّ عن ذلك أقدار العلماء وجعلهم أئمة هداة نصحاء، أخيارًا أبرارًا أتقياء خلصاء سعداء نجباء سادة أجلة عظماء حلماء كرماء أولياء، جعلهم الله أعلامًا من الحق منشورة ومنارًا للهدى منصوبة، ومناهج للبرية مضروبة، أولئك علماء المسلمين وأمناء المؤمنين وأجلة المتقين، فيهم في نوائب الدين يُقتَدَى، وبنورهم في ظلمات الجهل يُهتدى، وبضياء علمهم في الظلماء يُستضئ، جعلهم الله عزّ وجلّ رحمة لعباده، وبركة على من شاء من بَرِيتّهِ، يَعلَم بهم الجاهل ويَذكرُ بهم الغافل، ويرشد بهم السائل، ويعطي بهم النائل، ويزيد بهم العامل، ويبلغ بهم إلى المحل الفاضل، ويحث بهم الراحل، ويمكن بهم القوي الكامل ؛ أولئك الذين عمروا بالذكر لله تعالى أعمارهم. وقطعوا بالعمل الفاضل الزكيّ آجالهم، وبقوا بذلك للخليقة محمود آثارهم، ووضحت للبرية ضياء أنوارهم، فمن اقتبس من سنا نورهم استضاء، ومن قفا على آثارهم اهتدى، ومن أتبع سير ما هم عليه سعد، ولم يشق، أحياهم الله تعالى حياة دائمة, ويتوفاهم وفاة سالمة، وأنسوا بما قدموا به إلى الآخرة ؛ جعل الله خواتم أمورهم أفضلها، وأحوالهم التي قبضوا عليها أجملها.

وبعد أيها السائل عن نعت المحققين من العلماء العاملين بالعلم في مدة البقاء، فقد وصفتُ لك بعض أحوالهم ونَعَتُ لك كثيرًا من جميل أفعالهم، ولو أردتُ بلوغ الاستقصاء لوصفهم، وذكر ما يستحقونه من نعتهم، لطال بذلك كتابي، واتسع به جوابي، وفيما أجري لله تعالى ذكره من ذلك كفاية لمن اهتدى، وبلاغ لمن عمل بما هو أولى.

قال العالم للحكيم: أيها الأستاذ العطوف (44) الرحيم والمعلم الناصح الحكيم، لقد أزعجت بوصفك * للقوم قلبي، ومَلأتَ بالخيفة صدري، وعرفتُ بذلك موضعي وقدري، وخفتُ أن يعجز عن حمل ما عرفته صبري، لما بينته من شدة تقصيري، ودوام تخلفي، فاحتقرت عند المعرفة نفسي، وأيقنت بَلِيتّي ونقصي، فكيف لي بما أكون به من ذل التخلف خارجًا، وعن مذموم أخلاق نفسي راحلًا، وفي أوائل طريق القوم داخلًا، فإني أرى الوقوف عن ذلك مأثمًا، والبقاء مع الحال التي أنا عليها مغرما.

قال الحكيم: لقد سألت عن شأن عظيم وأمر عالم جسيم، يسهل على العاملين بفضله ركوب الأهوال في طلبه، وحمل الأثقال والتغرب من الأوطان، والخروج عن الأموال، وقلّ من قويت فيما عند الله تعالى رغبته، إلا سهل عليه بذل بدنه ومهجته، ولم يعظم عليه شيء في بلوغ بغيته.


فكن أيها السائل عن منازل النجباء ودرجات العلماء وأحوال الأئمة العظماء المُقَفّين على آثار الأنبياء، على ترك لكل سبب عن منهاج القوم يعطفك عن سبيل الهداية والرشد ويمنعك.

فكن إلى الله تعالى راغبًا فيما إليه يرفعك، واعلم أن ملاحظتك بالرغبة إلى ما قلّ من الدنيا أو كثر، حجاب لك عن الآخرة، وعلة على ملاحظتك في حين نفاذ البصيرة ؛ فنحّ عن ملاحظة الضمير ما يورثك رؤيته النقص والتقصير، وصفّي الضمائر وطهر السرائر بتجريد الاعتزام وإجمام الاهتمام، تفردًا منك بماله قصدت، وفي إدراكه رغبت، فإن في إصلاحك لما بطن من سرك إحكام لما أعلن وظهر من جهرك. فإياك أن تميل إلى شيء وإن قل خطره، فيميل بك عن محمودٍ وضح لك أمره، فإن أغبن الغبناء من باع كثير ما يبقى، بقليل ما يغني، ومن شغل نفسه عن أمور الآخرة بأمور الدنيا. واجعل أيها الرجل الطالب لفضل الأحوال والمذاهب أول ما تبدأ من عملك، وتقرب بفعله إلى ربك، الزهد في الدنيا والإعراض عن كل ما مالت إليه النفس من قليل أو كثير، فإن قليل ما ملت به إليها، يأخذ من سرك * ويشغل من قلبك ويعترض على ذكرك ؛ وعلى قدر قوة ما معك من مواد القليل منها وضعف، كذلك تكون قوة المعترض منه وضعفه، وعلى حسب الواقع من ذلك يحتجب عنك فهم ما قصدت الهمة، وإنما تؤثر الأعمال وتحصن القلوب، إذا انقطعت عوارض الدنيا عنها، فإذا اعترض منها شيء وإن قل، فهو المراد والعمل معًا، وكان ذلك يبعد المحاضر والأفهام، ويوقف الحال عن لحوق الاستتمام، فأحذر ما عاطفك منها، ومال بك وإن قل قدره إليها، تخلص (45) بتخلصك من ذلك إلى سويّ الحال وصحة الفعل والمقال.

