الاثنين، 15 أبريل 2019

مقام الرجاء

بسم الله الرحمن الرحيم


مقام الرجاء





الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم....

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في تعريف الرجاء: (الرجاء: السكون لفضله تعالى بشواهد العمل في الجميع، وإلا كان اغتراراً) ["قواعد التصوف" ص74].

وقد حثنا الله تعالى على الرجاء ونهانا عن القنوط من رحمته فقال: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر: 53]

وقال تعالى مبشراً بسعة رحمته: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 155]

وقال تعالى في وصف الذين يرجون رحمته: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ} [البقرة: 218]

وجاء الحث على رجاء رحمة الله في كثير من الأحاديث الشريفة منها:

ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( والذي نفسي بيده لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم )) [أخرجه مسلم في كتاب التوبة]

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى)) [أخرجه مسلم في كتاب التوبة]

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفَه فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنْبَ كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول: رَبِّ أعرِفُ. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى صحيفة حسناته )) [أخرجه مسلم في كتاب التوبة، والبخاري في صحيحه في كتاب الرقاق. كنفه: ستره ورحمته].

والرجاء يختلف عن التمني، إذ الراجي هو الذي يأخذ بأسباب الطاعة طالباً من الله الرضى والقبول، بينما يترك المتمني الأسباب والمجاهدات، ثم ينتظر من الله الأجر والمثوبة ، فهو الذي قال في حقه عليه الصلاة والسلام : (( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )) [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن، وابن ماجه في كتاب الزهد. كلاهما عن شداد بن أوس رضي الله عنه].

إذ كل مَنْ رجا الله تعالى وطلبه، عليه أن يشمر عن ساعد الجد والاجتهاد بصدق وإخلاص حتى ينال مطلوبه، ولهذا قال تعالى معلماً طريق طلبه: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110].

فعلى العبد إن كان في ريعان شبابه مقارفاً للذنوب مطيعاً لنفسه الشهوانية أن يُغَلِّب جانب الخوف على الرجاء. أما إذا كان في نهاية عمره فعليه أن يُغَلِّب الرجاء كما قال تعالى في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي)) [خرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه].

وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل )) [رواه مسلم في كتاب الجنة باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى].

وإن كان العبد مقبلاً على ربه سالكاً طريق قربه فعليه أن يجمع بين مقامي الخوف والرجاء، لا يُغَلِّبُ الخوفَ على الرجاء حتى يقنط من رحمة الله تعالى وعفوه، ولا يُغَلِّبُ الرجاءَ على الخوف حتى يسترسل في مهاوي المعاصي والسيئات، بل يطير بهما محلقاً في أجواء صافية ؛ فلا يزال في قرب ودنو من الحضرة الإلهية، قد حقق صفة هؤلاء الذين وصفهم ربهم بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.. خوفاً من بعده، وطمعاً في قربه.. خوفاً من هجره وطمعاً في رضاه.. خوفاً من قطيعته وطمعاً في وصاله..

وليس الراجون بمرتبة واحدة، بل هم على مراتب ذكرها ابن عجيبة رحمه الله تعالى إذ قال: ((رجاء العامة حسن المآب بحصول الثواب، ورجاء الخاصَّة حصول الرضوان والاقتراب، ورجاء خاصة الخاصَّة التمكين من الشهود وزيادة الترقي في أسرار الملك المعبود)) [((معراج التشوف)) ص6]

مقام الصدق



مقام الصدق


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم

لا بد للمريد الطالب سلوكَ سبيل النجاة والوصول إلى الله تعالى من أن يتحقق بصفات ثلاث: الصدق والإخلاص والصبر، لأن جميع صفات الكمال لا يتحلى بها الإنسان إلا إذا كان متصفاً بهذه الصفات الثلاث، وكذلك لا تتم الأعمال إلا بها، فإذا فارقَتِ الأعمالَ فسدت ولم تنل القبول.

ولما كان الباعث على العمل الصالح والترقي في مدارج الكمال هوالصدق ؛ نبتدىء بالكلام عليه أولاً، ثم بالإخلاص ثانياً، ثم بالصبر ثالثاً.

لقد ذهب العلماء في تقسيم الصدق مذاهب شتى، فمنهم من أسهب في التفصيل والتفريع، ومنهم من سلك مسلك الاقتضاب والإيجاز.

فقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى للصدق معان ستة فقال: ( اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، صدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدِّيق:

1ـ صدق اللسان يكون في الإخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه. وقيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب.

2ـ صدق في النية والإرادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص ؛ وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى.

3ـ صدق في العزم على العمل لله تعالى.

4ـ صدق في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات.

5ـ صدق في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به.

6ـ الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد، والرضا والتوكل والحب) (( إحياء علوم الدين ج4/ص334)).

وأما القاضي زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى فقد ذكر للصدق محلات ثلاثة فقال: ( الصدق هو الحكم المطابق للواقع، ومحله اللسان والقلب والأفعال، وكل منها يحتاج إلى وصف يخصه، فهو في اللسان: الإخبار عن الشيء على ما هو عليه. وفي القلب: العزم الأكيد. وفي الأفعال: إيقاعها على وجه النشاط والحب. وسببه: الوثوق بخبر المتصف، وثمرته: مدحُ اللهِ والخلقِ للمتصف به) (( الرسالة القشيرية" ص97)).

ومفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللسان صدق القلب وصدق الأفعال والأحوال قال العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى في حواشي العقائد: ( الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السر والعلانية والظاهر والباطن بألاَّ تكذب أحوالُ العبد أعمالَه، ولا أعمالُه أحوالَه ((شرح رياض الصالحين لابن علان الصديقي. ج 1 ص 282))

فالصدق بمفهومهم هذا، صفة ينبعث منها العزم والتصميم والهمة على الترقي في مدارج الكمالات، والتخلي عن الصفات الناقصة المذمومة.

والصدق بهذا الاعتبار سيف الله تعالى في يد السالك يقطع به حبال العلائق والعوائق التي تعترض طريقه في سيره إلى الله تعالى، ولولاه لما استطاع أن ينطلق في مدارج الترقي ولكان معرَّضاً للوقوف والانقطاع.

قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: (إنَّ صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره ولا ربَّ سواه) ((طريق الهجرتين" لابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ ص223))

فإذا تحلى السالك بالصدق استطاع أن يسير بخطى سريعة نحو مراتب الإيمان العالية، إذ هو القوة الدافعة والمحركة، وهو الصفة اللازمة لكل مقام من مقامات السلوك إلى الله تعالى.

فأول مراحل السير هو صدق العبد في إنابته إلى ربه بالتوبة النصوح التي هي أساس الأعمال الصالحة، وأول درجات الكمال.

والصدق في تهذيب النفس الأمارة، يحقق النجاح الكبير في التخلص من أمراضها وشهواتها، ويطهر القلب من الخبائث حتى ينتهي إلى الإيمان الذوقي الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {ذَاقَ طَعمَ الإيمانِ...} (( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه، والإمام أحمد والترمذي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه)).

والصدق في محاربة الشيطان والتخلص من وساوسه يجعل المؤمن في نجاة من كيده وأمان من شره، كما يجعل الشيطانَ في يأس وقنوط من إضلاله وغوايته.

والصدق في إخراج حب الدنيا من القلب يحْملُ الإنسان على المجاهدة المستمرة بالصدقة والإيثار والتعاون الخيري، حتى يتخلص من حبها وينجو من سيطرتها على قلبه.

والصدق في طلب العلم تخلصاً من الجهل وتصحيحاً للعمل، يحمل الإنسان على الاستقامة والمثابرة، وتحمل المشاق وسهر الليالي كي ينال منه أوفر نصيب وأكبر قسط، وما نبغ العلماء إلا بصدقهم وإخلاصهم وصبرهم.

