الاثنين، 15 أبريل 2019

من أقوال شمس تبريزي


مختارات من “مقالات شمس الدين تبريزي”




ترجمة وتقديم: غسان حمدان

يقول شهاب الدين أبو حفص السهروردي [تُوفي عام632] في كتابه “عوارف المعارف” «أقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول». ويضيف أن الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية، ولا يزال يصفي الأوقات من شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس ويعينه على كل هذا دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقي الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها لربه، فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى:” كونو قوامين بالقسط”، وهذه القوامية لله على النفس هي التحقق بالتصوف([1])

وكتاب مقالات شمس يعد من التراث الأدبي العرفاني الفارسي، وهو عبارة عن محاضرات شمس الدين التبريزي أو خطبه التي ألقاها؛ كما سجلت فيه أجوبته لمريديه أو حتى خصومه.. لذلك لم يتم تبويبه فضلا عن عدم ترتيب مواضيعه ويعود سبب ذلك إلى أنه لم يقم بتأليف الكتاب بل هو في الحقيقة من إنجاز بعض طلابه الذين سمعوا خطبه وقاموا بتسجيلها على عجل ومن دون تنظيم.

وتلف الغموض حياة شمس الدين التبريزي فلم تصلنا معلومات كثيرة عنه والشيء اليسير الذي نعرفه هو أسطورة اتصاله بجلال الدين الرومي البلخي المعروف بمولانا وتأثر به. وتكشف المحاضرات المنقولة في هذا الكتاب عن بعض أفكار شمس الدين وسبب تأثر مولوي به ما جعله يؤلف ديواناً صوفياً باسم ديوان شمس أو أن يقوم بتوقيع معظم قصائده باسم أستاذه شمس تبريزي.

وشمس الدين التبريزي هو محمد بن علي بن ملك داد التبريزي (582-645 هـ) عارف ومتصوف وشاعر فارسي، وقد قام برحلات إلى مدن عدة منها حلب وبغداد وقونية ودمشق حتى التقى بالشاعر العظيم جلال الدين الرومي في تجواله، وتكونت بعد ذلك اللقاء صداقة غيرت مجرى حياة كليهما، حيث تحول الرومي من رجل دين إلى شاعر يجيش بالعاطفة، وصوفي ملتزم، وداعية إلى الحب؛ إلا أن شمس التبريزي اختفى في ظروف غامضة حيث يدعي البعض أنه قُتل على يد تلاميذ جلال الدين الرومي بسبب غيرتهم من علاقة التبريزي مع الرومي. كما أن هناك من يقول إن شمس التبريزي غادر مدينة قونيه وتوفي في خوي حيثُ دفن، وله ضريح هناك.

مقتطفات من كتاب مقالات شمس

سألوني في طفولتي: لماذا أنت مهموم؟ هل أنت بحاجة إلى ملابس أم المسكوكات؟

قلت لهم: يا ليت يأخذون هذا اللباس الذي يكسوني أيضاً!

****

إن الأنبياء يعرفون بعضهم بعضاً. يقول عيسى: أيها النصراني، إنك لم تتعرف على موسى جيداً، فتعال انظر إلي حتى تتعرف عليه. ويقول محمد أيها النصراني وأيها اليهودي، لم تتعرفا على المسيح وموسى جيداً، فتعالا انظرا إلي لتتعرفا عليهما. إذن، الأنبياء جميعهم يعرفون بعضهم البعض، وكلامهم يشرح ويبين كلام من سبقهم. بعد ذلك قال الصحابة: يا رسول الله، إن جميع الأنبياء كانوا يعرفون من سبقهم؛ وأنت خاتم الأنبياء فمن يقوم بتعريفك؟ فقال: من عرف نفسه فقد عرف ربه([2])؛ أي من عرف “نفسي” فقد عرف ربي.

ومن كان أكثر علماً ابتعد عن المقصود، فهذا عمل القلب ولا يعود بصلة إلى ما خلف الجبهة.. وهذا يذكرنا بقصة شخص وجد “خريطة كنز” جاء فيها: عليك أن تخرج من بوابة المدينة لتجد قبة، استدر وقف أمام القبلة وارم بسهمك، وأينما سقط سهمك هو مكان الكنز! لذلك كلموا الناس على قدر عقولهم، فالعقول آفة بالنسبة إليهم. العقل عقيلة الرجال والعشق محلل العقال، العقل يقول لا تبالغ والعشق يقول لا تبالي

كان عمر رضي الله عنه يقرأ في لفيفة التوراة، فأخذها المصطفى (ص) منه وقال: لو من نزل عليه التوراة كان حياً لاتبعني.

***

لا يمكنني قول الحقيقة، إذ بدأت بالصدق يطردوني! وإن قلت الحقيقة كاملة سيطردني جميع أهل المدينة! فدعني أقول لك أمراً: هؤلاء الناس يفرحون بالـنفاق، وينزعجون من الحقيقة!

رأيت أحد المساكين وأخبرته: “أنت رجل عظيم، وفريد عصرك!” ابتهج، وأخذ بيدي قائلاً: “اشتقت إليك، وقد قصّرت في حقك!” في حين أنني في العام الماضي قلت له الحقيقة، فانقلب ضدي وأصبح عدوي. فلا غرابة هناك إن كنت تريد الحياة بسعادة مع الناس فعليك أن تعيش بنفاق معهم! فإن شرعت بقول الحق عليك اللجوء إلى الجبال والصحارى!

***

الهروب من أي شيء أمر سهل إلا الهروب من الذات، فهو صعب؛ ومصدر سيئاتك هو النفس.

وقد روي أنهم سألوا السيد برهان الدين المحقق هل هناك من نهاية للطريق أم لا؟

أجاب: للطريق نهاية، ولكن ما من نهاية للمقصد لأن السير صنفان: أحدهما حتى الله والثاني في الله. والطريق إلى الله له نهاية، لأنه اجتياز الكينونة والدنيا والذات، وكل هذه الثلاثة لها نهاية؛ ولكن حين تصل إلى الحق سيكون بعده السير في عالم أسرار معرفة الله ولهذا الطريق ما من نهاية.

***

إني أحب الكفار لأنهم لا يدعون الصداقة. ويقولون: نعم، نحن من الكافرين، وأعداء. الآن نعلمهم الصداقة، ونعلمهم التوحيد. ولكن من يدعي الصداقة وليس كما يقول، فهو خطر جداً.

***

تاب ذلك الشخص، وقرر أن يحج… وفي الصحراء جرحت رجله بسبب الأشواك الحادة. رحلت القافلة وفي يأسه رأى أحداً يأتي من بعيد؛ فرجا الله داعياً: احتراماً لهذا الخضر الذي يقبل، أنقذني! قام الوافد بمعالجة القدم وأوصله إلى القافلة. فقال له: قسماً بالله الذي لا شريك له، قل لي من أنت لتملك هذه الفضائل؟ وكان مخاطبه يتلوى، وقد احمر وجهه، حتى قال له: “لماذا هذا الفضول؟ لقد تخلصت من البلاء، ووصلت إلى مقصدك، فدعني وشأني! فقال له: قسماً بالله فإني لن أدعك، حتى تقول لي! قال: “أنا إبليس!”… قلت هذا لتعلم إن كان المرء طاهراً، كيف يتجرأ إبليس أن يحوم حوله وألا يقوم بإيذائه؟ فكل ما هو بسبب البشر وإبليس مجرد ذريعة!
***

قيل لملك خوارزم إن الشعب يصرخ بفعل القحط: “الخبز ثمنه غالٍ”.