فقال له العالم: وضعتُ لنصحك خدي، وجمعتُ له همي وفرغتُ له قلبي وتبينت فيه رشدي، وقد أمّلتُ برشد هدايتك وحقيقة دعايتك وصدق مناصحتك، أن يبلغني الله تعالى إلى كل ما أؤمِله وغاية ما أطلبه وقد رأيت ينابيع الحكمة الجارية من مكنون سرك على لسانك، واصلة إلىّ ببعض ما تقصدني به، وقد ذقت سائغًا من مائه، فأوجدني انتعاشُ تبينه محبة نفعك لي به، فزدني منه ما تقوى به الحياة الباعثة لي، من موت ما مضى من الحال، إلى مستقبل ما وقع من الانتقال، فإني لم أجد شيئًا أرجع به فيك إلى الله تعالى، إلا مناجاتي له بجميل مجازاتك عني ومكافأة لك بما هو له أهل وولي، وبعد إيقاظك لي أيها الحكيم من رقدة الغفلة، وإنباهك لي من وسن السهو والسنة، فقد وجدت (46) استقلالًا إلى استدراك الفهم عنك، يحملني ما وجدت منه إلى العمل ببعضه، ووجدت مطالعات ما بقي عليّ من التقصير، يزجرني عن الوقوف عنها لمحكم بيان وعلم إيقان، فأما ما بين ما سنح من تيسير الله تعالى للعلم، وبين ما نبه العلم عليه من النهوض إلى ما بقى .
...
المصدر : كتاب رسائل الجنيد

أحدية الجمع


أحدية الجمع




حضرة أحدية الجمع، ومرتبة أحدية الجمع. والمراد بذلك: أول تعينات الذات، وأول رتبها، الذي لا اعتبار فيه لغير الذات فقط، كما هو المشار إليه بقوله (ص): «كان الله ولا شيء معه»[(7)]، وذلك لأن الأمر هناك، أعني في مرتبة أحدية الجمع وحداني، إذ ليس ثمَّ سوى ذات واحدة مندرج فيها نسب واحديتها، التي هي عين الذات الواحدة. فهذه النسب وإن ظهرت بصور الأوصاف في المرتبة الثانية التي هي حضرة تفصيل المعلومات، وتميزها، إنما يجمعها وصفان هما: الوحدة والكثرة، ولكونهما صورتي نسبتين من نسب الذات الجامعة المجتمعة غير المفرقة، والمتفرقة لم تكن التفرقة الحاصلة بهذين الوصفين تفرقة حقيقية في نفس الأمر، فتصير تلك التفرقة مشتتة لشمل جمعية الذات، لأنهما نسب الذات في أول رتبها المحكوم فيه بنفي الغير والغيرية هناك، فهي أعنى تلك النسب والإضافات أوصاف محكوم بالتفرقة بينها وبين الموصوف بها في الرتبة الثانية.
فهي من حيث باطنها الذي هو شؤون الذات هي عين الذات، لا غيرها. إذ لا غيرية، ولا مغايرة هناك، لأنها ليست هي. ثَمَّ أوصافاً للذات بل هي عين الذات، فهذا هو مقام أحدية الجمع، الذي لا تصح فيه رؤية تفرقة بين الذات من حيث تعينها، وبينها من حيث إطلاقها، أو قل بينها من حيث حقيقة الحقائق، وبينها من حيث التجلي الأول لعلو هذا المقام الذي هو مقام أحدية الجمع.
وفرقيته على جميع مراتب التفرقة فرقية بها يصير الوصف والموصوف، أو قل الذات وشؤونها عين ذات واحدة بلا مغايرة ولا غيرية، ولهذا كان من ترقى سره عن التأثر بمراتب التفرقة والتقييد بثمراتها، والانحجاب برؤيتها إلى حضرة أحدية الجمع عند تمام حياته الحقيقية وعن جميع أحكام الكثرة والغيرية لم يبق من حقيقته شيء سوى هذه الحقيقة الأحدية.
وهو القائل:
«تحققت أنَّا في الحقيقة واحد»[(8)] الخ
وقوله:
«أنا من أهوى ومن أهوى أنا»[(9)]
وقوله:
«تحققت أني عين من أنا عبده»
وأمثال ذلك مما قد عرفت ما هو المراد به.
...
المصدر : كتاب لطائف الإعلام بإشارات أهل الإلهام  للإمام الكاشاني