والصدق في العمل هو ثمرة العلم وغايته، إذ يجعل العبد في ارتقاء دائم، ويجعل علمه سبباً في كماله، ولا بد من إخلاص في ذلك، وإلا قد يدخل على السائر بعضُ العلل الموقفة له عن مطلوبه من حب الشهرة والسمعة والالتفات إليها...فالإخلاص في الصدق يزيل هذه الشوائب من طريق الغاية المنشودة وهي رضاء الله تعالى ومعرفته ومحبته.

ومن هنا تظهر أهمية الصدق وعظيم آثاره، ولذلك اعتبره الحق سبحانه أرفع الدرجات بعد النبوة والرسالة، قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: ((الصدق عماد الأمر و به تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة)). ((الرسالة القشيرية ص97))

قال الله تعالى:{ ومَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فأُولئكَ معَ الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهم من النَّبيِّينَ والصِّدِيقينَ والشهداءِ والصالحينَ وحسُنَ أولئكَ رفيقاً} ((النساء/69)) 

ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين أن يلازموا أهل الصدق ليستفيدوا من حالهم وينتفعوا من صدقهم فقال:

{يا أيها الذين آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا مع الصادقينَ }((التوبة/119))

ووصف الله تعالى الصادقين بالقلة، وأنهم الفئة المختارة من المؤمنين فقال: {مِنَ المؤمنينَ رِجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ))الأحزاب/23 ))

وقال معروف الكرخي رحمه الله تعالى مشيراً إلى قلة الصادقين: (ما أكثر الصالحين وأقل الصادقين في الصالحين!) (( طبقات الصوفي للسلمي ص87))

كما ندَّدَ الله تعالى بالمنافقين الذين لم يَصْدُقوا في إيمانهم وعهدهم مع سول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {فلو صدَقُوا اللهَ لكانَ خيراً لهُم} (( محمد/21))

وقد أخبر الله تعالى أن العبد يوم القيامة يجني ثمار صدقه، ويكون صدقه سبب نفعه ونجاته فقال: {هذا يومُ يَنْفَعُ الصادقينَ صِدْقُهُم} ((المائدة/119))

وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الصدق سبيلاً موصلاً إلى البر الذي يشمل كل الفضائل والكمالات التي تؤهل العبد لدخول الجنة، كما جعل دوام الاتصاف بالصدق مفتاحاً لنيل مرتبة الصدِّيقية فقال: {إن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البِر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصْدُقُ حتى يُكتَبَ عند الله صدِّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيَكذِبُ حتى يُكتبَ عند الله كذاباً}((أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب البر عن ابن مسعود رضي الله عنه))

وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسلام أن الصدق يثمر طمأنينة القلب وراحة الفكر، بينما يسبب الكذب حالات من القلق والاضطراب والشك وعدم الاستقرار، فقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة))(أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح).

وليس الصادقون بمرتبة واحدة، بل هناك الصادق، وأعلى منه الصِّديق. قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: (أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصِّدِّيق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله) ((الرسالة القشيرية/ص97)). 

ورتبة الصدِّيقية في نفسها مراتب متفاوتة، بعضها أعلى من بعض، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية، وشهد الله تعالى بذلك فقال{والذي جاءَ بالصِّدقِ وصدَّقَ به} ((الزمر/32))

ولا يعلو مقامَ الصديقية إلا مقامُ النبوة، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى، وهذا المقام تترادَفُ فيه الفتوحات وتعظم التجليات وتتم المشاهدات والكشوفات لكمال النفس وحسن صفائها.

الخلاصة:

إن من يعمر باطنه بالصدق والإخلاص، تجري حركاته وسكناته على حسب ما في قلبه ؛ فيظهر الصدق في أحواله وأقواله وأعماله، لأن من أَسَرَّ سريرة ألبسه الله رداءها.

قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى: {حقٍّ على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمَنْ كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار}((شرح رياض الصالحين لابن علان ج1/ص284))

فعليك أيها المريد أن تكون صادقاً في أقوالك لأن الكذب من صفات المنافقين. قال عليه الصلاة والسلام: {آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان} (أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال المناوي في شرح هذا الحديث: (النفاقُ ضربان: شرعي: وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وعرفي: وهو أن يكون سره خلاف علانيته، وهو المراد هنا). "فيض القدير شرح الجامع الصغير" ج1/ص63).

وكن صادقاً في طلب الوصول إلى الله تعالى، فالمقاصد العالية لا تُنال بالتشهي، لذلك قيل: (لا ينال الوصول من كان في قلبه شهوة الوصول) بل يناله بالجد والاجتهاد.

وعمّر قلبك بالصدق لتنبعث منه الهمة والنشاط في سيرك إلى الله تعالى.

وتحقق بالصدق إن قلت يا الله فالصدق وجهه مقبول

وعليك بالصدق في عهدك مع مرشدك ودليلك إلى الله تعالى حتى يكون ذلك عوناً لك على ترقيك وسرعة وصولك.

وكن صادقاً في موافقتك لربك أمراً ونهياً وفي اتباعك لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى تتحقق بالعبدية لله تعالى، فهي أُمنية السالكين لربهم في جميع مراتبهم ومقاماتهم.

مقام المحاسبة



بسم الله الرحمن الرحيم
 مقام المحاسبة






الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....

وهي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف عقبة أمامها في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص. وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم:(( الكِّيسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ اتْبع هواه ، وتمنى على الله الأماني)) .(رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة)

ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل ، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو البطالة ؟!

قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى : ( من الخشية تكون المحاسبة ، ومن المحاسبة تكون المراقبة ، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) (البرهان المؤيد للسيد أحمد الرفاعي رحمه الله ص56.)

وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني ؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته ، يطوي بطنه على الجوع ، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، و أنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا الماء ، قال صلوات الله وسلامه عليه: (( هذا من النعيم الذي تُسألون عنه)) (تفسير ابن كثيرج4/ص545موجزا).

أيٌّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه ، ويُُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة . أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف و الشعور الدقيق والتبعية الكبرى و المسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟

وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً ، وأنه لابد راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) ( رواه مسلم في كتاب الزكاة و الترمذي في كتاب صفة القيامة) .

وبالمحاسبة ينبثق من قلب الإنسان الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح ، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }(الذاريات:50) .

ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى ، مجيباً هواتف الغيب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} ( التوبة: 119).

وإنما القوم مسـافـرونـا..........لحضـرة الحـق وظـاعنـونـا

فآواهم المبيت في حضرته الكبرى ، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى:{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر:55)

قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده : ( الغفلة محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به ، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها ، والتضييق عليها يوجب نفرتها والرفق بها معين على بطالتها . فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون المحاسبة مع واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله : لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله)(قواعد التصوف للشيخ أحمد رزوق ص75)

مقام التوبة



بسم الله الرحمن الرحيم

مقام التوبة







الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....

التوبة: رجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وهي مبدأ طريق السالكين ، ومفتاح سعادة المريدين ، وشرط في صحة السير إلى الله تعالى.

قال تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) [النور:31]

وقال تعالى: (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) [هود:52]

وقال تعالى: ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) [التحريم:8]

وكان الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يجدد التوبة ويكرر الاستغفار تعليماً للأُمة وتشريعاً: عن الأغر بن يسار المُزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) : يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) (رواه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر).

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:( التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي ، فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يقلع عن المعصية.

والثاني: أن يندم على فعلها.

والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً

فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة : هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كان ] أي حق الآدمي[ حدَّ قذف ٍونحوه مكنه منه أو طلب عفوه،وإن كانت غيبة استحلَّه منها.ويجب أن يتوب من جميع الذنوب) (رياض الصالحين ص10).

ومن شروط التوبة ترك قرناء السوء ، وهجر الصحاب الفسقة الذين يحببون للمرء المعصية ، وينفرونه من الطاعة، ثم الالتحاق بصحبة الصادقين الأخيار ، كي تكون صحبتهم سياجاً يردعه عن العودة إلى المعاصي و المخالفات.