قال: “كيف ذلك؟ كيف ذلك؟”

قالوا: كان ثمنه مجرد قرش واحد، وأصبح الآن درهماً”

فقال: “ويحكم، وما ثمن الدرهم الذهبي؟!

أجابوا: هو مبلغ كبير جداً.

قال: تفو، تفو! ما هذا البخل؟ ألا تشعرون بالعار؟!”

***

في البداية لم أكن أجالس الفقهاء، بل أجالس الدراويش؛ إذ كنت أقول لنفسي إنهم يشعرون بالعداء تجاه الدراويش. وبعد أن عرفت ما هي الصوفية وأين هم من ذلك، أمسيت أرغب بمجالسة الفقهاء أكثر من هؤلاء الدراويش؛ فالفقهاء تعبوا كثيرا وجاهدوا. وهؤلاء الذين يدعون التصوف أين التصوف منهم؟

***

ومن خصالي أن أدعو للكفار بالخير، وأحب مجالسة اللصوص، فالكلام مع الجهال مضر جدا، والحديث مع الغافلين حرام!

***

قال البواب “من أنت؟” أجبت “هذا صعب، دعني أفكر”؛ حتى أقول بعد ذلك “في سالف الأوان كان هناك رجل عظيم اسمه آدم؛ وأنا من أبنائه”.

***

كان إبراهيم أدهم وقبل أن يترك حُكم بلخ، قد بذل الكثير من أمواله في سبيل رغبته وأدى الفروض والطاعات. وقال ماذا أفعل وكيف يمكن ألا يسهل أمري؟ حتى نام ليلة على سريره ورأى في المنام أن الحراس والعازفين والطبالين يهتفون، فقال لنفسه: أي عدو تمنعونه إذ هو راقد معي؟ فنحن بحاجة إلى نظرة عطف من الرب، ولا يأتي منكم أي أمان إلا في ظله.. وكان في خيالاته هذه ينهض عن الوسادة ويعود إليها؛ عجباً للمحب كيف ينام([3]). وفجأة اشتد صوت وقع خطوات سريعة على سطح القصر كأن هناك من يركض آتياً وغادياً، كما جاء صوت أقدام الحراس من القصر. فقال الملك لنفسه: ما مشكلة الحراس، ألا يرون هؤلاء الذين يركضون على السطح؟ ومرة أخرى أخذته الحيرة بسبب أصوات الركض على السطح حتى نسي نفسه في قصره ولم يقدر على مناداة الحراس. وفي هذه الأثناء أطل أحدهم برأسه من السطح وسأله: من أنت الجالس على السرير؟ أجابه: أنا الملك، ومن أنتم على هذا السطح؟ قال: لقد أضعنا قطارين أو ثلاثة من الإبل، ونبحث عنها على سطح هذا القصر. فقال: أنت مجنون. أجابه: أنت المجنون. قال: أتبحث عن إبل ضائعة على سطح قصر؟ فرد عليه: وهل يبحثون عن الله على العرش الملكي لتبحث عنه هنا؟

ومنذ ذلك اليوم لم يره أحدٌ وأصبحت الأفئدة تبحث عنه.

طالما لا تهب نفسك لأمر ما بشكل كامل سيكون وصاله صعباً وشاقاً، ولكن عندما تفوض أمرك إليه بالتمام لن يكون الوصول إليه صعباً. الولاية لا تعني أن تملك الجيوش والمدن والقرى، بل الولاية هي أن يكون المرء والياً على نفسه وكلامه وصمته..

***

كل امرئ يعيش كما يجب، ويموت كما لا يجب.

هل رأيت دبوراً يتنقل عبثاً؟ – ويحط أين ما يريد؟

يبعده الجزار عن اللحم مرات عدة، ولم يبتعد؛ وفي المرة الثالثة يهوي عليه بالساطور ويقطع رأسه. ويقع الدبور على الأرض ويتلوى، فيقول الجزار له: “ألم أقل لك لا تستقر أينما تريد؟”.

***

قسماً بالله إن معرفة هؤلاء القوم أصعب من معرفة الحق!

***

الناس جميعهم مقلدون، فقوم منهم يقلدون الأهواء، وقوم يقلدون الصفاء، وقوم يقلدون المصطفى، وقوم يقلدون الله، وعن الله يروون. وثمة قوم غير مقلدين أيضاً، كما أنهم لا يروون شيئاً عن الله، بل يتكلمون عن أنفسهم.

***

قل ثلاث مرات :«ارحل، أيها الوهم.» إن لم يذهب، عليك الرحيل.

[لم يذهب، ولم أرحل.]

***

«في هذه الأيام تجب العبادة، فالله ينظر في عباده في هذه الأيام، وفي الأيام الأخرى لا يتفحص عباده ولا يرى.» هؤلاء الناس يقولون ذلك.

***

يمكن للجمادات الفراق والوصال أيضاً، إلا أن أنينها غير مسموع.

[1]: راجع، السهروردي، عوارف المعارف، نشرة دار الكتب العلمية، بيروت، ص 57.

[2]: حديث نبوي، إلا أن شمس تبريزي فسّر الحديث على النحو التالي: من عرف “ذات” الرب، والذي هو أنا، فقد عرف ربي.

[3]: من كلام بعض العارفين إذ ينتهي بهذه المقولة: كل نوم على المحب حرام.

...

المصدر: موقع الشيخ الأكبر للدراسات العرفانية والصوفية

الجمعة، 12 أبريل 2019

الفرق بين الأحوال والمقامات


الفــرق بين الأحــوال والمقـامـات

 


الأحوال مواهب والمقامات مكاسب .. الإمام القشيري


الحال هو ما يرد علي القلب من غير تعمد ولا اجتلاب وقيل هو تغير الاوصاف علي العبد ، وقال الخركوشي في تعريف الحال ( نازلة تنزل العبد في الخير فيصفو له في حال ووقته.

تعريفها: الاحوال والمقامات هي درجات ( مراحل ) هذا التطور أو الترقي الروحي ، استنادا الى تقرير القرآن أن الوجود الإنساني ينبغى أن يكون في صعود دائم عبر درجات ﴿ يرفع الله الدين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾، ﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾، وهذه الدرجات بعضها ذو طابع ذاتى هي الأحوال ، وبعضها ذو طابع موضوعى هي المقامات . فالأحوال تمثل الدرجات الذاتية لهذا الترقي الروحى ، متمثله في الأنماط الانفعاليه والمعرفيه التي تجى كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعه من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغى أن يكون عليه وجدانه وتفكيره. بينما المقامات تمثل درجاته الموضوعية متمثله فى الانماط السلوكيه التى تجى كمحصله لالتزام الإنسان بمجموعه القواعد التي تحدد له ماينبغى أن يكون عليه سلوكه.

وقال الكاشاني في كتابه اصطلاحات الصوفيه : ” الحال ما يرد علي القلب بمحض الموهبة من غير تعمد ولا إجتلاب كحزن أو خوف أو بسط أو قبض أو شوق, ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أو لا فإذا دام وصار ملكا يسمي مقاما “

والاحوال هي : ” المواهب الفائضة علي العبد من ربه إما واردة عليه ميراثا للعمل الصالح المزكي للنفس المصفي للقلب ، واما نازلة من الحق امتنانا محضا وإنما سميت احوال لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات العبد الي الصفات الحقية ودرجات القرب وذلك هو معني الترقي “

وقال الغزالي رحمه الله : ” والحال منزلة العبد في الحين فيصفوا له في الوقت حاله ووقته ” وقيل : هو ما يتحول فيه العبد ويتغير مما يرد علي قلبه ، فاذا صفا تارة وتغير اخري قيل له الحال.