الثلاثاء، 16 أبريل 2019

في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية

في معرفة الإنسان نفسه ومكاشفات الصوفية 




حدثنا شيخنا أبو النجيب السهروردي قال: أنا الشريف نور الهدى أبو طالب الزيني قال: أنا كريمة المروزية قالت أخبرنا أبو الهيثم الكشميهني قال: أخبرنا أبو عبد الله الفربري قال: أنا أبو عبد الله البخاري قال: حدثنا عمر بن حفص قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا زيد بن وهب قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نطفة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ تعالى إليه مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فيكتب عَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعمل أهل النار حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَاب فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيدخل النار».
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 12، 13]؛ أي: حريز؛ لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها، ثم قال بعد ذكر تقلباته: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: 14]، قبل هذا الإنشاء نفخ الروح فيه، واعلم أن الكلام في الروح صعب المرام، والإمساك عن ذلك سبيل ذوي الأحلام.
وقد عظم الله تعالى شأن الروح واسجل على الخلق بِقِلَّةِ العلم حيث قال: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].
وقد أخبرنا الله تعالى في كلامه عن إكرامه بني آدم فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]. وروي أنه لما خلق الله تعالى آدم وذريته، قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال: وعزتي وجلالي، لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلتُ له: كن، فكان، فمع هذه الكرامة واختياره سبحانه وتعالى إياهم على الملائكة لما أخبر عن الروح أخبر عنهم بقلة العلم. وقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85]. إلخ.
قال ابن عباس: قال اليهود للنبي عليه السلام: أخبرنا ما الروح؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ وإنما الروح من أمر الله، ولم يكن نزل إليه فيه شيء، فلم يجبهم، فأتاه جبرائيل بهذه الآية، وحيث أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخبار عن الروح وماهيته بإذن الله تعالى ووحيه، وهو صلوات الله عليه معدن العلم، وينبوع الحكمة، فكيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه؟ لا جرم لما تقاضت الأنفس الإنسانية المتطالعة إلى الفضول، المتشوفة إلى المعقول، المتحركة بوضعها بالسكون فيه، والمتسورة بحرصها إلى كل تحقيق وكل تمويه، وأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر، وخاضت غمرات معرفة ماهية الروح، تاهت في التيه، وتنوعت آراؤها فيه، ولم يوجد الاختلاف بين أرباب النقل والعقل في شيء كالاختلاف في ماهية الروح، ولو لزمت النفوس حدها معترفةً بعجزها كان ذلك أجدر بها وأولى.
فأما أقاويل من ليس متمسكًا بالشرائع فننزه الكتاب عن ذكرها؛ لأنها أقوال أبرزتها العقول التي ضلت عن الرشاد، وطبعت على الفساد، ولم يصبها نور الاهتداء، ببركة متابعة الأنبياء، فهم كما قال الله تعالى: ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101]، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5]، فلما حجبوا عن الأنبياء لم يسمعوا، وحيث لم يسمعوا لم يهتدوا، فأصروا على الجهالات، وحجبوا بالمعقول عن المأمول، والعقل حجة الله تعالى، يهدي به قومًا، ويضل به قومًا آخرين، فلم تنقل أقوالهم في الروح واختلافهم فيه.
وأما المستمسكون بالشرائع الذين تكلموا في الروح فقوم منهم بطريق الاستدلال والنظر، وقوم منهم بلسان الذوق والوجد لا باستعمال الفكر حتى تكلم في ذلك مشايخ الصوفية أيضًا، وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدب النبي عليه السلام.
وقد قال الجنيد: الروح: شيء استأثر الله بعلمه، ولا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود، ولكن نجعل للصادقين محملًا لأقوالهم وأفعالهم، ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة حيث حرم تفسيره وجوز تأويله؛ إذ لا يسع القول في التفسير إلا نقل. وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما تحتمل الآية من المعنى من غير القطع بذلك، وإذا كان الأمر كذلك فللقول فيه وجه ومحمل.
قال أبو عبد الله النوباجي: الروح: جسم يلطف عن الحس، ويكبر عن اللمس، ولا يعبر عنه بأكثر من موجود، وهو وإن منع عن العبارة، فقد حكم بأنه جسم فكأنه عبر عنه.
وقال ابن عطاء: خلق الله الأرواح قبل الأجساد؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ [الأعراف: 11]. يعني: الأرواح. ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف: 11]. يعني: الأجساد.
وقال بعضهم: الروح: لطيف قائم في كثيف، كالبصر جوهر لطيف قائم في كثيف. وفي هذا القول نظر.
وقال بعضهم: الروح عبارة، والقائم بالأشياء هو الحق. وهذا فيه نظر أيضًا إلا أن يحمل على معنى الإحياء.
فقد قال بعضهم: الإحياء صفة المحيي، كالتخليق صفة الخالق.
وقال: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85]. وأمره كلامه، وكلامه ليس بمخلوق، أي: صار الحي حيًّا بقوله: كن حيًّا. وعلى هذا لا يكون الروح معنى في الجسد.
فمن الأقوال ما يدل على أن قائله يعتقد قدم الروح، ومن الأقوال ما يدل على أنه يعتقد حدوثه، ثم إن الناس مختلفون في الروح الذي سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. فقال قوم: هو جبرائيل.
ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، ولكل وجه منه سبعون ألف لسان، ولكل لسان منه سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها، ويخلق من كل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
وروي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: إن الروح خلق من خلق الله، صورهم على صورة بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح.
وقال أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان، وليسوا بناس.
وقال مجاهد: الروح على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورءوس، يأكلون الطعام، وليسوا بملائكة.
وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقًا أعظم من الروح غير العرش، ولو شاء أن يبتلع السماوات والأرضين السبع في لقمة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة الآدميين، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش، والملائكة معه في صف واحد، وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترًا من نور أحرق أهل السماوات من نوره.
فهذه الأقاويل لا تكون إلا نقلًا وسماعًا بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا كان الروح المسئول عنه شيئًا من هذا المنقول فهو غير الروح الذي في الجسد، فعلى هذا يسوغ القول في هذا الروح، ولا يكون الكلام فيه ممنوعًا.
وقال بعضهم: الروح: لطيفة تسري من الله إلى أماكن معروفة، لا يُعَبَّر عنه بأكثر من موجود بإيجاد غيره.