ولنا عبرة بالغة في الحديث الصحيح المشهور الذي روى لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة قاتل المائة الذي أرشده أَعْلمُ أهل زمانه إلى أن الله يقبل توبته ، واشترط عليه أن يترك البيئة الفاسدة التي كان لها الأثر الكبير في انحرافه وإجرامه ، ثم أشار عليه أن يذهب إلى بيئة صالحة فيها أُناس مؤمنون صالحون ليحبهم ويهتدي بهداهم.

والصوفي لا ينظر إلى صغر الذنب ، بل ينظر إلى عظمة الرب،إقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات . قال أبو عبد الله : يعني ذلك المهلكات) (رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرواق عن أنس رضي الله عنه) .

ولا يقف الصوفي عند التوبة من المعصية ، لأنها في رأيه توبة العوام ، بل يتوب من كل شيء يشغل قلبه عن الله تعالى ، وإلى هذا أشار الصوفي الكبير ذي النون المصري رضي الله عنه لما سئل عن التوبة فقال: ( توبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة) ( الرسالة القشرية- باب التوبة ص47) .

ويقول عبد الله التميمي رضي الله عنه: ( شتان بين تائب وتائب... فتائب يتوب من الذنوب والسيئات ، وتائب يتوب من الزلل و الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات ) ( الرسالة القشرية- باب التوبة ص47) .

واعلم أن الصوفي كلما صحح علمه بالله تعالى ، وكثر عمله دقت توبته؛ فمن طهر قلبه من الآثام والأدناس و أشرقت عليه أنوار الإيناس لم يخْفَ ما يدخل قلبه من خفي الآفات ، وما يعكر صفوه حين يهم بالزلات ، فيتوب عند ذلك حياء من الله الذي يراه.

ويستتبع التوبة الإكثار منه الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا يشعر الصوفي بالعبودية الحقة والتقصير في حق مولاه . فهو اعترف منه بالعبودية وإقرار بالربوبية.

يقرأ الصوفي في كتاب الله تعالى (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا* ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) [نوح:10-12]

وقوله تعالى: ( إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ماآتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل مايهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون ) [الذاريات:15-18]

يقرأ الصوفي هذه الآيات وغيرها ، فيذرف الدمع أسفاً على ما قصر في حياته ، وحسرة على ما فرط في جنب الله . ثم يلتفت إلى عيوبه فيصلحها وإلى تقصيراته فيتداركها وإلى نفسه فيزكيها ، ثم يكثر من فعل الطاعات والحسنات عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام : ((وأَتْبِعِ السيئة الحسنةَ تمحها)) .

قال الشيخ أحمد زروق في قواعده :( تعتبر دعوى المدعي نتيجة دعواه، فإن ظهرت ْ صحَّتْ ، و إلا فهو كذاب ، فتوبة لا تتبعها تقوى باطلة ، وتقوى لا تظهر بها استقامة مدخولة ، واستقامة لا ورع فيها غير تامة ، وورع لا ينتج زاهداً قاصر، وزهد لا يشيد توكلاً يابس ، وتوكل لا تظهر ثمراته بالانقطاع إلى الله عن الكل واللَّجَأِ إليه صورة لا حقيقة لها ، فتظهر صحة التوبة عند اعتراض المُحَرَّم،وكمالُ التقوى حيث لا مُطَّلِع إلا الله ، ووجود الاستقامة بالتحفظ على إقامة الورد في غير ابتداع ، ووجودُ الورع في مواطن الاشتباه فإن تَرَك فكذلك، و إلا فليس هنالك)

الأدب عند الصوفية

بسم الله الرحمن الرحيم

الأدب عند الصوفية





الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


المقدمة :

*ترتبط الأخلاق و القيم الإنسانية بالإسلام ارتباطاً وثيقاً نجده واضحاً في الحديث المشهور : {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} .

*كما يدلنا على مدى رفعتها عند الله ذلك الثناء الإلهي على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول سبحانه و تعالى له : ( و إنك لعلى خلق عظيم ).[القلم :4] ومما يدل على أهمية الأخلاق في الإسلام ما رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، و خياركم خياركم لنسائهم خلقاً } وعن أبي قلابة عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً و ألطفهم بأهله }.

*فهذان الحديثان يبينان أهمية الأخلاق و يضربان مثالاً يقاس به الإنسان في سلوكه الخلقي ليظهر صدقه فيما يظهر عليه من سيما التحلي بالفضائل الخلقية .
و قد قرر الحديثان أهمية الأخلاق و مكانها بما لا مزيد عليه من البيان إذ وجدنا الأخلاق مرتبطة بالإيمان و بهذا تقوم الأخلاق في الإسلام على أساس قوي متين يضمن لها التنفيذ في عالم الواقع لا أن تظل حلماً في الخيال إذ يستشعر المؤمن رقابة الله و إطلاعه على كل أمر فيراعي بضميره و قناعته ما يحققه و يجعله متصفاً بأحسن الأخلاق .


الأدب عند الصوفية رضي الله عنهم :
اتفق أهل الله قاطبة على أن من لا أدب له لا سير له ومن لا سير له لا وصول له .

* فبالأدب تطوى المسافة و يذهب عن المريد مافي الطريق من مخافة و الصوفية رضي الله عنهم و نفعنا بهم لا يعرفون و لا يتميزون إلا بالأدب .

*وقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله تعالى :( التصوف كله آداب لكل وقت آداب و لكل حال آداب و لكل مقام آداب فمن لزم الأدب بلغ مبلغ الرجال ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب مردود من حيث يظن القبول)

*وقال الثوري رحمه الله :( من لم يتأدب للوقت فوقته مقت ) .

*وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى:(نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم )
فتحصّل من هذا أن الصوفية كل أحوالهم أدب ، فلهذا كانت مؤانستهم لا تكون إلا به فيحسن للمريد إذا عاشرهم أن لا يقنع من الأدب لأنهم قالوا : ( اجعل عملك ملحاً و أدبك دقيقاً ) .

*وقد سئل الدقاق رحمه الله تعالى بماذا يقوم الرجل اعوجاجه ؟ فقال بالتأديب بإمام فإن لم يتأدب بإمام بقي بطّالاً فعلى من أراد الافتداء بهم أن يلزم الأدب في كل شيء فمن لزم الأدب معهم أخذ قلوبهم بأجمعها و ذلك عندهم مقياس على المريد إذا بالأدب يأخذون من ذلك للدخول على الله ، و كل من سقط من رتبته إلا بسبب إساءة أدبه .
و بالأدب الظاهر يحصل الأدب الباطن أعني التعظيم إذ سوء الأدب ينشأ عن عدم التعظيم و عدم التعظيم من ضعف المحبة و ضعف المحبة من التفات القلب إلى الغير فلو حصلت المحبة لحصل التعظيم ولو حصل الأدب لحصل التحقيق .

أنواع الأدب:

و أنواع الأدب كثيرة نذكر في هذا المقام ما هو آكد و بالله أستعين :

أولاً - الأدب مع الله عزَّ وجل :

* إطراق الرأس و غض الطرف .
* وجمع الهمّة.
* ودوام الصمت .
* و سكون الجوارح .
* و اجتناب النهي .
* و قلة الاعتراض على القدر .
* و دوام الذكر .
* و ملازمة الفكر .
* و إيثار الحق على الباطل .
* و الإياس من الخلق .
* و الخضوع تحت الهيبة .
* و الانكسار تحت الحياء .
* و السكون عن حيل الكسب ثقة بالضمان .
* و التوكل على فضل الله معرفة بحسن الاختيار .