وقال الهجويري في كتابه كشف المحجوب : ” والحال وارد علي الوقت يزينه مثل الروح للجسد ، والوقت لا محال يحتاج الي الحال ، لان صفاء الوقت يكون بالحال وقيامه به “.

وقد قيل ان الحال : سكوت اللسان في فنون البيان فلسان صاحب الحال ساكت في بيان حاله ، ومعاملته ناطقة بتحقق حاله ، ولهذا السبب قال أحد الشيوخ : ” السؤال عن الحال محال إذ العبارة عن الحال محال لان الحال فناء المقال ، والحال عبارة عن فضل الله ولطفه الي قلب العبد دون ان يكون لمجاهداته تعلق به لان المقام من جملة الاعمال ، والحال من الافضال والمقام من جملة المكاسب والحال من جملة المواهب.

ويقول الشريف الجرجاني في كتاب التعريفات: ” الحال في اللغة نهاية الماضي وبداية المستقبل والحال عند أهل الحق معني يرد علي القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب او حزن او قبض او بسط او هيئة ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل أم لا ، فاذا دام وصار ملكا يسمي مقاما فالاحوال مواهب والمقامات مكاسب والاحوال تأتي من عين الوجود ، والمقامات تحصل ببذل المجهود “ .

وقال ابو نصر في كتاب اللمع :المراقبة ، والقرب ، والمحبة والخوف ، والرجاء ، والشوق ، والانس والاطمئنان ، والمشاهدة واليقين.

الفــرق بين الأحــوال والمقـامـات
تعتبر الأحوال والمقامات عند الصوفية طريق موصل إلى معرفة الله عزوجل، وقد وصفها ابن خلدون في مقدمته بالغاية المطلوبة للسعادة، يقول: “ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة”


ويتفق الصوفية مع ابن خلدون في رأيه بأن الترقي في المقامات ينتهي بصاحبه إلى توحيد الله تعالى ومعرفته، وطالما وصل صاحب المقام إلى هذا فإنه يكون قد تحقق له غاية السعادة والأمن والسلام مع نفسه ومع غيره .


وكما اتفق رجال الصوفية على أن الأحوال والمقامات طريق موصل إلى الله تعالى ومعرفته، نجدهم قد اختلفوا في عدد هذه الأحوال والمقامات، كما اختلفوا في ترتيبها، وفي حقيقة الأمر نجد أن كل سالك يصف لنا على حدة منازل سيره وحال سلوكه الذي سلكه في الوصول إلى الله تعالى، وعلى الرغم من هذا الاختلاف فيما بينهم فإنهم يقررون “أن الأحوال مواهب والمقامات مكاسب، والأحوال تأتى من الوجود نفسه، والمقامات تحصل ببذل المجهود“.


والحال عند القاشاني هو “ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل كحزن، أو خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوق يزول بظهور صفات النفس، سواء أعقبه المِثل أولاً، فإذا دام وصارا ملكًا يُسمى مقامًا(3).” فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب”.


كما حُكي عن إمام العارفين وسيد الطائفة الجنيد (رحمه الله)، أنه قال:” الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم”.


أما الحال في اصطلاح أهل الطريقة كما يقول الواسطي (رحمه الله) فيطلق على “ما قام بالقلوب من المواهب الإلهية والجذبات القدسية فيقال حال الخوف، حال الشوق، حال الرجاء … وأمثال ذلك، ويسمى في عرف أهل الزمان خوارق العادات حالاً أيضًا“.


وهو أيضًا “ما أقام العبد به دين الله في قلبه وجوارحه مثل التعظيم لله تعالى والحب له، والمكاشفة بجلاله وإكرامه وعظمه شأنه، والحياء منه الموجب لاستقامة الظاهر وصفاء الباطن … “.


والمقام عند الطوسي (رحمه الله)” معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل، وقال الله تعالى ” ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ” – ” وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ“.


أو هو “ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب، مما يتوصل إليه بنوع تصرف، ويتحقق بضرب تطلب، ومقاساة تكلف، فمقام كل واحد في موضع إقامته عند ذلك”.
كما يشترط القشيري على العبد “أن لا يرتقى من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام هذا المقام، فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد”
كما لا يصح –في رأى القشيري- “منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام؛ ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة“.


وقد جعل الإمام الواسطي للأحوال والمقامات علامات منها:” ما وافق كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وجذب إلى الله، واتصل بالله، وآثرهما قربًا من الله، وعبد الله بذلك الحال، فاتصلت عبودية العابد بذلك الحال بالله، وكان الله عز وجل هو المعبود به والمعظم فيه، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو الداعي إليه والعابد له فيه، وكان العبد هو الذليل الفقير الراجع إلى مولاه بالافتقار والالتجاء إليه، كما أنها تُزهِّد صاحبها في الفاني وتُرغِّبه في الباقي، وتُغِّيبه عن الخلق وعمَّا في أيديهم فيتصل غناه بالله وفقره إليه وينفصل عن العالم وعن الأشياء مما سوى الله تعالى “.


الفرق بين الحال والمقـام:


اتفقت معظم كتب التصوف على أن:
“1- الحــال: معنى يَردُ على القلب من غير تعمد ولا اكتساب.
المقــام: ما يقام فيه العبد ويتحقق بالعبادات والمجاهدات والمكاشفات.
2- الحــال: تبطن فيه المكاسب وتظهر المواهب.
المقــام : تبطن فيه المواهب وتظهر المكاسب.
3- الحـال : سُمِّي حالاً لتحوله .
المقــام : سُمِّي مقامًا لثبوته واستقراره .
4- الحـال : من المواجيـد .
المقــام : طرق لهذه المواجيد.
5- صاحب الحال : مترقٍّ عن حاله .
صاحب المقام : متمكن في مقامه .
6- الحال مثل: الطرب، والحزن، والبسط، والقبض، والمراقبة، والقرب …
المقام مثل: اليقظة، والتوبة، والورع، والزهد، والفقر، والرضا …”.


ولكن هل التزم الواسطي في تناوله للمقامات والأحوال بهذا التصور وهذه التفرقة؟ إن استقراء ما كتبه الواسطي في هذا المجال يدل على أنه لم يفصل بين المقامات والأحوال فصلاً واضحًا، ولم يذكر بينهما فروقًا، وساقهما جميعًا في كتبه مع بعضهما، وربما يرجع ذلك إلى أمرين:
أولاً: الفرق التقليدي بين المقام والحال، والمتمثل في أن المقام يُنال بالمجاهدة والكسب، والحال يحصل بالوهب عند الواسطي غير موجود؛ فكل ما ذكره من مقامات وأحوال يعتمد على الوهب الإلهي والتوفيق من عنده سبحانه وتعالى للعبد.


ثانيًا: إن الشيء بعينه قد يكون حالاً ثم يصير مقامًا أو العكس، فربما ترك الواسطي التفرقة بين المقامات والأحوال لذاتية التجربة التي يمر بها السالك وخصوصيتها، ونحا منحى عمليًّا في بيان هذه الدرجات بالشرح والتحليل.