وقال بعضهم: الروح: لم يخرج من كن؛ لأنه لو خرج من كن كان عليه الذل. قيل: فمن أي شيء خرج؟ قال: من بين جماله وجلاله سبحانه وتعالى، بملاحظة الإشارة خصها بسلامه، وحياها بكلامه، فهي معتقة من ذل كن.
(وسئل) أبو سعيد الخراز عن الروح: أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك ما أقرت بالربوبية حيث قالت: بلى. والروح هي التي قام بها البدن، واستحق بها اسم الحياة، وبالروح ثبت العقل، وبالروح قامت الحجة، ولو لم يكن الروح كان العقل معطلًا، لا حجة عليه ولا له. وقيل: إنها جوهر مخلوق، ولكنها ألطف المخلوقات، وأصفى الجواهر وأنورها، وبها تتراءى المغيبات، وبها يكون الكشف لأهل الحقائق، وإذا حجبت الروح عن مراعاة السير أساءت الجوارح الأدب، ولذلك صارت الروح بين تجلٍّ واستتار، وقابض ونازع.
وقيل: الدنيا والآخرة عند الأرواح سواء. وقيل: الأرواح أقسام: أرواح تجول في البرزخ، وتبصر أحوال الدنيا والملائكة، وتسمع ما تتحدث به في السماء عن أحوال الآدميين، وأرواح تحت العرش، وأرواح طيارة إلى الجنان، وإلى حيث شاءت على أقدرها من السعي إلى الله أيام الحياة.
وروى سعيد بن المسيب عن سلمان قال: أرواح المؤمنين تذهب في برزخ من الأرض حيث شاءت بين السماء والأرض حتى يردها إلى جسدها.
وقيل: إذا ورد على الأرواح ميت من الأحياء التقوا وتحدثوا وتساءلوا، ووكل الله بها ملائكة تعرض عليها أعمال الأحياء، حتى إذا عرض على الأموات ما يعاقب به الأحياء في الدنيا من أجل الذنوب، قالوا: نعتذر إلى الله ظاهرًا عنه؛ فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى.
وقد ورد في «الخبر» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْم الإثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله تعالى، ولا تؤذوا موتاكم».
وفي خبر آخر: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وأَقَارِبِكُمْ مِنَ الموتى، فَإِنْ كَانَ حسنًا اسْتَبْشَرُوا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا».
وهذه الأخبار والأقوال تدل على أنها أعيان في الجسد، وليست بمعانٍ وأعراضٍ.
(سئل) الواسطي: لأي علة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الخلق؟ قال: لأنه خلق روحه أولا، فوقع له صحبة التمكن والاستقرار، ألا تراه يقول: «كنت نبيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ». أي: لم يكن روحًا ولا جسدًا.
وقال بعضهم: الروح خلق من نور العزة، وإبليس من نار العزة؛ ولهذا قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]. ولم يدر أن النور خير من النار.
فقال بعضهم: قرن الله تعالى العلم بالروح، فهي للطافتها تنمو بالعلم كما ينمو البدن بالغذاء، وهذا في علم الله؛ لأن علم الخلق قليل لا يبلغ ذلك، والمختار عند أكثر متكلمي الإسلام أن الإنسانية والحيوانية عَرضان خُلِقَا في الإنسان والموت بعدمهما، وأن الروح هي الحياة بعينها صار البدن بوجودها حيًّا، وبالإعادة إليه في القيامة يصير حيًّا، وذهب بعض متكلمي الإسلام إلى أنه جسم لطيفٌ مشتبكٌ بالأجسام الكثيفة لاشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو اختيار أبي المعالي الجويني، وكثير منهم مال إلى أنه عرض، إلا أنه ردهم عن ذلك الأخبار الدالة على أنه جسم لما ورد فيه من العروج والهبوط والتردد في البرزخ، فحيث وصف بأوصاف دل على أنه جسم؛ لأن العرض لا يوصف بأوصاف؛ إذ الوصف معنى، والمعنى لا يقوم بالمعنى، واختار بعضهم أنه عرض.
(سئل) ابن عباس -رضي الله عنهما- قيل: أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال: أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان؟ قيل له: فأين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال: فأين تذهب لحمها إذا مرضت؟ وقال بعض من يتهم بالعلوم المردودة المذمومة وينسب إلى الإسلام: الروح تنفصل من البدن في جسم لطيف. وقال بعضهم: إنها إذا فارقت البدن تحل معها القوة الوهمية بتوسط النطقية، فتكون حينئذٍ مطالعة للمعاني والمحسوسات؛ لأن تجردها من هيئات البدن عند المفارقة غير ممكن، وهي عند الموت شاعرة بالموت، وبعد الموت متخلية بنفسها مقهورة، وتتصور جميع ما كانت تعتقده حال الحياة، وتحس بالثواب والعقاب في القبر.
وقال بعضهم: أسلم المقالات أن يقال: الروح شيء مخلوق، أجرى الله تعالى العادة أن يحيي البدن ما دام متصلًا به، وأنه أشرف من الجسد، يذوق الموت بمفارقة الجسد، كما أن الجسد بمفارقته يذوق الموت؛ فإن الكيفية والماهية يتماشى العقل فيهما، كما يتماشى البصر في شعاع الشمس. ولما رأى المتكلمون أنه يقال لهم: الموجودات محصورة؛ قديم وجسم وجوهر وعرض، فالروح من أي هؤلاء؟ فاختار قوم منهم أنه عرض. وقوم منهم أنه جسم لطيف كما ذكرنا. واختار قوم أنه قديم؛ لأنه أمر، والأمر كلام، والكلام قديم. فما أحسن الإمساك عن القول فيما هذا سبيله.
وكلام الشيخ أبي طالب المكي في كتابه يدل على أنه يميل إلى أن الأرواح أعيان في الجسد، وهكذا النفوس؛ لأنه يذكر أن الروح تتحرك للخير، ومن حركتها يظهر نور في القلب، يراه الملك فيلهم الخير عند ذلك، وتتحرك للشر، ومن حركتها تظهر ظلمة في القلب فيرى الشيطان الظلمة فيُقْبِل بالإغواء.
وحيث وجدت أقوال المشايخ تشير إلى الروح (أقوال) ما عندي في ذلك على معنى ما ذكرت من التأويل دون أن أقطع به؛ إذ ميلي في ذلك إلى السكوت والإمساك.
فأقول -والله أعلم-: الروح الإنساني العلوي السماوي من عالم الأمر، والروح الحيواني البشري من عالم الخلق، والروح الحيواني البشري محل الروح العلوي ومورده، والروح الحيواني جسماني لطيف حامل لقوة الحس والحركة، ينبعث من القلب أعني بالقلب ها هنا المضغة اللحمية المعروفة الشكل، المودعة في الجانب الأيسر من الجسد، وينتشر في تجاويف العروق الضوارب، وهذه الروح لسائر الحيوانات، ومنه تفيض قوى الحواس، وهو الذي قوامه بإجراء سنة الله بالغذاء غالبًا، ويتصرف بعلم الطب فيه باعتدال مزاج الأخلاط، ولورود الروح الإنساني العلوي على هذا الروح تجنس الروح الحيواني، وباين أرواح الحيوانات، واكتسب صفة أخرى فصار نفسًا محلًّا للنطق والإلهام.
قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧)  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7، 8]. فتسويتها بورود الروح الإنساني عليها، وانقطاعها عن جنس أرواح الحيوانات، فتكونت النفس بتكوين الله تعالى من الروح العلوي، وصار تكون النفس التي هي الروح الحيواني من الآدمي من الروح العلوي في عالم الأمر، كتكون حواء من آدم في عالم الخلق، وصار بينهما من التألف والتعاشق كما بين آدم وحواء، وصار كل واحد منهما يذوق الموت بمفارقة صاحبه.
قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189]. فسكن آدم إلى حواء، وسكن الروح الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني، وصيره نفسًا، وتكوَّن من سكون الروح إلى نفس القلب، وأعني بهذا القلب اللطيفة التي محلها المضغة اللحمية، فالمضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطيفة من عالم الأمر، وكان تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر كتكون الذرية من آدم وحواء في عالم الخلق، ولولا المساكنة بين الزوجين اللذين أحدهما النفس ما تكون القلب، فمن القلوب قلب متطلع إلى الأب الذي هو الروح العلوي ميال إليه، وهو القلب المؤيد الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه حذيفة رضى الله عنه قال: «الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ؛ قَلْبٌ أجْرَدُ فِيهِ سراج يُزْهِرُ، فذلك قلب المؤمن، وَقَلَبٌ أسود مَنْكُوسٌ، فذلك قلب الكافر، وَقَلَبٌ مربوط على غلافه، فذلك قلب الْمُنَافِقِ، وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ فيه إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الإِيمَانِ فِيهِ مثل الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ والصديد، فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَيْهِ حكم له بها»، والقلب المنكوس ميال إلى الأم التي هي النفس الأمارة بالسوء. ومن القلوب قلب متردد في ميله إليها، وبحسب غلبة ميل القلب يكون حكمه من السعادة والشقاوة.
والعقل جوهر الروح العلوي ولسانه والدال عليه، وتدبيره للقلب المؤيد والنفس الزكية المطمئنة تدبير الوالد للولد البار، والزوج للزوجة الصالحة، وتدبيره للقلب المنكوس والنفس الأمارة بالسوء تدبير الوالد للولد العاق، والزوج للزوجة السيئة، فمنكوس من وجه، ومنجذب إلى تدبيرهما من وجه؛ إذ لا بد له منهما.
وقول القائلين واختلافهم في محل العقل، فمن قائل: إن محله الدماغ. ومن قائل: إن محله القلب. كلام القاصرين عن درك حقيقة ذلك، واختلافهم في ذلك لعدم استقرار العقل على نسق واحد وانجذابه البار تارة، وإلى العاق أخرى، وللقلب والدماغ نسبة إلى البار والعاق، فإذا رؤي في تدبير العاق قيل: مسكنه الدماغ، وإذا رؤي في تدبير البار قيل: مسكنه القلب.
فالروح العلوي يهم بالارتفاع إلى مولاه شوقًا وحنوًّا وتنزهًا عن الأكوان، ومن الأكوان: القلب والنفس، فإذا ارتقى القلب إليه حنو الوالد الحنين البار إلى الولد، وتحن النفس إلى القلب الذي هو الولد حنين الوالدة الحنينة إلى ولدها، وإذا حنت النفس ارتقت من الأرض، وانزوت عروقها الضاربة في العالم السفلي، وانطوى هواها، وانحسمت مادته، وزهدت في الدنيا، وتجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، وقد تخلد النفس التي هي الأم إلى الأرض بوضعها الجبلي لتكونها من الروح الحيواني الجنس، ومستندها في ركونها إلى الطبائع التي هي أركان العالم السفلي.
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ [الأعراف: 176]. فإذا سكنت النفس التي هي الأم إلى الأرض انجذب إليها القلب المنكوس انجذاب الولد الميال إلى الوالدة المعوجة الناقصة دون الوالد الكامل المستقيم، وتنجذب الروح إلى الولد الذي هو القلب لِمَا جبل عليه من انجذاب الوالد إلى والده، فعند ذلك يتخلف عن حقيقة القيام بحق مولاه، وفي هذين الانجذابين يظهر حكم السعادة والشقاوة، ذلك تقدير العزيز العليم.
(وقد ورد) في أخبار داود عليه السلام أنه سأل ابنه سليمان: أين موضع العقل منك؟ قال: القلب؛ لأنه قلب الروح، والروح قالب الحياة.
(وقال) أبو سعيد القرشي: الروح روحان: روح الحياة، وروح الممات. فإذا اجتمعا عقل الجسم، وروح الممات هي التي إذا خرجت من الجسد يصير الحي ميتًا، وروح الحياة ما به مجاري الأنفاس، وقوة الأكل والشرب وغيرهما.
(وقال) بعضهم: الروح نسيم طيب يكون به الحياة، والنفس ريح حارة تكون منها الحركات المذمومة والشهوات. ويقال: فلان حار الرأس.
وفي الفصل الذي ذكرناه يقع التنبيه بماهية النفس. وإشارة المشايخ بماهية النفس إلى ما يظهر من آثارها من الأفعال المذمومة، والأخلاق المذمومة، وهي التي تعالَج بحسن الرياضة إزالتها وتبديلها، والأفعال الرديئة تزال، والأخلاق الرديئة تبدل.
(أخبرنا) الشيخ العالم رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني قال: أنا -إجازة- أبو سعيد محمد بن أبي العباس الخليلي قال: أنا القاضي محمد بن سعيد الفرخزادي قال: أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم قال: أنا الحسين بن محمد بن عبد الله السفياني قال حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن خالد بن زيد عن سعيد بن أبي هلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذا الآية: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9] وقف، ثم قال: «اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا».
(وقيل:) النفس: لطيفة مودعة في القالب، منها الأخلاق والصفات المذمومة، كما أن الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة، كما أن العين محل الرؤية، والأذن محل السمع، والأنف محل الشم، والفم محل الذوق، وهكذا النفس محل الأوصاف المذمومة، والروح محل الأوصاف المحمودة، وجميع أخلاق النفس وصفاتها من أصلين؛ أحدهما: الطيش. والثاني: الشره. وطيشها من جهلها، وشرهها من حرصها، وشبهت النفس في طيشها بكرة مستديرة على مكان أملس مصوب، لا تزال متحركة بجبلتها ووضعها، وشبهت في حرصها بالفَرَاش الذي يلقي نفسه على ضوء المصباح، ولا يقنع بالضوء اليسير دون الهجوم على جرم الضوء الذي فيه هلاكه، فمن الطيش توجد العجلة، وقلة الصبر، والصبر جوهر العقل، والطيش صفة النفس وهواها وروحها، لا يغلبه إلا الصبر؛ إذ العقل يقمع الهوى، ومن الشره يظهر الطمع والحرص، وهما اللذان ظهرا في آدم حيث طمع في الخلود، فحرص على أكل الشجرة.
وصفات النفس لها أصول من أصل تكونها؛ لأنها مخلوقة من تراب، ولها بحسبه وصف. وقيل: وصف الضعف في الآدمي من التراب، ووصف البخل فيه من الطين، ووصف الشهوة فيه من الحمأِ المسنون، ووصف الجهل فيه من الصلصال. وقيل: قوله: كالفخار فهذا الوصف فيه شيء من الشيطنة؛ لدخول النار في الفخار، فمن ذلك الخداع والحيل والحسد، فمن عرف أصول النفس وجبلاتها عرف ألَّا قدرة له عليها إلا بالاستعانة ببارئها وفاطرها، فلا يتحقق العبد بالإنسانية، إلا بعد أن يدبر دواعي الحيوانية فيه بالعلم والعدل، وهو رعاية طرفي الإفراط والتفريط، ثم بذلك تتقوى إنسانيته ومعناه، ويدرك صفات الشيطنة فيه، والأخلاق المذمومة، وكمال إنسانيته، ويتقاضاه ألَّا يرضى لنفسه بذلك، ثم تنكشف له الأخلاق التي تنازع بها الربوبية من الكبر والعز، ورؤية النفس والعجب، وغير ذلك فيرى أن صرف العبودية في ترك المنازعة للربوبية.
والله تعالى ذكر النفس في كلامه القديم بثلاثة أوصاف: بالطمأنينة قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]. وسماها: لوامة، قال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. [القيامة: 1، 2]. وسماها: أمارة. فقال: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]. وهي نفس واحدة، ولها صفات متغايرة، فإذا امتلأ القلب سكينة خلع على النفس خلع الطمأنينة؛ لأن السكينة مزيد الإيمان، وفيها ارتقاء القلب إلى مقام الروح لِمَا منح من حظ اليقين، وعند توجه القلب إلى محل الروح تتوجه النفس إلى محل القلب، وفي ذلك طمأنينتها. وإذا انزعجت من مقار جبلاتها ودواعي طبيعتها متطلعة إلى مقار الطمأنينة فهي لوامة؛ لأنها تعود باللائمة على نفسها لنظرها وعلمها بمحل الطمأنينة، ثم انجذابها إلى محلها التي كانت فيه أمارة بالسوء، وإذا أقامت في محلها لا يغشاها نور العلم والمعرفة فهي على ظلمتها أمارة بالسوء، فالنفس والروح يتطاردان، فتارة يملك القلب دواعي الروح، وتارة يملكه دواعي النفس.