ثانياً-الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا بد من التنبيه في هذا المقام من أنه صلى الله عليه و سلم حيٌّ في قبره الشريف حياة أقوى و أعظم من
حياة أهل الدنيا فالأدب معه صلى الله عليه و سلم لا يختلف في حال حياته أو بعد وفاته فحرمته صلى الله
عليه و سلم بعد وفاته كحرمته قبلها و كلامه المأثور عنه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته في الرفعة مثل
الكلام المسموع من لفظه صلى الله عليه و سلم ، فهكذا يجب الأدب في :
* إذا قرئ كلامه صلى الله عليه و سلم وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه و لا يعرض عنه أي يجب
الإصغاء إليه لقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول
كجهر بعضكم أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .
* المجلس الذي فيه حديث النبي صلى الله عليه و سلم هو مجلس معظم يجب فيه الأدب و الاحترام و لزوم
التوقير و التعظيم و يجب صيانة ذلك المجلس عن العبث و اللهو .
* عند قراءة سيرته الشريفة و بيان أوصافه و شمائله الحميدة و خصاله المجيدة و يدخل تحت هذا وجوب الأدب
و التكريم و الإصغاء وعدم اللغط عند قراءة مولده الشريف و عند سماع المدائح النبوية الشريفة فإن تلك
المجالس كلها يجب فيها الأدب معه صلى الله عليه و سلم .
* قال الإمام القسطلاني و غيره رحمهم الله تعالى إذا كان رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم
موجباً لحبوط العمل فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته و على ما جاء به صلى الله عليه وسلم ،
فالواجب على الآراء أن تكون تابعة لرأيه صلى الله عليه وسلم و على العقول أن تكون مسلِّمة لما جاء به
صلى الله عليه وسلم تسليماً مطلقاً.
* الإتباع و التسليم المطلق له صلى الله عليه وسلم دون توقف وذلك يكون بالاعتصام بكتاب الله عز وجل و
التمسك المطلق بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من أوامر و نواهي و أفعال .
* الإقتداء به صلى الله عليه وسلم وعدم التقدم عليه بأمر ما و أن التقدم عليه صلى الله عليه وسلم بقول
أو عمل فإنه أمر قبيح أشد القباحة كالذي يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم غير محترم ولا معظم له
صلى الله عليه وسلم .

ثالثاً-أدب المريد مع شيخه:

وهي نوعان :
أ -آداب باطنية :
1- الاستسلام لشيخه وطاعته في جميع أوامره و نصائحه استسلاماً لذوِ الاختصاص و الخبرة بعد مقدمات فكرية أساسية منها التصديق الراسخ بإذنه وأهليته واختصاصه وأنه جمع بين الشريعة و الحقيقة . وهذا يشبه تماماً استسلام المريض لطبيبه استسلاماً كلياً في جميع معالجاته و توصياته .
2- عدم الاعتراض على شيخه في طريقة تربية مريديه لأنه مجتهد في هذا الباب عن علم و اختصاص و خبرة .
3- أن لا يعتقد في شيخه العصمة فإن الشيخ و إن كان قد أكمل الحالات فليس بمعصوم إذ قد تصدر منه الهفوات و الزلات و لكنه لا يُصرُّ عليها و لا تتعلق همته أبداً بغير الله تعالى لأنه إذا اعتقد العصمة ثم رأى ما يخالف ذلك وقع في الاعتراض و الاضطراب مما يسبب القطيعة و الحرمان .
ولكن لا ينبغي عند ذلك أن يضع بين عينيه دائماً احتمال الخطأ في كل أمر من أوامر شيخه لأنه بذلك يمنع عن نفسه الاستفادة .
4- أن يعتقد كمال شيخه و تمام أهليته للتربية و الإرشاد وكوَّنَ هذا الاعتقاد بعد أن فتش و دقق بادئ أمره فوجد شروط الوارث المحمدي فيه .
5- أن يتصف بالصدق و الإخلاص في صحبته لشيخه .
6- تعظيمه وحفظه لحرمة شيخه حاضراً و غائباً .
قال سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى : (تتبعنا أحوال القوم فما رأينا أحداً أنكر عليهم ومات بخير ) .
7- محبته لشيخه بأعلى درجات الحب على أن لا يصل غلوّه في محبته لشيخه إلى حد فاسد و تتقوى محبته لشيخه بموافقته له أمراً و نهياً ، فالمريد كلما كبرت شخصيته بالموافقة ازدادت محبته .
8-عدم تطلعه إلى غير شيخه لئلا يتشتت قلبه بين شيخين ، و مثال ذلك كمثل المريض الذي يطبب جسمه عند طبيبين في وقت واحد فيقع في الحيرة و التردد .


ب -آداب ظاهرية :
1- أن يوافق شيخه أمراً و نهياً كموافقة المريض لطبيبه .
2- أن يلتزم السكينة و الوقار في مجلسه .
3- المبادرة إلى خدمته بقدر الإمكان فمن خَدَمَ خُدِمَ .
4- دوام حضور مجالسه و لذلك قيل : (زيارة المربي ترقي و تربي ) ، و السادة الصوفية رضي الله عنهم بنوا سيرهم على ثلاثة أصول [الاجتماع و الإتباع و الاستماع ] و بذلك يحصل الانتفاع .
5- الصبر على مواقفه التربوية كجفوته و إعراضه التي يقصد بها تخليص المريد من رعوناته النفسية وأمراضه القلبية .
6-أن لا ينقل من كلام شيخه إلى الناس إلا بقدر أفهامهم لئلا يسيء إلى شيخه و نفسه وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه :(( حدثوا الناس بما يعرفون أتحبوا أن يكذب الله و رسوله )).


رابعاً -آداب المريد مع إخوانه :

1- حفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين فلا يغتاب أحداً منهم و لا ينقص من قدرهم .
2- نصيحتهم بتعليم جاهلهم و إرشاد ضالهم و تقوية ضعيفهم .
3- التواضع لهم و الإنصاف معهم و خدمتهم بقدر الإمكان إذ :( سيد القوم خادمهم )
4- حسن الظن بهم و عدم الانشغال بعيوبهم و وكل أمورهم إلى الله تعالى .
5- إصلاح ذات بينهم إذا اختلفوا أو اختصموا .
6- قبول عذرهم إذا اعتذروا .
7- الدفاع عنهم إذا أوذوا أو انتهكت حرماتهم .
8- أن لا يطلب الرئاسة و التقدم عليهم لأن طالب الولاية لا يولَّى .

خامساً -آداب المريد مع نفسه :

1- أن يلاحظ أن الله ناظر إليه و مطلع عليه في جميع أحواله فيشتغل بذكره سبحانه دائماً ماشياً كان أو
قاعداً وفي جميع أحواله لأنها لا تمنعه عن الذكر .
2- أن يترك أصحاب السوء و يجالس الأخيار فصحبة الأخيار تورث الخير و صحبة الأشرار تورث الشر ، قال صلى
الله عليه وسلم :{مثل الجليس الصالح و الجليس السوء كحامل المسك و نافخ الكير } .
و قال الشاعر :
الروح كالريح إن مرت على عطر...............طابت و تخبث إن مرت على جيف
3- ومنها ترك محبة الدنيا ناظراً إلى الآخرة لأن محبة الله لا تدخل قلباً فيه محبة الدنيا.
4- أن يصون نفسه عن لغو الحديث و قلبه عن جميع الخواطر فإن حفظ لسانه واستقام قلبه انكشفت له الأسرار.
5- ترك الإكثار من المزاح فإنه يميت القلب .
6-أن لا يستبطئ الفتح عليه بل يعبد الله لوجهه سواء فتح عليه ورفع الحجاب عنه أم لا.

سادساً-آداب المريد مع الناس :

فالناس ثلاثة أصناف :
إما أصدقاء .
و إما معارف .
و إما مجاهيل .