سيدي أبو مدين الغوث


سيدي أبو مدين الغوث



أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري والمعروف باسم سيدي بومدين أو أبو مدين التلمساني ويلقب بشيخ الشيوخ ولقبه سيدي ابن عربي بمعلم المعلمين (509 هـ-1126 في قطنيانة ، 594 هـ-1198 في تلمسان ) فقيه و متصوف وشاعر أندلسي، يعد مؤسس أحد أهم مدارس التصوف في بلاد المغرب العربي والأندلس ، تعلم في إشبيلية و فاس وقضى أغلب حياته في بجاية وكثر أتباعه هناك واشتهر أمره ، فوشى به البعض عند يعقوب المنصور الموحدي بمراكش ، فبعث إليه الخليفة للقدوم عليه لينظر في مزاعم حول خطورته على الدولة الموحدية ، وفي طريقه مرض وتوفي نواحي تلمسان ، وبنى سلاطين بني مرين بضريحه مسجداً ومدرسة. ولأبي مدين شعيب مؤلفات كثيرة في التصوف، وديوان في الشعر الصوفي وكذلك تصانيف من بينها "أنس الوحيد ونزهة المريد في التوحيد".

ولد في 1126م لعائلة من أصل عربي في قطنيانة بالقرب من إشبيلية ، ونشأ على تعلم القرآن وهو مشتغل يرعى الغنم لأهله ، وازداد اهتمامه بالقرآن فعزم على حفظه ، فقرر الارتحال لبلاد المغرب، وهو في رحلته لطلب العلم جال مدن سبتة وطنجة بالشمال، واشتغل مع الصيادين ثم انتقل إلى مراكش بالجنوب وانخرط في سلك الجندية وفيها نصحه أحدهم بالتوجه لفاس:

«سرت إليها ولازمت جامعها ورغبت في من علمني أحكام الوضوء والصلاة ثم سألت عن مجالس العلماء فسرت إليها مجلسًا بعد مجلس.»

سافر أبومدين إلى فاس وهناك أخذ عن شيوخ ولازمهم ومال عن آخرين وممن لازم وآخذ عنهم ، الشيخ أبو يعزى بلنور (توفي 572 هـ) ، والشيخ علي بن حرزهم (توفي 559 هـ) الذي قرأ عليه الرعاية للمحاسبي و الشيخ أبو الحسن بن غالب ، أخذ عنه كتاب السنن للترمذي ، والشيخ أبو عبد الله الدقاق وأخذ عنه التصوف.

الحج للمشرق:

قرر الشيخ أبو مدين الذهاب إلى الحج ، وفي رحلته إلى المشرق أخذ عن العلماء والتقى بالزهاد والأولياء ، وكان من أشهر ما حدث له في هذه الزيارة لقاؤه بالشيخ عبد القادر الجيلاني ، فقرأ عليه في الحرم الأحاديث وألبسه خرقة الصوفية ، بعد زيارته المباركة للمشرق ، رجع إلى إفريقية و استوطن في شرق الجزائر في مدينة بجاية حيث عاش هناك أغلب فترات حياته ، هنالك ظهر فضل الشيخ وكثر أتباعه وشاع اسمه وأقام بمسجد بجاية للتدريس و شرع في نشر طريقته بين الناس وكان يقول: "طريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عليه السلام ، عن ربّ العالمين جل جلاله."

في بلدة بجاية أنجب ولده مدين هناك فعرف بأبى مدين ، وظل يمارس الوعظ والإرشاد في جامع البلدة ومدرستها حتى بلغ الثمانين من عمره وعرف في كل بلاد المغرب الإسلامي.

ومن أقوال الشيخ أبى مدين المأثورة : ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجه إليها حجب عن غيرها وكان يقول الغيرة أن لا تعرف ولا تعرف وأغنى الأغنياء من أبدى له الحق حقيقة من حقه وأفقر الفقراء من ستر الحق حقه عنه.

عرف عبر التاريخ الإسلامي وفي كتب التراث والتاريخ الإسلامي ، ككتاب ابن قنفذ ودائرة المعارف الإسلامية وشذرات الذهب للامام الشعراني وفي كتاب الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الشيوخ أبومدين الغوث وفي العديد من المراجع الإسلامية ويقال إنه خرج علي يده ألف تلميذ وجميعهم من العلماء ولذلك يقال له شيخ مشايخ الإسلام‏ ،‏ وإمام العباد والزهاد‏ ،‏ وقد كان له الفضل في نشر الإسلام في بلدان غرب إفريقيا والطريقة المدينية انبثقت عنها الطريقة الشاذلية والعديد من المذاهب الصوفية وقد ذكر المستشرق سبنسر تريمنجهام في كتابه الطرق الصوفية في الإسلام أن طريقة أبي مدين استمرت من خلال تلميذه عبد السلام بن مشيش المتوفي عام‏625‏ هـ‏1228‏ م و أبو سعيد الباجي، والشيخ عبد السلام بن مشيش من أعظم تلاميذه البارزين هو أبو الحسن الشاذلي الذي أسس الطريقة الشاذلية والتي انتشرت في شمال إفريقيا من المغرب العربي الي مصر‏,‏ كما كان لها أتباع في سوريا وبلاد العرب كافة‏.‏ لذلك فان الشيخ أبومدين الغوث شعيب ابن الحسين يعتبر قطب الاقطاب‏.‏

يعد الشيخ شعيب الرجل الثاني بعد عبد القادر الجيلاني في تسلسل أخذ الطريقة الشاذلية لأبي الحسن الشاذلي الذي أخذ عن الشيخ عبد السلام بن مشيش عن أبي مدين شعيب عن عبد القادر الجيلاني عيهم والتي آلت لسيدي لأبي العباس المرسي . ويعد الجد الأكبر لآل مدين الأسرة الصوفية بمصر ولقبه أبو مدين التلمساني نسبة إلى أبنه مدين الأول وتلمسان المدينة التي توفي بها.

وممن تأثروا به في حضرموت الفقيه محمد بن علي باعلوي مؤسس طريقة آل باعلوي الصوفية.

مراجع:

أبو مدين شعيب أبو العباس أحمد الغبريني، عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية، تحقيق عادل نويهض، بيروت: منشورات دار الآفاق الجديدة، 1969.

سيدي إبراهيم الدسوقي … الجامع بين الشريعة والحقيقة


سيدي إبراهيم الدسوقي … الجامع بين الشريعة والحقيقة





هاني ضوَّه

لله سبحانه وتعالى عبادٌ صفوا فتخلصوا من علائق الدنيا، فأخلصت قلوبهم وأرواحهم في عبادة الله ونفع خلقه فاصطفاهم الله أولياءًا له وخصهم ببعض فضله، فأصبح ذكرهم مرفوعًا في مشارق الأرض ومغاربهم لأنهم ساروا على قد الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتعلموا وعلموا فأصبحوا من أهل الوراثة المحمدية .. فالعلماء ورثة الأنبياء.

ومن هؤلاء العلماء الذين ذاع علمهم وانتشر مريديهم في الآفاق الإمام العارف بالله سيدي إبراهیم الدسوقي القرشي، الذي يلقب بـ “أبي العينين” والمقصود بها عين الشريعة وعين الحقيقة، لأنه حاز فضل إتقان علوم الشريعة كلها، وتخلق بها وسار في طريق الله يجاهد نفسه حتى ارتقى فأصبح من أهل الحقيقة وهي معرفة الدنيا على حقيقتها فيفنى العبد في الله ويعرض عما سوى الله وتنكشف له من الحقائق ما لا يراها غيره من أهل الدنيا التي حجبتهم الشهوات.