وأما السر فقد أشار القوم إليه، ووجدت في كلام القوم أن منهم من جعله بعد القلب وقبل الروح. ومنهم من جعله بعد الروح وأعلى منها وألطف.
وقالوا: السر: محل المشاهدة، والروح: محل المحبة، والقلب: محل المعرفة، والسر: الذي وقعت إشارة القوم إليه غير مذكور في كتاب الله، وإنما المذكور في كلام الله الروح والنفس وتنوع صفاتها، والقلب والفؤاد والعقل، وحيث لم نجد في كلام الله تعالى ذكر السر بالمعنى المشار إليه، ورأينا الاختلاف في القول فيه، وأشار قوم إلى أنه دون الروح، وقوم إلى أنه ألطف من الروح.
فنقول -والله أعلم-: الذي سموه سرًّا ليس هو بشيء مستقل بنفسه له وجود، وذات كالروح والنفس، وإنما لما صفت النفس وتزكت انطلق الروح من وثاق ظلمة النفس، فأخذ في العروج إلى أوطان القرب، وانتزح القلب عند ذلك عن مستقره متطلعًا إلى الروح، فاكتسب وصفًا زائدًا على وصفته، فانعجم على الواجدين ذلك الوصف، حيث رأوه أصفى من القلب فسموه سرًّا، ولما صار للقلب وصف زائد على وصفه بتطلعه إلى الروح اكتسب الورح وصفًا زائدًا في عروجه، وانعجم على الواجدين فسموه سرًّا، والذي زعموا أنه ألطف من الروح روح متصفة بوصف أخص مما عهدوه، والذي سموه قبل الروح سرًّا هو قلب اتصف بوصف زائد غير ما عهدوه.
وفي مثل هذا الترقي من الروح والقلب تترقى النفس إلى محل القلب، وتنخلع من وصفها، فتصير نفسًا مطمئنة، تريد كثيرًا من مرادات القلب من قبل، إذ صار القلب يريد ما يريده مولاه، متبرئًا عن الحول والقوة والإرادة والاختيار. وعندها ذاق طعم صرف العبودية حيث صار حرًّا عن إرادته واختياراته.
وأما العقل فهو لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان.
وقد ورد في «الخبر» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: اقعد، ،فقعد ثم قال له: انطق، فنطق، ثم قال له: اصمت، فصمت، فقال: وعزتي وجلالي، وعظمتي وكبريائي، وسلطاني وجبروتي، ما خلقت خلقًا أحب إلي منك، ولا أكرم عَلَيَّ منك، بك أُعْرَف، وبك أُحْمَدُ، وبك أطاع، وبك آخذ، وبك أعطي، وإياك أعاتب، ولك الثواب، وعليك العقاب، وما أكرمتك بشيء أفضل من الصبر».
وقال عليه السلام: «لا يعجبكم إسلام رجل حتى تعلموا ما عقده عقله».
وسألت عائشة -رضي الله عنها- النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله، بأي شيء يتفاضلون الناس؟ قال: «بالعقل في الدنيا والآخرة». قالت: قلت: أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: «يا عائشة، وهل يعمل بطاعة الله إلا من قد عقل؟ فبقدر عقولهم يعملون، وعلى قدر ما يعملون يجزون».
وقال عليه السلام: «إن الرجل لينطلق إلى المسجد فيصلي، وصلاته لا تعدل جناح بعوضة، وإن الرجل ليأتي المسجد فيصلي، وصلاته تعدل جبل أحد، إذا كان أحسنهما عقلًا». قيل: وكيف يكون أحسنهما عقلًا؟ قال: «أورعهما عن محارم الله، وأحرصهما على أسباب الخير، وإن كان دونه في العمل والتطوع».
(وقال) عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى قسم العقل بين عباده أشتاتًا، فإن الرجلين يستوي علمهما وبرهما وصومهما وصلاتهما، ولكنهما يتفاوتان في العقل، كالذرة في جنب أحد».
(وروي) عن وهب بن منبه أنه قال: إني أجد في سبعين كتابًا أن جميع ما أعطي الناس من بدء الدنيا إلى انقطاعها من العقل في جنب عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم كهيئة رملة وقعت من بين جميع رمال الدنيا.
واختلف الناس في ماهية العقل، والكلام في ذلك يكثر، ولا نؤثر نقل الأقاويل، وليس ذلك من غرضنا، فقال قوم: العقل: من العلوم؛ فإن الخالي من جميع العلوم لا يوصف بالعقل، وليس العقل جميع العلوم؛ فإن الخالي عن معظم العلوم يوصف بالعقل. وقالوا: ليس من العلوم النظرية؛ فإن من شرط ابتداء النظر تقدم كمال العقل، فهو إذن من العلوم الضرورية، وليس هو جميعها؛ فإن صاحب الحواس المختلطة عاقل، وقد عدم بعض مدارك العلوم الضرورية.
وقال بعضهم: العقل: ليس من أقسام العلوم؛ لأنه لو كان منها لوجب الحكم بأن الذاهل عن ذكر الاستحالة والجواز لا يتصف بكونه عاقلًا، ونحن نرى العاقل في كثير من أوقاته ذاهلًا، وقالوا: هذا العقل صفة يتهيأ بها درك العلوم.
(ونقل عن الحرث) بن أسد المحاسبي -وهو من أجل المشايخ- أنه قال: العقل: غريزة يتهيأ بها درك العلوم، وعلى هذا يتقرر ما ذكرناه في أول ذكر العقل أنه لسان الروح؛ لأن الروح من أمر الله، وهي المتحملة للأمانة التي أبت السماوات والأرضون أن يحملنها، ومنها يفيض نور العقل، وفي نور العقل تتشكل للعلوم، فالعقل للعلوم بمثابة اللوح المكتوب، وهو بصفته منكوس متطلع إلى النفس تارة، ومنتصب مستقيم تارة، فمن كان العقل فيه منكوسًا إلى النفس فرقه في أجزاء الكون، وعَدِمَ حسن الاعتدال بذلك، وأخطأ طريق الاهتداء.
ومن انتصب العقل فيه واستقام تأيد العقل بالبصيرة التي هي للروح بمثابة القلب، واهتدى إلى المكون، ثم عرف الكون بالمكون مستوفيًا أقسام المعرفة بالمكون والكون، فيكون هذا العقل عقل الهداية، فكما أحب الله إقباله في أمر دله على إقباله عليه، وما كرهه الله في أمر دله على الإدبار عنه، فلا يزال يتبع محاب الله تعالى، ويجتنب مساخطه، وكلما استقام العقل وتأيد بالبصيرة كانت دلالته على الرشد ونهيه عن الغي.
(قال) بعضهم: العقل على ضربين: ضرب يبصر به أمر دنياه. وضرب يبصر به أمر آخرته.
(وذكر) أن العقل الأول من نور الروح، والعقل الثاني من نور الهداية. فالعقل الأول موجود في عامة ولد آدم، والعقل الثاني موجود في الموحدين مفقود من المشركين.
(وقيل:) إنما سمي العقل عقلًا؛ لأن الجهل ظلمة، فإذا غلب النور بصره في تلك الظلمة زالت الظلمة، فأبصر فصار عقالًا للجهل.
(وقيل): عقل الإيمان مسكنه في القلب، ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد. والذي ذكرناه من كون العقل لسان الروح، وهو عقل واحد، ليس هو على ضربين، ولكنه إذا انتصب واستقام تأيد بالبصيرة، واعتدل ووضع الأشياء في مواضعها، وهذا العقل هو العقل المستضيء بنور الشرع؛ لأن انتصابه واعتداله هداه إلى الاستضاءة بنور الشرع؛ لكون الشرع ورد على لسان النبي المرسل، وذلك لقرب روحه من الحضرة الإلهية ،ومكاشفة بصيرته التي هي للروح بمثابة القلب بقدرة الله وآياته، واستقامة عقله بتأييد البصيرة، فالبصيرة تحيط بالعلوم التي يستوعبها العقل، والتي يضيق عنها نطاق العقل؛ لأنها تستمد من كلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها.
والعقل ترجمان تؤدي البصيرة إليه من ذلك شطرًا، كما يؤدي القلب إلى اللسان بعض ما فيه، ويستأثر ببعضه دون اللسان؛ ولهذا المعنى من جمد على مجرد العقل من غير الاستضاءة بنور الشرع حظي بعلوم الكائنات التي هي من الملك، والملك ظاهر الكائنات، ومن استضاء عقله بنور الشرع تأيد بالبصيرة فاطلع على الملكوت، والملكوت باطن الكائنات، اختص بمكاشفته أرباب البصائر والعقول دون الجامدين على مجرد العقول دون البصائر.
وقد قال بعضهم: إن العقل عقلان: عقل للهداية مسكنه في القلب، وذلك للمؤمنين الموقنين، ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد، والعقل الآخر: مسكنه في الدماغ، ومتعمله في الصدر بين عيني الفؤاد، فبالأول يدبر أمر الآخرة، وبالثاني يدبر أمر الدنيا، والذي ذكرناه أنه عقل واحد إذا تأيد بالبصيرة دبر الأمرين، وإذا تفرد دبر أمرًا واحدًا وهو واضح وأبين.