أ- أما الأصدقاء :
1- أن يطلب شروط الأخوة و الصداقة فيهم فلا يؤاخِ إلا من يصلح لذلك ، فقد قال صلى الله عليه و سلم :{المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل } .
فإذا طلب صديقاً ليكون شريكاً له في أمر من أمور الدين أو الدنيا وجب أن يراعي فيه خمس خصال :
* العقل فلا خير في صحبة الأحمق .
* الصدق فلا يصحب كاذباً .
* حسن الخلق فلا يصحب من ساء خلقه .
* الصلاح فلا يصحب فاسقاً مصراً على معصية .
* أن لا يصحب حريصاً على الدنيا .
2- أن يعلم حقوق الصداقة و الصحبة فهناك حقوق يوجبها عقد الصحبة و الصداقة في القيام بها آداب منها :
* الإيثار بالمال .
* الإعانة بالنفس في الحاجات .
* كتمان السر و ستر العيوب و السكوت عما يسوءه من مذمة الناس .
* أن يدعوه بأحب الأسماء إليه .
* أن يدعوا له في خلوته .
* أن يحسن الوفاء مع أهله و أقاربه بعد موته .
* أن يؤثر التخفيف عنه فلا يكلفه شيئاً من حاجاته .
* أن يبدأ بالسلام عند إقباله و أن يوسع له في المجلس و يخرج له من مكانه و أن يشيعه عند قيامه .
*أن يصمت عند كلامه حتى يفرغ من خطابه .

ب- وأما المعارف :
* أن لا يستحقر منهم أحداً .
* أن لا ينظر بعين التعظيم لهم في حال دنياهم .
* فإن عادوه فلا يقابلهم بالعداوة .
* أن لا يكن إليهم في حال إكرامهم إياه .
* قطع الطمع في مالهم و جاههم و معونتهم .

ج- وأما المجاهيل :
* ترك الخوض في حديثهم .
*قلة الإصغاء إلى أراجيفهم .
* التغافل عما يجري من سوء ألفاظهم .
* التنبيه على منكراتهم باللطف و النصح عند رجاء القبول منهم .

سيدي محمد صفايا

فهرس المصادر و المراجع

1-الآداب المرضية لسالك طريق الصوفية:لسيدي محمد بن أحمد البوزيدي ،
2-بداية الهداية : للإمام الغزالي ، مكتبة ابن القيم / دمشق ، ط1 ،(1421-2000)
3-تفسير سورة الحجرات : للشيخ عبد الله سراج الدين ، مكتبة دار الفلاح /حلب ،(1413-1992)
4-تنوير القلوب : للشيخ محمد أمين كردي، دار الإيمان /دمشق ،(1413-1993)
5-حقائق عن التصوف : لسيدي عبد القادر عيسى ، دار العرفان /حلب ،(1421-2001)
6-سنن الترمذي : محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ،حققه : أحمد شاكر ، دار إحياء التراث /بيروت ،د.ت
7-السنن الكبرى للبيهقي :أحمد بن الحسين البيهقي ، حققه : محمد عبد القادر عطا ،مكتبة دار الباز /مكة المكرمة،(1414-1994)
8-صحيح ابن حبان :محمد بن حبان ، حققه :شعيب أرناؤوط ،مؤسسة الرسالة /بيروت ط2 ، (1414-1993) .
9-صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل البخاري ، حققه :د.مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير/بيروت ،(1407-1987)
10-صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج ، حققه : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث /بيروت ، د.ت
11-فيض القدير : عبد الرؤوف المناوي ،المكتبة التجارية الكبرى /مصر، ط 1 ،1356
12-في ظلال الحديث : د. نور الدين عتر، حقوق الطبع للمؤلف ،ط2 ،(1421-2000)
13-المستدرك على الصحيحين : للحاكم النيسابوري ، حققه : مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية/بيروت، ط 1 ، (1411-1990)
14-مسند أحمد: أحمد بن حنبل ،مؤسسة قرطبة /مصر .
15-المواد الغيثية : لسيدي أحمد بن مصطفى العلوي ،المطبعة العلاوية ،ط2 ،1999م
16-الموطأ : مالك بن أنس ، حققه : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي /مصر .

...

المصدر : موقع الطريقة الشاذلية الدرقاوية

سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم


نسبه

هو سيدي أحمد بن عمر الأنصاري المرسي الشاذلي المالكي المرشد المربي العارف بالله قطب الزمان وارث سر سيدي أبي الحسن الشاذلي وخليفته رضي الله عنهما.

اشتهر بكنيته أبو العباس وبلقبه المرسي نسبة إلى بلدة مرسية التي ولد فيها سنة 616 هجرية.

سلوكه

تلقى سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه التصوف على يد شيخه الصوفي الأشهر سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه الذي التقى به سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه في تونس في سنة 640 هجرية، بعدما تزوَّد بعلوم عصره كالفقه والتفسير والحديث والمنطق والفلسفة، وجاء أوان دخوله في الطريق الصوفي وتلقيه تاج العلوم : التصوف. وصحَّت صحبة سيدي أبى العباس رضي الله عنه لشيخه الشاذلي، وصار من بعده إماماً للطريقة الشاذلية، وكان قبلها قد تزوَّج بابنة شيخه. ومن المأثورات المروية عن سيدي أبى الحسن الشاذلي رضي الله عنه، الدالة على المكانة الروحية لتلميذه سيدي أبى العباس رضي الله عنه قوله: يا أَبَا العبَاَّسِ ؛ واللهِ ما صَحَبْتُكَ إِلاَّ لِتَكُـــونَ أَنْتَ أَنَـــا ، وأَنـَـا أَنْتَ .. يا أَبـَــا العَبَّـــاسِ؛ فِيكَ مَا فِى الأَوْلِيَاءِ، وَليْسَ فِى الأَوْليَاءِ مَا فِيكَ.
ومن مأثورات سيدي أبى الحسن الشاذلي رضي الله عنه التي اشتهرت بين الصوفية، عبر مئات السنين ، قوله: أبُو العبَّاسِ مُنْذُ نَفــَــذَ إِلى اللهِ لَمْ يُحْجَبْ، وَلَوْ طَلَبَ الحِجَابَ لَمْ يجـِــدْهُ.. وأَبُو العبَّاسِ بِطُرُقِ السَّمَاءِ، أَعْلَمُ مِنـْـهُ بِطُرُقِ الأَرْضِ!

كان سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول مفتخراً بسيدي أبو العباس يأتي الأعرابي إليه يبول على ساقيه فيخرج من عنده عارفاً بالله . يقول سيدي أبو العباس مفتخراً ومتحدثاً بنعمة الله عليه والله لو حجبت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيناي طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين . كان يقول رضي الله عنه والله ما سار الأولياء من قاف إلى قاف حتى يلقوا واحداً مثلنا فإذا رأوه كان يغنيهم . وكان يقول رضي الله عنه شاركنا الفقهاء فيما هم فيه ولم يشاركونا فيما نحن فيه فكان رضي الله عنه يتكلم في سائر العلوم وكل اللغات والألسن وكان لا يتحدث إلا في العقل الأكبر والاسم الأعظم والأسماء والحروف ودوائر الأولياء والمقامات والمقربين من العرش وعلوم الأسرار . وكان يقول رضي الله عنه وهو يمسك بلحيته ويقول لو علم علماء العراق والشام ما تحت هذه الشعرات لأتوها ولو على وجوههم . وكان يقول رضي الله عنه والله ما دخل بطني حرام أبداً وكان له ستون عرقا ينفض ويضطرب إذا اقتربت يده من طعام فيه شبهة وكان النور يتلألأ من بين أصابعه .

مُقامه في الاسكندرية

وفى سنة 642 هجرية، وصل سيدي أبو العباس رضي الله عنه مع شيخه الشاذلى قدس الله سره إلى الإسكندرية، واستقرا بحى كوم الدِّكة. وبلغ من زهده أنه أقام بالاسكندرية ستاً وثلاثين سنة ما رأى وجه واليها ولا أرسل إليه وطلبه الوالي للاجتماع فأبى . قال رضي الله عنه أطلعني الله عز وجل على الملائكة ساجدة لآدم عليه السلام فأخذت قسطي من ذلك ثم أشد يقول

ذاب رسمي وصح صدق فنائي وتجلت للسر شمس سمائي

و تنزّلت في العوالم أبدي ما انطوى في الصفات بعد صفائي

تولَّى سيدي أبو العباس رضي الله عنه مشيخة الطريقة الشاذلية بعد وفاة سيدي أبى الحسن الشاذلى رحمه الله سنة 656 هجرية وكان عمره آنذاك أربعين سنة. وظلَّ يحمل لواء العلم والتصوف حتى وفاته 686 هجرية، بعد أن قضى أربعةً وأربعين عاماً فى الإسكندرية ، سطع خلالها نجم الطريقة الشاذلية فى الآفاق.