ولد رضي الله عنه في التاسع والعشرين من شهر شعبان عام 633 هجريًا على أرجح الأقوال من أبوين ينتميان إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبوه هو السيد عبد العزيز أبو المجد الذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه، وأمه السيدة فاطمة بنت سيدي أبو الفتح الواسطي الذي كان من أجَّل أصحاب سيدي الإمام أحمد الرفاعي رضى الله عنه، كما أنه من شيوخ سيدي الإمام أبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه، والذي ينتهي نسبه إلى الإمام الحسن بين علي رضي الله عنه وعن آل البيت أجمعين.

نشأ سيدي الإمام إبراهیم الدسوقي في بيت إيماني صالح فحفظ القرآن الکریم وهو في السابعة من عمره، ودرس العلوم الشرعية المختلفة من توحيد وفقه وتفسير وبلاغة وأدب حتى أتقن علوم الشريعة وأصبح أحد كبار علماء الأمة، ودرس في علوم التصوف والأخلاق تزكية النفس وتبحر فيها حتى صار عينًا من علوم الحقيقة وعينًا من علوم الشريعة، ولذا لُقِبَّ بـ “أبي العينين”، وكان يعمل في صناعة الفخار والحصير والزراعة ليكسب قوت يومه، وكان مجاهدًا في سبيل الله فشارك في فتح عكا مع جيش المسلمين التي عسكر فيها الصليبيون.

لم يترك سيدي إبراهیم الدسوقي الكثير من المؤلفات والكتب، وذلك بسبب انشغاله بتربية المريدين، وقد فقدت معظم كتبه وضاعت، وعلى حسب استنباط شيوخ الصوفية كالكركي والمناوي والبقاعي، تم إلمام بعض أسماء مؤلفاته التي نسبت إليه.

ولما شعر سيدي إبراهیم الدسوقي بدنو أجله، أرسل نقيبه إلى أخيه سيدي أبى العمران شرف الدين موسى، الذي كان يقطن جامع الفيلة بالقاهرة. فأمره أن يبلغه السلام، ويسأله أن يطهر باطنه قبل ظاهره.

وذهب النقيب إلى أخيه، ودخل عليه المسجد وهو يقرأ على طلابه كتاب الطهارة. فأخبره النقيب برسالة أخيه سيدي إبراهيم، فلما سمعها، طوى الكتاب وسافر إلى دسوق. فلما وصل وجد سيدي إبراهیم الدسوقي قد تُوفي وهو ساجد، وكان ذلك عام 696 هـ الموافق 1296م على أرجح الأقوال، أي توفي وله من العمر 43 عاماً.

وقد دُفن سيدي إبراهیم الدسوقي بمدينة دسوق محل مولده، والتي لم يغادرها في حياته إلا مراتٍ معدودة. وأقام أهل المدينة بعد ذلك على ضريحه زاوية صغيرة، وتوسعت شيئاً فشيئاً فتحولت الزاوية إلى مسجد من أكبر مساجد مصر، والذي يُعرف حالياً بمسجد سيدي إبراهیم الدسوقي أو اختصاراً المسجد الإبراهيمي.

ومسجد العارف بالله سيدي إبراهیم الدسوقي واحد من أهم معالم ومساجد مدینة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، والذي بني في عهد الأشرف خليل بن قلاوون سلطان مصر في ذلك الوقت فكان عباره عن زاوية صغيرة يجاورها خلوة للإمام والولي الصالح سيدي إبراهیم الدسوقي الذي زاره قلاوون وأمر ببناء هذه الزاوية والخلوة، وبعد وفاة الإمام إبراهیم الدسوقي دفن في خلوته الملاصقة للمسجد.

ولسيدي الإمام إبراهیم الدسوقي أقوال وإرشادات كثيرة وجهها لمريديه لتكون نبراسًا لهم في طريقهم إلى الله عز وجل، وكان يأخذ العهد على المريد، فيقول له: “يا فلان اسلك طريق النسك على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، وعلى أن تتبع جميع الأوامر الشرعية، والأخبار المرضية، والاحتفال بطاعة الله عز وجل قولًا وفعلًا واعتقادًا، وأن لا تنظر يا ولدي إلى زخارف الدنيا ومطاياها وقماشها ورياشها وحظوظها، واتبع نبيك في أخلاقه، فإن لم تستطع فاتبع خُلُق شيخك، فإن نزلت عن ذلك هلكت، واعلم يا ولدي أن التوبة ما هي بكتابة درج ورق ولا كلام من غير عمل، إنما بالتوبة العزمُ على ارتكاب ما الموتُ دونه، فصف أقدامك يا ولدي في حندس الليل البهيم، ولا تكن ممن يشتغل بالبطالة ويزعم أنه من أهل الطريق”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه: 

“من لم يحبس نفسه في قعر الشريعة، ويختم عليها بخاتم الحقيقة لا يقتدى به في الطريقة”، ويقول: “الشريعة كالشجرة والحقيقة ثمرتها فلا بد لكل واحد من الأخرى، ولكن لا يدرك ذلك إلا من كمل سلوكه في طريق القوم”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“من عرف الله وعبده فقد أدرك الشريعة والحقيقة، فاحكموا الحقيقة والشريعة ولا تفرطوا إن أردتم أن يُقتدى بكم، ولم يكن اسم الحقيقة إلا لأنها تحقق الأمور بالأعمال، ومن بحر الشريعة تنتج الحقائق”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“من لم يكن عنده شفقة ورحمة على خلق الله لا يرقى مراقي أهل الله”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“لو هاجر الناس مهاجرة صحيحة طالبين الله خالصا ودخلوا تحت أوامره لاستغنوا عن الأشياخ، ولكنهم جاءوا إلى الطريق بعلل وأمراض فاحتاجوا إلى حكيم”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“قوة المبتدي الجوع ومطره الدموع وفطره الرجوع، وأما من أكل ونام ولغا في الكلام، وترخص وقال ما على فاعل ذلك من ملام فلا يجيء منه شيء والسلام”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“من رأى أن له عملا يقبل فقد سقط من عين رعاية الحق تعالى”

 ويقول: “احذر يا ولدى أن تدعى أن لك معاملة خاصة مع الله، واعلم أنك إن صمت فهو الذى صومك، وإن قمت فهو الذى قومك، وإن إتقيت فهو الذى وقاك، وليس لك في الوسط شيء، وإنما الشأن أن ترى أنك عبد عاص ليس لك حسنة واحدة وهو صحيح، فمن أين لك حسنة وهو الذى أحسن إليك، وإن شاء قبلك وإن شاء ردك”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

" يا ولدي إن كنت تصوم الدهر وتقوم الليل وتدعي أن لك سريرة ظاهرة ومعاملة خالصة، فلا تدعي قط أنك شممت لطريق القوم رائحة، ولا تشهد نفسك إلا عاصٍ مفلس من جميع الأعمال الصالحة، واحذر نفسك فكم تلف من غرورها وزورها فقير”.