...
المصدر : كتاب عوارف المعارف للإمام السهروردي

مفهوم البدعة


مفهوم البدعة







 أ.د. علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي جمهورية مصر العربية السابق

لمعرفة معنى البدعة ومفهومها الصحيح، لابد أن نتعرف على معناها في اللغة، وكذلك معناها في الاصطلاح الشرعي، ونبدأ بالمعنى اللغوي.

البدعة في اللغة :

هي الحَدَث وما ابْتُدِعَ من الدِّين بعد الإِكمال. ابن السكيت: البِدْعةُ كلُّ مُحْدَثةٍ. وأَكثر ما يستعمل المُبْتَدِعُ عُرْفاً في الذمِّ. وقال أَبو عَدْنان: المبتَدِع الذي يأْتي أَمْرًا على شبه لم يكن ابتدأَه إِياه. وفلان بِدْعٌ في هذا الأَمر أَي أَوّل لم يَسْبِقْه أَحد. ويقال: ما هو منّي ببِدْعٍ و بَديعٍ... وأَبْدَعَ وابْتَدعَ وتَبَدَّع : أَتَى بِبدْعةٍ، قال الله تعالى: ورَهْبانِـيَّةً ابْتَدَعوها ... وبَدَّعه: نسَبه إِلى البِدْعةِ. واسْتَبْدَعَه: عدَّه بَديعًا. والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: و المُبْدِعُ. و أَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْتُه لا على مِثال([1]).

البدعة في الشرع :

هناك مسلكان للعلماء في تعريف البدعة في الشرع؛ المسلك الأول : وهو مسلك العز ابن عبد السلام؛ حيث اعتبر أن ما لم يفعله النبي صلي الله عليه وسلم بدعة وقسمها إلى أحكام حيث قال : «فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى : بدعة واجبة, وبدعة محرمة, وبدعة مندوبة, وبدعة مكروهة, وبدعة مباحة, والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة : فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة, وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة, وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة, وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة, وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة»([2]).

وأكد النووي على هذا المعنى؛ حيث قال : «وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها : ما يكون حسنا، ومنها : ما يكون بخلاف ذلك»([3]).

والمسلك الثاني : جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة، فجعل البدعة هي المذمومة فقط، ولم يسم البدع الواجبة، والمندوبة، والمباحة، والمكروهة بدعًا كما فعل العز؛ وإنما اقتصر مفهوم البدعة عنده على المحرمة، وممن ذهب إلى ذلك ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - ويوضح هذا المعنى فيقول « والمراد بالبدعة : ما أحدث مما ليس له أصل في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة، وإن كان بدعة لغة »([4]).

وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة، وإنما الاختلاف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق عليه وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها هي التي ليس لها أصل في الشريعة يدل عليها وهي المرادة من قوله صلي الله عليه وسلم : «كل بدعة ضلالة»([5]).

وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء الأمة المتبوعين، فهذا الإمام الشافعي رضي الله عنه فقد روى البيهقي عنه أنه قال : « المحدثات من الأمور ضربان، أحدهما : ما أحدث مما يخالف كتابًا، أو سنة، أو أثرًا، أو إجماعًا فهذه بدعة الضلالة، والثاني : ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهذه محدثة غير مذمومة»([6]).

وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه : « ليس كل ما أبدع منهيا عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع »([7]).

وقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عن سلطان العلماء الإمام عز الدين ابن عبد السلام ـ حيث قال النووي : « قال الشيخ الإمام المجمع على جلالته وتمكنه من أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام - رحمه الله ورضي عنه - في آخر كتاب القواعد: «البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومباحة ... إلخ»([8]) وقال كذلك في مكان آخر في حديثه عن المصافحة عقب الصلاة -وسوف نفرد لها فتوى رقم 66 -: واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء, وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصل له في الشرع على هذا الوجه, ولكن لا بأس به, فإن أصل المصافحة سنة, وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال،وفرطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها»([9]).