وفاته رحمه الله

كانت وفاته رحمه الله سنة 680 هـ عند وفاته ، دُفن سيدي أبو العباس رحمه الله فى الموضع الذى يحتله اليوم مسجده الكبير بالإسكندرية . وكان هذا الموضع وقت وفاته، جبانةً يُدفن فيها الأولياء. وقد أُقيم سنة 706 هجرية بناءً على مدفنه؛ ليتَميَّز عن بقية القبور من حوله، فصار البناءُ مزاراً،ثم صار مسجداً صغيراً بناه زين الدين القَطَّان وأوقف عليه أوقافاً؛ وأُعيد بناء المسجد وتم ترميمه وتوسيعه سنة 1189 هجرية.
نسأل الله ان ينفعنا بسيدي أبو العباس المرسي وبعلومه . آمين


مراجع علمية

الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلى(دار الكتب الحديثة ، القاهرة )

المحبة

المحبة




لقد أحب الله العالم فأبدعه على نحوٍ هو أفضل العوالم الممكنة



تُعتبَر المحبة حجر الزاوية في المجتمع الإنساني وفي النطاق الروحي والكوني. وتتجلَّى حقيقة هذه المقولة في المبدأ الأخلاقي والوجداني والروحي الذي يوجِّه الإنسان إلى محبة الله أولًا ومحبة الآخَر ثانيًا. والحق أن المحبَّتين محبة واحدة من حيث الجوهر، لأنه يستحيل أن يحب الإنسان الله إن كان يكره أخاه الإنسان، كما يستحيل أن يحب الإنسان إن كان لا يحب الله الذي هو الكل في الكل أو الحضور الكلِّي الشامل.

يجدر بنا، قبل أن نتعمَّق في فهم موضوعنا هذا، أن نقيم علاقة:

– بين المحبة والمعرفة

– بين المعرفة والفضيلة التي هي محبة المعرفة

– بين المعرفة والحرية

– بين المحبة والحب

أولًا: المحبة والمعرفة والفضيلة والحرية

لمـَّا كانت المحبة طاقة كامنة في الإنسان، فإنها السبيل الوحيد إلى المعرفة. لذا، كانت المعرفة حصيلة محبة: محبة الإنسان للفهم والإدراك، ومحبته لسبر أغوار كيانه. وبقدر ما يحب الإنسان الموضوع يبدع فيه، أي يعرفه؛ وبقدر ما يحب الإنسان الخير يعرفه ويحققه؛ وبقدر ما يحب الانسجام الجميل يبدعه؛ وبقدر ما يحب الصدق يطبِّقه؛ وبقدر ما يحب الله ينجذب إليه بإيمان قوي. لقد أحب الله العالم فأبدعه على نحوٍ هو أفضل العوالم الممكنة. وأحب الله الإنسان فأبدعه بأفضل تكوين، ودوَّن شريعته في كيانه. لذا، كان الله محبة، لأنه خير كامل، وجمال كامل، وحق كامل، ومعرفة كاملة، ونور كامل. وهكذا، تقودنا المحبة إلى المعرفة لتكون السبيل الذي يؤدي بأنفسنا إلى معرفة حقيقتها.

هكذا، تكون المعرفة وليدة محبة تحرِّر الإنسان من عبودية الجهل ليحيا في نطاق الفضيلة. ولا يمكن أن تتحقق الفضيلة دون معرفة. وهكذا، ينتهي الإنسان العتيق، إنسان الجهل، ويحيا الإنسان الجديد، إنسان المعرفة والخير. وهكذا، نعرف الحق لنتحرر. ألم يقل المسيح: “تعرفون الحق والحق يحرركم”؟

عندما أتأمل الحكمة السرمدية الماثلة في هذه العبارة، أعلم أن المعرفة تؤدي بنا إلى الحرية؛ هذا، لأن الحرية تعني انطلاق الإنسان في نطاق معرفة الحقيقة، حقيقة الله. إذ كلَّما عرف الإنسان أصبح حرًّا. فهي، إذن، سعي الإنسان إلى فهم نفسه ووجوده المادي والروحي. ونستطيع أن نتمثل الحرية بصفاتها الأدبية التالية:

هي الخلاص من الجهل والانعتاق من إشراطات قيوده.

أنا عبد إن كنت أجهل، وحر إن كنت أعرف.

تحرِّرنا المعرفة من الخوف، ومن المجهول، ومن الوهم. فالإنسان يخاف الموت لأنه يجهل ما يقع وراءه، فيعتبره مصيبة؛ ويخاف الغد الذي لا يزال زمانًا مجهولاً؛ ويخاف الله لأنه يجهله ويجهل محبته، فلا يسعى إلى معرفة حقيقة سرِّه؛ ويخاف المرض لأنه يجهل حقيقة الصحة؛ ويخاف الحياة لأنه يجهل سرَّها، فلا يسعى إلى تحقيق الطمأنينة النفسية والعقلية. أما الإنسان الذي يعرف أن الموت مجرَّد تحوُّل وانتقال فيتحرر من جهله هذا ولا يخاف. والإنسان الذي يعرف أن الغد، وإن كان زمانًا لم يحدث بعد في أرض الواقع، قائم فينا ومستمرٌّ في حال غيابنا عنه أو في حال موتنا الظاهري يتحرَّر من جهله وخوفه. والإنسان الذي يتحرَّر من أنواع الخوف كلِّها يعرف أنه كان جاهلاً بالحقيقة. وعندئذٍ، يحب الحياة والموت.

تتأكد العلاقة الوطيدة بين المعرفة والفضيلة والمحبة؛ هذا، لأن الإنسان لا يسعى إلى المعرفة إن لم يكن يحب أن يعرف. ففي أعماقه محبة الكون، محبة الله، محبة الإنسان، محبة نفسه، محبة للحيوان والجماد. وتتجلَّى هذه المحبة في دافع قوي نحو المعرفة: معرفة الكون، معرفة الله، معرفة نفسه، معرفة وجوده، معرفة الحياة المركزة في الحيوان والجماد والنبات. وتتجلَّى هذه المحبة أيضًا في انجذاب قوي إلى المعرفة. إنه يحب أن يعرف، ويريد أن يعرف.

ثانيًا: المحبة والحب



تختلف ماهية المحبة عن الحب. فالحب بعض من المحبة لأنه يجسِّد جانبها السلبي أو المادي. ولكلِّ ظاهرة محبة جانبها المادي أو السلبي. لذا، يُعَدُّ الحب تعاطفًا أو تجاذبًا ماديًّا يخلو من الوعي والفضيلة.

تنشأ أهواء الإنسان وانفعالاته من الحب؛ لذا، تكون لاواعية من حيث إنها تخلو من الغاية والحكمة. فالحب العضوي انفعال جسدي يصدر عن الأنا المتملِّكة. وهو نزوة طارئة، وانقياد أعمى لانفعالٍ مجرَّدٍ من عقلانية واعية وسامية؛ ينقضي ويترك خلفه الألم السلبي الناتج عن لذة عابرة. فحب المال انفعال ينتج عن تعاطف الإنسان مع مركزية الأنا، ومع شهوة القوة المعبَّر عنها بالعنف، ومع القدرة المادية المعبَّر عنها بالتسلُّط، وحب الانتقام والكراهية، وانجذاب الإنسان إلى تلقائية الإنسان الأناني وانفعالها المجرد من الحقيقة والفضيلة والخير؛ وحبُّ التكبُّر والغطرسة دافع منحرف إلى رغبة وشهوة، وانجذاب إلى عظمة فارغة تنشأ من نقص في البنية العقلية والنفسية والأخلاقية؛ وحب الجسد انفعال مادي مجرَّد من قوى الفعل والحكمة. هكذا، يكون الحب، في حدِّه الأدنى، الجانب المادي والسلبي لماهية المحبة. وكلُّ عملية حب لا تؤدي إلى محبة، ما لم ترافقها عملية معرفة ووعي. وباقتران الحب والمحبة تتحول الطاقة الجسدية إلى طاقة روحية تُكسِبُ الحب الجسدي صفته الكونية (الروحية). هكذا، تفعل المحبة في الإنسان لإشعال قوة الحياة الروحية فيه.