وكان يقول قدس الله سره ورضي عنه:

“أقبلوا على الله تعالى فإنه كريم ما أقبل مقبل عليه إلا وجد كل خير لديه، ولا أعرض معرض عن طاعته إلا وتعثر في ثوب غفلته، يقول تعالى في حديثه القدسى (من أتاني ماشيًا أتيته هرولة، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا .. إن الحسنات يذهبن السيئات، وذلك ذكرى للذاكرين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) من تاب إلى الله صالحه وغفر له وعفا عنه وأنعم عليه حتى لم يكن كأنه أذنب قط”.
.........
المصدر : مؤسسة الشيخ الأكبر للدراسات العرفانية والصوفية

التصوف .. القاسم المشترك بين الأديان السماوية

التصوف .. القاسم المشترك بين الأديان السماوية








أوسع الديانات

يكشف هذا الكتاب الذي يحتوي على 624 صفحة عن جوهر الصوفية التي تعد أوسع الديانات كافة، أو كما يرى الحلاج، تلك الحقيقة الجوانية لكل الديانات الصادقة دون تفريق بين ديانة سماوية وأخرى سماوية أيضاً، أو بين ديانة سامية وأخرى سامية من ديانات الشرق، ومن ثم تكون الصوفية دعوة للحب بمعناه الواسع، وبخاصة حب الخالق، ليس طمعًا في جنة ولا خوفًا من نار، وحب البشر، بل وحب الرجل للمرأة التي رفعتها التقاليد الصوفية إلى منزلة عالية تقترب من التقديس، وخصوصًا عند ابن عربي الأندلسي. وكان هذا التقديس للنصف الآخر يسير ضد التيارات السائدة في العصور الوسيطة سواء في الرق الوسط أو أوروبا بعد أن تسيدت فيهما وعليهما ثقافة الساميين التي تقول بدونية المرأة في الباقية والفانية على حدٍّ سواء.
وفي ظل عقيدة الحب هذه يزدهر التسامح والسماحة والتآخي والإخاء والتساوي والمساواة، وفي نهاية المطاف: السلام. وبذلك يكون الهدف النهائي الذي تهدف إليه الصوفيه متسقًا مع الهدف الذي يهدف اليه كل من الفن والعلم: ارتقاء النوع الإنساني.
الأشياء التي أقصدها من وراء كتابة هذا الكتاب أن يرى فيه أحد أنه يقف موقف +العدار من المدرسية أو المنهج الأكاديمي، فالعلماء من الشرق والغرب على حد سواء نذروا حياتهم العملية بصورة بطولية لوضع الأدب الصوفي والمواد الفلسفية خلال مناهجهم الخاصة في متناول الجميع وفي حالات كثيرة سجلوا بأمانة وإخلاص تأكيد الصوفيين على أن المرء لا يستطيع أن يفهم الطريق الصوفي باللجوء إلى الذهن أو العلم العادي المسطور في الكتب . أما أن يعجز هذا المبدأ الأساسي عن الحيلولة بينهم وبين محاولة نقل الصوفية إلى نطاق فهمهم الخاص فهذا العجز يعد على الرغم من كل شيء تحية لأمانتهم +العملية وإيمانهم بنسقهم الخاص في الاختيار .

ومع ذلك فلسوف يكون من الزائف من المنظور الصوفي ألا نؤكد أن ما من أحد يستطيع أن يقيم الصوفية بعيداً عن نقطة معينة، اللهم إلا داخل نطاق موقف تعليمي صحيح وهو موقف يتطلب وجود معلم صوفي بشخصه، وبالنسبة إلى الصوفي ليس من باب الصدف أن المذهب السري الذي ظل وجوده موضع الريبة والتحري لأزمنة طويلة يثبت أنه كان مراوغاً يزوغ ممن يطلبه. وإذا جاز لنا أن نقول: إن الشيوعية كانت ديانة دون إله فإن أي دراسة أكاديمية للصوفية دون أن تكون إلى أي حد الصوفية فاعلة لهي صوفية دون عاملها الأساسي، وإذا كان هذا التأكيد يتعارض مع التقاليد العقلية التي تقول بأن في وسع الفرد أن يصل إلى الحقيقة بمجرد استخدام ملكاته التي يجد أن الطبيعة قد زودته بها، فإن هناك إجابة واحدة: الصوفية بصفتها تقاليد سرية ليست قريبة المنال على أساس الافتراضات التي تنتمي لعالم آخر، عالم الذهن، وإذا شعرنا أن الصدق بشأن الحقيقة الفوق ـ مادية لا بد من أن نسعى وراءه خلال طريقة معينة من التفكير، وحسب العقلية والعملية فلا يمكن أن يكون هناك اتصال بين الصوفي وبين الطالب الموضوعي أو الذي يفترض أنه كذلك .

صمم الصوفيون أدبهم وتعليمهم التحضري للمساعدة في عبور الفجوة بين هذين العالمين من التفكير، ولو لم يكن في الإمكان أن نوفر أي جسر على الإطلاق لما كان لهذا الكتاب أي أهمية من أي نوع وما كان ينبغي على مؤلفة أن يعكف على كتابته .
ليس المقصود من الصوفية باعتبارها عنصراً مغذياً للمجتمع أن تستمر داخل هذا المجتمع بشكل ثابت لا يقبل التغيير، وهو الأمر الذي يعني أن الصوفيين لا يشيدون أنساقاً كما يشيد المرء الصروح كي تختبرها الأجيال المتتابعة ويتعلموا منها. فالصوفية تنتقل خلال القدوة الإنسانية أي المعلم، وإذا كان هذا المعلم شخصية غير مألوفة للعالم الواسع، وإذا كان هناك من يقلده فليس معنى ذلك أنه غير موجود .

نعثر على آثار للصوفية في المنظمات المتداعية التي كف فيها ذلك العنصر الإنساني الناقل لـ “البركة” عن الوجد ولم يبق منها سوى الشكل وحده ولما كانت هذه المحارة البرانية هي الجزء الأكثر سهولة على الرصد من جانب الشخص العادي فلقد تعين علينا أن نستغلها إلى نقطة أعمق قليلاً . فعلى النقيض من ذلك الشخص العادي، لا نستطيع أن نقول إن مثل هذه الشعيرة أو تلك ومثل هذا الكتاب أو ذاك يجسد الصوفية . فنحن نبدأ بالمواد البشرية أو الاجتماعية أو الأدبية وكل منها ناقص (طالما لم يصاحبها تأثير القدوة الحية أي المعلم) ثم نثني بما يستوعب بصفة جزئية والحقائق التاريخية، مثل تلك الدينية أو التنظيم الاجتماعي، عندما تتشبث بالبقاء، فإنها تغدو ثانوية، بل ظواهر برانية تعتمد على التنظيم أو العاطفة والمظهر البراني في سبيل استمرارها على قيد الحياة، مثل هذه العوامل وهي أساسية لاستمرار الأنساق المألوفة تعتبر- من وجهة نظر صوفية- مجرد بديل لحيوية الكيان العضوي، بصفته متميزاً عن المظاهر أو المشاعر .

مدارس تظهر وتختفي

تظهر أي مدرسة صوفية إلى الوجود، مثلما يظهر أي طبيعي، كي تزدهر ثم تختفي، وليس لكي تخلف وراءها أي آثار على آلية الشعيرة أو عمليات الاستمرار على قيد البقاء، تلك التي يحفل بها الانثروبولوجيون ووظيفة العامل المغذي أن يصبح قابلاً للنقل وليس ترك آثار لا يحلقها التغيير وراءه .