وقال ابن الأثير « البدعة بدعتان : بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به رسوله صلي الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه فهو في حيز المدح .. ثم قال : « والبدعة الحسنة في الحقيقة سنة، وعلى هذا التأويل يحمل حديث : " كل محدثة بدعة " على ما خالف أصول الشريعة، ولم يخالف السنة»([10]).

وكذلك لابن منظور كلام طيب في البدعة في الاصطلاح حيث قال - رحمه الله - «البِدْعةُ بدْعتان: بدعةُ هُدى، و بِدعة ضَلال، فما كان فـي خلاف ما أَمر الله به ورسوله، فهو فـي حَيِزّ الذّمِّ والإِنكار، وما كان واقعًا تـحت عُموم ما ندَب الله إِلـيه وحَضّ علـيه أَو رسولُه فهو فـي حيِّز الـمدح، وما لـم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الـجُود والسّخاء وفِعْل الـمعروف فهو من الأَفعال الـمـحمودة.

ولا يجوز أَن يكون ذلك فـي خلاف ما ورد الشرع به؛ لأَن النبـي صلي الله عليه وسلم قد جعل له فـي ذلك ثوابًا فقال: مَن سنّ سُنّة حسَنة كان له أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها، وقال فـي ضدّه: مَن سَنَّ سُنّة سيئة كان علـيه وِزْرها ووِزْر مَن عَمِلَ بها، وذلك إِذا كان فـي خلاف ما أَمر الله به ورسوله، قال : ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه : نعمتِ البِدْعةُ هذه، لـمّا كانت من أَفعال الـخير وداخـلة فـي حيّز الـمدح سَماها بدعة ومدَحَها؛ لأَنَّ النبـي صلي الله عليه وسلم ، لـم يَسُنَّها لهم، وإِنما صلاَّها لَـيالِـيَ ثم تركها ولـم يحافظ علـيها ولا جمع الناس لها، ولا كانت فـي زمن أَبـي بكر؛ وإِنما عمر رضي الله عنه جمع الناسَ علـيها وندَبهم إِلـيها فبهذا سماها بدعة، وهي علـى الـحقـيقة سنَّة لقوله:علـيكم بسنّتـي وسنة الـخُـلفاء الراشدين من بعدي، وقوله: اقْتَدُوا باللذين من بعدي: أَبـي بكر وعمر، وعلـى هذا التأْويل يُحمل الـحديث الآخَر: كلُّ مُـحْدَثةٍ بدعة، إِنما يريد ما خالَف أُصولَ الشريعة ولـم يوافق السنة»([11]).

كيف تعامل العلماء مع مفهوم البدعة :

وتعامل جمهور الأمة من العلماء المتبوعين مع البدعة على أنها أقسام كما ظهر ذلك في كلام الإمام الشافعي، ومن أتباعه العز بن عبد السلام، والنووي، وأبو شامة. ومن المالكية : القرافي، والزرقاني. ومن الحنفية : ابن عابدين. ومن الحنابلة : ابن الجوزي. ومن الظاهرية : ابن حزم. ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز بن عبد السلام للبدعة وهو : أنها فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى بدعة واجبة ، وبدعة محرمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة([12]).

وضربوا لذلك أمثلة : فالبدعة الواجبة : كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله، وذلك واجب؛ لأنه لا بد منه لحفظ الشريعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والبدعة المحرمة من أمثلتها : مذهب القدرية، والجبرية، والمرجئة، والخوارج.والبدعة المندوبة: مثل إحداث المدارس، وبناء القناطر، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد. والبدعة المكروهة : مثل زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف. والبدعة المباحة: مثل المصافحة عقب الصلوات، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس. واستدلوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلة منها :

(أ) قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعة في المسجد في رمضان نعمت البدعة هذه. فقد روي عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر : نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل. وكان الناس يقومون أوله. ([13])

(ب) تسمية ابن عمر صلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة، وهي من الأمور الحسنة. روي عن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، فسألناه عن صلاتهم،فقال : بدعة» ([14]).

(ج) الأحاديث التي تفيد انقسام البدعة إلى الحسنة والسيئة، ومنها ما روي مرفوعا : «من سن سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » ([15]).

ومما سبق يتضح أن هناك رؤيتين رؤية إجمالية: وهي التي ذهب إليها ابن رجب الحنبلي رضي الله عنه وغيره، وهو أن الأفعال التي يثاب المرء عليها ويشرع له فعلا لا تسمى بدعة شرعًا، وإن صدق عليها الاسم في اللغة، وهو يقصد أنها لا تسمى بدعة مذمومة شرعًا، والرؤية التفصيلية وهي ما ذكره العز بن عبد السلام رضي الله عنه وأوردناه تفصيلاً.

ما ذُكر ينبغي للمسلم أن يحيط به في قضية باتت من أهم القضايا التي تؤثر في الفكر الإسلامي، وكيفية تناوله للمسائل الفقهية، وكذلك نظره لإخوانه من المسلمين، حيث يقع الجاهل في الحكم على الآخرين بأنهم مبتدعين وفساق والعياذ بالله بسبب جهله بهذه المبادئ التي كانت واضحة، وأصبحت في هذه الأيام في غاية الغموض والاستغراب، نسأل الله السلامة، والله تعالى أعلى وأعلم


([1]) لسان العرب، ج8، ص 6، مادة (بدع).


([2]) قواعد الأحكام في مصالح الآنام، للعز بن عبد السلام، ج2 ص 204.


([3]) فتح الباري، لابن حجر، ج2 ص 394.


([4]) جامع العلوم والحكم، صـ 223.


([5]) أخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص 310، ومسلم في صحيحه، ج2 ص 592.


([6]) رواه البيهقي بإسناده في كتاب " مناقب الشافعي " ، ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (9/113).


([7]) الإحياء لأبي حامد، الجزء الثاني، صـ 248.


([8]) تهذيب الأسماء واللغات الجزء الأول، صفحة 22، طـ الميرية.


([9]) النووي في الأذكار.


([10]) النهاية لابن الأثير ، الجزء الأول، صفحة 80، طـ المطبعة الخيرية بمصر.


([11]) لسان العرب، الجزء الثامن، صفحة 6.


([12]) قواعد الأحكام في مصالح الآنام، للعز بن عبد السلام، ج2 ص 205.


([13]) أخرجه البخاري في صحيحه ج2 ص 707.


([14]) أخرجه البخاري في صحيحه ج2 ص 630، ومسلم في صحيحه ج2 ص 917.


([15]) أخرجه ومسلم في صحيحه ج2 ص 705.

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...