المحبة تعي، أما الحب فإنه لا يعي. والمحبة ثابتة ودائمة، أما الحب فإنه آنيٌّ ومؤقت. المحبة تدوم ولا تتحول إلى كره لأنها تعبير عن قوة الروح وعمقها، وعن ثبات الإنسان في إنسانية. هي ثبات الإنسان في نفسه وفي الآخر، وثباته في الله.

رأينا كيف تقف المحبة في مقابل الحب، وكيف تقف المعرفة أو محبة المعرفة في مقابل الجهل، وكيف تقف الحرية في مقابل العبودية، وكيف تقف الإرادة الواعية في مقابل التلقائية والانفعال. هكذا، تنتهي مركزية الأنا في المحبة.

هكذا، يؤدي بنا بحث المحبة إلى تأمل معالمها التطبيقية:

أولًا: المحبة تعني التضحية



ما هي التضحية؟ كيف أضحِّي من أجل سعادة غيري وخيره؟ وكيف أجعل من نفسي وسيلة وغاية لتحقيق المبدأ الأساسي للمحبة المطبَّقة في التضحية؟

إن أول حقل تتحقق فيه المحبة كتضحية هو أن أقدِّم مواهبي وملكاتي وقدراتي لبني الإنسان، لإسعادهم وتقديرهم واحترامهم؛ هذا، لأن مواهبي قد وُجِدَت لخدمة الآخرين. لذا، لا يعني وجودي شيئًا في هذا العالم إن لم أكن أحقق الغاية منه. ولما كان وجودي يعني تآلفي مع الآخرين والاتحاد معهم بالمحبة في جوهر واحد، فإن الغاية من وجودي معهم تتمثَّل في خدمتهم، وتكريمهم، والسعي إلى تحقيق مواهبهم، ورفع مستواهم الخلقي والمادي والروحي. لذا، كانت التضحية هي المحبة التي تبلغ درجة أعلى في سلَّم صعودها.

تتقدم الإنسانية وتتطور من خلال مَن يضحون من أجلها ولأجلها. فلو لم يوجد العلماء الذين ضحوا بأوقاتهم في سبيل المعرفة لما تقدمت الحياة في حقل تطورها، ولما توصلنا إلى معرفة أي معلومة عن أسرار الكون. ولو لم يوجد الحكماء، والمفكرون، والمشرِّعون الصالحون، والأنقياء والأخلاقيون الكبار والمثاليون، لما تعلَّم الإنسان شيئًا عن الناموس الأزلي المدوَّن في كيانه. والحق أن هؤلاء جميعهم ضحوا بحياتهم في سبيل الإنسانية. فهم لم يكتنزوا المال، ولم يتهافتوا على السلطة الظاهرية، ولم يسعوا وراء العظمة الفارغة، ولم يُستعبَدوا لرغباتهم وشهواتهم وأنانياتهم، بل هدفوا إلى خدمة الإنسانية. إنهم ضحوا. وكانت تضحيتهم عظيمة لأنها أنبل ما يستطيع الإنسان أن يعطي.

تبلغ هذه التضحية ذروتها عندما تدرك الإنسانية درسًا عظيمًا من تقديم المسيح ذاته تضحية للإنسانية. وإذا ما سألنا: ماذا تعني هذه التضحية؟ أجبنا: إنها تعني أن الإنسان الذي يرى نفسه في الآخرين يتحد معهم، ويكون واحدًا معهم، إذ يشعر بأنه يحمل أخطاءهم وصعوبات حياتهم وآلامها كلها. وإذ يضحي، فإنه يضحي من أجل الجميع وباسم الجميع. إنه يضحي باسم الإنسانية جمعاء لكي يتم الخلاص لها، من خلال الإنسان الواحد المضحي الذي يجمع البشرية كلَّها في كيانه ويمثِّلها خير تمثيل. تلك هي التضحية الحقيقية.

هكذا، تكون المحبة سرًّا. وسرُّها هذا هو أنها مبدأ يتعالى على كل مبدأ آخر. ولما كان الله هو المحبة، كانت المحبة أنبل ما في الكون. فالله-المحبة يجمع الكون كلَّه في كيانه دون تنافر أو انقسام أو تجزئة. لذا، تحب الأشياء والألوان بعضها بعضًا في الكيان الإلهي الذي هو المحبة.

المحبة هي الجاذبية في لغة العلم. هي جاذبية الخلية للخلية، والذرة للذرة، والجوهر للجوهر، والنوع للنوع، والإنسان للإنسان، والكواكب والنجوم بعضها لبعض؛ هي، إذن، تماسك الوجود، بعضه مع بعض، في كلٍّ متحد. ولولا هذا الملاط، ملاط المحبة-الجاذبية، لتنافرت العناصر، وانفرط عقد الوجود. لهذا السبب، تنجذب موضوعات الوجود إلى بعضها في الألوهية-المحبة-الجاذبية-الكل في الكل.

المحبة هي الانسجام الديناميكي للقوى المتقابلة والمتكاملة؛ هذا، لأن الكون انسجام حي للقوى المتعارضة. ومن خلال مبدأ الانسجام-المحبة تتوافق الأجزاء، وينضم بعضها إلى بعض لتتَّحد في الكل.

المحبة هي القانون الكوني للوحدة في الكثرة؛ المحبة هي مبدأ التوافق الذي يسند كلَّ شيء؛ هي الاتكال المتبادل بين جميع الأجزاء، والاتصال الضمني لكلِّ الظاهرات، والتفاعل الكلِّي الذي يسري في التنوعات.

تعلِّمنا المحبة أن الإنسانية جامعة شاملة، وكذلك الإنسان؛ إنها تمتد على الكون المادي والروحي معًا، فتتجاوز مملكة المادة وتتسامى عليها، بل ترفعها وتُرَوْحِنُها. وشمول المحبة يجعل من البشرية جمعاء أسرة كبرى تنعم بالسلام في كنف الله، الحقيقة السامية والشاملة؛ فإذا الناس جميعًا أخوة لأنهم يجتمعون في الحقيقة الواحدة التي هي الله. وكل إنسان وجميع الناس إنسان واحد وصور كونية متعددة من الناحية الشكلية فقط.

يقوم مبدأ المحبة على أن شمولها العالمي والإنساني الجامع إنما يرتكز على أن جوهرها يعني أن جميع الناس، على اختلاف أعراقهم، وأنواعهم، وألوانهم، وأممهم، يؤلِّفون جسدًا واحدًا، مادة واحدة، وروحًا واحدة، في صورية مادية واحدة لا تتناقض في ذاتها.

إذ أتأمل عمق المحبة، أتساءل: كيف تكون المحبة وسيلة لتحقيق إنسان مثالي وروحي في جوهره وكيانه وغاية بذاتها؟

المحبة توجِّه الفرد إلى رؤية نفسه في غيره، إلى معرفة نفسه في الآخر، إلى نفاذ فرديته في غيره وانصهاره فيه، وإلى الشعور بوجود الأفراد في جامعة تسمى “الإنسان” – صورة الله الجامعة.

المحبة سبيل يسهِّل الانتقال من الفردية إلى الشخصية، من الأنانية إلى الأنانة، أي إلى معرفة الإنسان لنفسه، ومن المادة إلى الروح.

المحبة هي الشعور بالكثرة في الوحدة، بالأفراد في الإنسان، وبالأجزاء في الكل.

المحبة هي وجود شامل ترى فيه الأنا ذاتها في الكل-الواحد.

المحبة هي لقاء الإنسان مع الإنسان في نطاق الحياة الروحية.