يشير المعلم الصوفي الكبير “جامي” إلى هذه الميول عندما يقول إننا إذا سمحنا لـ “اللحية” أن تنمو على راحتها دون إخضاعها للمقص من حين لآخر فإنها ستنافس شعرالرأس في جذبه للانتباه وارتفاع الشأن .
ولسوف يغدو من السهل استيعاب أن “العضوي” و”القدوة البشرية” عندما يدعيان أنهما الصوفية فإنهما يستبعدانها فوراً من دائرة الدرس التقليدي .

ومع ذلك فهناك بعض الجدوى من الالتفاف إلى تأثير الصوفية على الثقافة الإنسانية. ففي المقام الأول نستطيع رصد محاولات لعبور الفجوة بين التفكير التقليدي والتجربة الصوفية، تلك التي نجدها وقد انضبت شعراً وأدباً وعبر سائر وسائل الاتصال، وكل ذلك مصمم بحيث يقود الوعي الإنسان العادي سواء في شكله الجنيني أو الواهن إلى إدراك أعمق وتحقق ـ ذاتي أكبر .
ثانياً: يصر الصوفيون أنه حتى في الثقافات التي خنق فيها التفكير الميكانيكي والسلطوي الفهم الشامل، فلسوف يجد التفرد الإنساني نفسه مضطراً إلى تأكيد ذاته في منطقة ما، حنى ولو اقتصر ذلك على الحاسة البدائية بضرورة أن يكون للحياة أكبر من ذلك المعنى الذي تشيعه السلطات بصفة رسمية .

وفي هذا الكتاب سوف يلمس القارئ تركيزاً على نشر الفكر الصوفي (بدءاً من القرن السابع) لأغراض التفسير والتوضيح، ويقول الكاتب: وإذا كنت في إطار هذه العملية قد قدمت مواداً جديدةً تماماً، فليس الدافع هنا بذل جهد مدرسي. فالمدرسة لا تهتم إلا بمراكمة المعلومات واستخلاص النتائج منها، أما الصوفية فتنشغل عوضاً عن ذلك بتخليق خط من الاتصال مع المعرفة النهائية، وليس بضفر الحقائق، حقيقة إثر أخرى، مهما كانت مثيرة على المستوى التاريخي أو أعمال التنظير بأي حال من الأحوال .
ولا ينبغي أن ننسى أن الصوفية عبارة عن فكر شرقي إلى ذلك الحد الذي تبقى عنده عقائد خاصة مثل القدوة الإنسانية ـ وهو الأمر الذي سقط في الغرب في أسر الأرجاء إلى أجل وهي غامضة وباطنية إلى ذلك الحد الذي تختط عنده درباً مختلفاً عن ذلك الذي يطرحه التنظيم السلطوي والعقائدي بصفته الدرب الصحيح، ولا صحة لغيره من دروب، والصوفية تقول بأن الموقف الأخير لا يشكل سوى جزء ومرحلة في قصة النوع البشري والصوفية بقولها إنها مصدر حقيقي للمعرفة لا تستطيع قبول الادعاءات التي تذيعها المرحلة المؤقتة التي تعد إذا نظرنا إليها من الداخل في الوقت الراهن المرحلة “المنطقية”.

قدر كبير من المواد التي قدمتها هنا يعتبر ناقصاً؛ لأنه ليس من الممكن زيادة حجم للأدب الرسمي عن الصوفية دون توازن مع الأداء الصوفي. ومع ذلك فمعظم هذا الأدب غير معروف خارج نطاق الدوائر الصوفية التقليدية وليس المقصود من هذا الأدب أن يؤثر بأي درجة من التأثير على النزعة المدرسية التقليدية تلك النزعة التي لا يتصل بها إلا بأوهى درجة الاتصال، وهي درجة لا يستطيع أحد أن يمضي بها بعيداً دون تشويه .

تعرف الصوفية بنفسها أي من داخل نسقها ذاته .

ولعله من الشيق أن نتوقف أمام الاختلاف بين العلم كما نعرفه اليوم ومثلما كان يراه رواده . ولقد كان روجر بيكون الذي يعد معجزة العصور الوسيطة وأحد أكبر المفكرين الذين أنجبتهم البشرية رائداً للمنهج العلمي الذي توصل إليه خلال التجربة، إلا أن هذا الراهب الفرنسيسكاني تعلم من الصوفيين الذين ينتمون لمدرسة الإشراق أن هناك فرقاً بين جمع المعلومات وبين معرفة الأشياء خلال التجربة المعملية الفعلية، ففي كتابه المعنون opus Maius الذي استشهد فيه بقطب من أقطاب الصوفيين، يقول: “هناك نوعان من المعرفة، تلك التي نتوصل إليها خلال الجدال وتلك التي نصل إليها خلال التجربة، ويقودنا الجدال إلى نتائج معينة، ويفرض علينا أن نذعن لها ولكنه لا يرسو بنا على بر اليقين أو يبدد شكوكنا حتى يخلد الذهن إلى الطمأنينة في رحاب الحق، ما لم يكن ذلك قد وفرته لنا التجربة .
مثل هذا المبدأ الصوفي عرفه الغرب تحت اسم المنهج العلمي الذي يعتمد على الإجراء الاستقرائي، وقد تأسس عليه العلم الغربي اللاحق .
ومع ذلك فالعلم الحديث عوضاً عن أن يقبل الفكرة التي تقول بأن التجربة ضرورية في كل فروع الفكر الإنساني- أخذ كلمة التجربة بمعنى التجربة المعملية التي يظل فيها المجرب بعيداً قدر الإمكان عن التجربة، بل يقف خارجها تماماً .
ومن هنا فمن وجهة النظر الصوفية يكون بيكون عندما كتب هذه الكلمات في 1268 قد دشن العلم الحديث، كما نقل جزءاً ليس أكثر من الحكمة التي كان في الإمكان أن يكون قد تأسس ذلك العلم عليه .
ولقد اشتغل التفكير العلمي باستمرار وبروح بطولية بهذه التقاليد الجزئية منذ ذلك الحين . ومع جذوره التي تضرب في أعماق الصوفية إلا أن نقص التقاليد حال دون الباحث العلمي وبين تناول المعرفة بوسائلها هي، أي خلال التجربة الحياتية وليس التجربة المعملية وحسب .

تصل الأعراف الصوفية إلى درجة عالية من السمو لا تتفق مع أن تكون لها بداية رسمية.