المحبة هي نور الإنسان وسلَّمه الـمُعَدُّ لارتقاء الوحدانية الكونية، وتحقيق الإنسانية الشاملة في الحقيقة الإلهية السامية والكلِّية.

ثانيًا: المحبة تعني المسؤولية

من هو المسؤول في المجتمع؟ ومن يتحمل أكبر قدر من المسؤولية؟

هو الإنسان المسؤول الذي يتحمَّل ويضحي لسبب هو أن محبته عميقة في صدره. إنه مسؤول عن الآخرين، وذلك لأنه يحبُّهم وفق ناموس المحبة. إنه مسؤول عن أفعاله تجاه الآخرين. لذا، يجعل هذا الإنسان من الحق طريقًا له ليكون مثالًا حيًّا لغيره. إنه مسؤول عن كل تصرف أو سلوك يصدر عنه لأنه يؤذي الآخرين إن كان سلوكه لا يليق بمسؤوليته ولا يتوافق معها.

فالمحب وفق مبدأ المحبة مسؤول لأنه لا يقيم فرقًا بينه وبين الآخرين، ولا يرضى لذاته ما لا يرضاه للآخرين، ولا يتعاظم على الآخرين ولا يتكبر عليهم؛ وهو لا يرغب في السيطرة على الآخرين، وذلك لأنه يتساوى معهم في الجوهر الإنساني؛ وإن هو تقدَّم عليهم فلكي يخدمهم. ألم يقل المسيح: “من أراد أن يكون فيكم رئيسًا فليكن خادمًا”؟ هكذا، يبذل الإنسان ذاته حتى درجة التضحية لأنه يحب محبة فائقة.

ثالثًا: المحبة تعني القيام بالواجب

لا يؤدي واجبه إلَّا مَن يشعر بالمسؤولية، وأعني المحب المسؤول. فالمتكبر، والحاقد، والمنفعل، والمهمل، والمستغل، واللَّامبالي، والأناني إنسان يهمل واجبه لاعتقاده أن من واجب غيره أن يخدمه، أو أن يحبَّه وفق مفهوم الحب، أو يبجِّله بما يتناسب مع غطرسته. أما المتواضع المحب، الذي يتجاوز أنانيته بفعل المحبة، ويسمو على ذاته، فإنه يقدِّم نفسه للآخرين ويؤدي واجبه نحوهم. وهكذا، يتمثل واجب الإنسان في خدمة الآخرين لأنه يحبهم. والمحب، كما يعلِّمنا المسيح، يَخدم ولا يُخدم. المحب يقوم بواجبه دون أن يطالب بحق.

رابعًا: المحبة تعني العطاء



مَن لا يضحي لا يعطي. والعظيم هو مَن يعطي. أما الناجح فهو مَن يأخذ. العظيم بنفسه، والمتأمل في أعماقه، يبذل ويعطي، وذلك لأن النعمة أو الموهبة التي منحها الله للإنسان تُمنَح وتُعطى دون مقابل. ولا يكون العطاء بالمال وحده، وذلك لأنه أدنى درجة عطاء. لقد أعطى الحكماء الكثير، مع أنهم لم يوزعوا أموالًا أو غنائم، لسبب أصيل هو أنهم لم يأخذوا مالًا من أحد؛ وأعطى العلماء، والحكماء، والمصلحون، والأخلاقيون الكثير، مع أنهم لم يوزعوا الأموال. هكذا، نعلم أن العطاء ينبع من القلب والعقل معًا؛ وبالتالي، لا يعطي إلَّا القلب الممتلئ بالمحبة والعقل الممتلئ بالحكمة. وهكذا، قال المسيح: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ.”

خامسًا: المحبة تعني اللَّاعنف

اللَّاعنف يعني التسامح، والتحمل، والشعور الكامل مع الغير؛ ولا يطبِّق اللَّاعنف إلا مَن يحب. أما الذي يكيد لغيره، ويحاول القضاء عليه، أو يعمل على وضع حدٍّ لإنسانيته، أو يحاول الانتصار عليه بأي وسيلة كانت، فهو إنسان عنيف وظالم، مهما كان يدعي بأنه يطبق مبدأ المحبة. فاللَّاعنف هو العطف، والاحتمال، والشعور العميق بوجود الآخرين، ومساعدتهم في أعمالهم، وتوجيههم وإرشادهم بأسلوب عادل ورقيق. ويتمثل اللَّاعنف بالسعي إلى معرفة الحقيقة، وفي هذا المجال، قال بولس الرسول: “إن كنت أتكلَّم بلغة الملائكة وليس لي محبة، فلست شيئًا.”

سادسًا: المحبة تعني احترام الشخصية الإنسانية

لما كان الإنسان هو المثال المعبِّر عن الإنسانية بكاملها، فإن احترامه واجب كوني. ولا غرو أن احترام شخصية الإنسان يعني تقدير الإنسان، وتقدير الحضور الإلهي في كيانه. لذا، يستمد مبدأ احترام الإنسان وجوده من الوجود الإنساني ذاته، بغضِّ النظر عن نوع العمل، أو المركز الاجتماعي أو الفئوي. ولو أن الإنسان سعى إلى احترام الشخصية الإنسانية، بكل أشكالها وتنوُّع مجتمعاتها، لتجنَّب المشكلات والصعوبات التي اعترضته، ومازالت تعترضه، وأدَّت إلى القلاقل والاضطرابات التي عمَّت البشرية، ولكانت هذه البشرية تنعم بالرفاه والسعادة على كل المستويات.

سابعًا: المحبة تعني محبة الوجود، المادي والروحي



عندما يبلغ الإنسان نقطة أوميغا في المحبة، وأعني ذروة المحبة، حيث يُستقطَب الكل، يتعاطف مع الوجود تعاطفًا كليًّا. وعندئذٍ، يشاهَد فيه كلُّ خير، وكلُّ صلاح، وكلُّ عظمة، وكلُّ تسامٍ وتعالٍ. ويجد في كلِّ كائن حي، حيوانًا كان أم نباتًا أم طيرًا، وفي كلِّ ظاهرة مادية صدًى لنفسه أو صورة منعكسة لها. وإذ يبلغ هذا المستوى، يدرك أنه يحب الحيوان والنبات والمادة، ويشعر بانسجام وتآلف سرَّاني معها. وعندئذٍ، يعود إلى طبيعته المادية والروحية التي تحتِّم عليه محبة كل شيء في الحياة والانجذاب إلى العالم الأعلى والأسمى. إنه يعود إلى الفردوس الذي فقده.

لقد أحب الله العالم، فأبدعه بكماله وتمامه. وفي هذه المحبة يحقق الإنسان الفردوس، ويحيا في سكينة الحياة الروحية.

ثامنًا: المحبة تعني نهاية الشر

تتحقق المحبة على صعيدين: أولهما هو الصعيد الإنساني، وثانيهما هو الصعيد الإنساني-الإلهي.

على الصعيد الإنساني، ينجذب الإنسان إلى الإنسان ويحبه. وبفعل هذه المحبة، تنتهي الشرور الاجتماعية، كالكبرياء، وحب الذات، والأنانية، والاستغلال، والبغض، والاستعباد، والتمييز العرقي والطبقي والجنسي. وعلى الصعيد الإنساني-الإلهي، ينجذب الإنسان إلى الله والوعي الكوني، بكامل عقله وقلبه. وفي هذا الانجذاب، يتحقق الوجدان والإيمان الناتجين عن المعرفة والفضيلة والمحبة.

هكذا، نرى أن المحبة هي حكمة الكون المادي والروحي ومثاله. وبتحقيقها، يحيا الإنسان في عالم الحقيقة والخير، وفي عالم الإيجاب، ويضمحل الشر، أي السلب، ويحيا الإنسان في الفردوس الكائن في كيانه، ويعود إلى عليائه، إلى نقائه وطهره، إلى النعمة والمجد، ويحيا الإنسان في كنف المحبة محققًا إرادة الله على الأرض، لتتحقق مشيئته “كما في السماء كذلك على الأرض“.

............
المصدر : موقع الشيخ الأكبر للدراسات العرفانية والصوفية

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...