ولكن طالما تذكر المرء أن التاريخ ينطوي على أهمية خاصة، وإن كانت أقل أهمية من كل من الحاضر والمستقبل، فهناك كم هائل مما نستطيع أن نتعلمه من استعراض الانتشار الواسع لتيار الصوفية الحديثة منذ بزغ من المناطق التي تعربت منذ أربعة عشر قرناً على وجه التقريب، وتكفي نظرة واحدة لهذه الفترة من الارتقاء كي نتحقق من أن الصوفيين قد بينوا الكيفية والأسباب التي توفر إمكانية وضع رسالة التكامل الذاتي موضع التنفيذ في أي مجتمع يمكن تخيل وجوده، بصرف النظر عما يعتنقه من ديانة اسمية أو يتكفل به من التزام اجتماعي.
يعتقد أتباع الصوفية أنها التعاليم الجوانية “السرية” الكامنة في كل ديانة من الديانات، ونظراً لأن أسسها موجودة بالفعل في كل ذهن إنساني، فلقد تعين أن يجد الارتقاء الصوفي تعبيراً عنه، بصورة محتومة في كل مكان. ولقد بدأت الفترة التاريخية للتعاليم الصوفية مع انفجار الديانة المحمدية (الإسلام) من الصحراء إلى قلب المجتمعات الراكدة في الشرق الأدنى قرب أواسط القرن السابع م. ع . م كان توسع الديانة المحمدية (الإسلام) خارج شبة جزيرة العرب تحدياً صريحاً وسرعان ما أطاح بإمبراطوريات الشرق الأوسط، وكانت كل واحدة منها تحتفظ بتقاليد وقورة ومبجلة في الميادين السياسية والعسكرية والدينية . فلقد اندفعت جيوش الإسلام التي كانت تتألف في الأصل من البدو بصفة رئيسية، ثم تضخمت المستجدين من أصول أخرى شمالاً وشرقاً وإلى الغرب وورث الخلفاء أراضي العبرانيين والبيزنطيين والفرس واليونان البوذيين، ووصل الفاتحون إلى جنوب فرنسا في الغرب ووادي نهر الأندوس في الشرق، وشكلت هذه الفتوحات السياسية والعسكرية والدينية قلب البلدان والمجتمعات الإسلامية التي نعرفها اليوم، تلك التي تمتد من إندونيسيا في المحيط الهادي حتى مراكش على ساحل المحيط الأطلنطي .+
انطلاقاً من هذه الخلفية بدأ الغرب يعرف التقاليد الصوفية ورعت هذه التقاليد تيارًا من التعاليم التي تربط بين أصحاب الحدس من الشرق الأقصى حتى أقصى أقاصي الغرب.

........
المصدر : مؤسسة الشيخ الأكبر للدراسات العرفانية والصوفية

الخميس، 11 أبريل 2019

موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )



موقف الصوفية من ( وحدة الوجود والاتحاد والحلول )





وحدة الوجود المشار إليها عند الصوفية المسلمين مغايرة لقول الفلاسفة ووحدتهم الفكرية التي لا تفرق بين الخالق والمخلوق والصنعة والصانع فأي كفر أعظم من هذا وأي نقص ينسب إلى الله أعظم من ذلك ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، والصوفية أهل الحق براء من ذلك .

فوحدة[7]الوجود التي يرمز إليها بعض الصوفية أمر معنوي وعلم رباني يتعلق بتحقيق الوحدانية لله في ذاته وصفاته وأفعاله عرفوا ذلك وتحققوا فيه بنور رباني وقد قيل فيه ( أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ، وعرفوا ذلك أيضاً بتحققهم بالتبعية المحمدية حيث قال الله لنبيه في كتابه :

" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "[8]

... الآية فالبصيرة المشار إليها هي الؤية القلبية والمشاهدة الباطنية لحقائق الأمور وبواطن الأشياء فيكتسب صاحبها علماً لا مطمع للحصول عليه بالفكر أو بالعقل أو النظرة الحسية ،فنظر رحمك الله إلى قوله تعالى لنبيه :

" عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي "

... الآية فليس هذا النور وتلك المشاهدة القلبية خاصة بالنبي r وآله ولكن يشاركه في هذا المشرب من اتبعه بحق وهم خواص أمته فمن لم يتحقق بتلك التبعية المحمدية في الأقوال والأفعال والأحوال ، أو قل في ( الإسلام والإيمان والإحسان ) أو قل في (عمل الظواهر من الوقوف عند الحدود ، وفي عمل البواطن من التوكل والرضا والتعلق بالمعبود ، وفي عمل السرائر من الأذواق والمعارف والتحقق بأسرار الوجود ) وإلا فلا مطمع له بالوصول إلى مراتب الكمال ومقامات الرجال لأنه مقيد بالوهم والخيال وبالنفس الأمارة التي تتغطرس وتتكبر فتظن أنها تخرق الأرض وتبلغ الجبال طولاً وما هؤلاء بالنسبة للرجال الكمل من ذوي المعارف والأسرار إلا بمنزلة الصبيان .

فليس المراد بوحدة الوجود عند هؤلاء الصوفية وجودين قديمين اتحدا ولا قديم وحادث اتحدا تعالى الله عن ذلك فإنه سبحانه لا يحل في شئولا يمازج شيئاً ولا شئ في ذاته في خلقه ولا من خلقه في ذاته ، وقربه وبعده ليس كقرب الأجسام وبعدها، ولا هو محصور ولا محدود ولا يحمله شئ ولا هو حامل لشيء استوى على عرشه بذاته استواء يليق به ، مطلق في ذاته وصفاته وأفعاله لا تقوم صفاته إلا بذاته ولا تفارق ذاته صفاته تنزه عن أوصاف خلقه قال تعالى :" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "

وكل من يتكلم في التصوف من غير أن يتذوقه ويتحققه وينصب نفسه قاضياً وحاكماً قاسياً على أولياء الله من رجال التصوف الإسلامي ويصدر حكمه فيهم بما عنده من الجهل بحقائقهم ويؤول كلامهم الذي لا يفهم معناه على مراده هو ، لا على مرادهم هم إنما ذلك لخبث في طويته أو جهل مركب أو هما معاً فلا يؤخذ بقوله في شأن الصوفية والتصوف الإسلامي لأنه جاهل بذلك إذ ليس من اختصاصه .

فقد قال أحد الصالحين ( إن كل من يتكلم في التصوف أو يحكم عليه من غير أن يعرف حقائقه ويتذوق معانيه إنما هو جاهل بالتصوف والصوفية فمثله كمن رأى جرة مملؤة مغلقة ورأى النحل يحوم حولها فحكم على ما في باطنها من تحويم النحل عليها من غير أن يتحقق بما فيها ) .

والنحل هو الإشارات والرموز التي توحي بأن هناك شيئاً لا يستطيع من يراه التعبير عنه لدقته وغرابته بين العامة لأنه من أسرار الله تعالى ، كما قال ابو هريرة رضي الله عنه ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين من العلم أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني هذا البلعوم ) صحيح رواه البخاري وقال الإمام زين العابدين :-

إني لأكتم من علمي جواهره        كيلا يرى ذاك ذو جهل فيفتـنا

وقد تقدم في هذا أبو الحسن    إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يارب جوهر علم لو أبوح به        لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي     يرون أقبـح ما يأتونـه حسنـا

وأما الأشخاص الذين حكموا على ما في الجرة خطأ فهم الذين يتكلمون في التصوف بغير علم ولا تحقق ويزعمون أنه على علموان لهم يداً على أهل الله وأوليائه وهم مخطئون لأنهم لم يعرفوا التصوف ولم يلموا بمصطلحاته ورموزه وعباراته.

وقد قال الشيخ محي الدين بن عربي في الباب 314 من الفتوحات المكية : " لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته ، والملك عن ملكيته ، ويتحد بخالقه تعالى ، لصح انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً ، وصار الحق خلقاً ، والخلق حقاً ، وما وثق أحد بعلم ، وصار المحال واجباً ، فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبداً " كما قال في ذلك شعراً :

ودع مقالة قوم قال عالمهم        بأنه بالإله الواحـد اتحـدا

الاتحاد محال لا يقول بـه           إلا جهول به عن عقله شرداً

وعن حقيقته وعن شريعته          فاعبد إلهك لا تشرك به أحدا

فانظر كيف ينفي الاتحاد والحلول بشدة ، فما كان في كتبه مما يوهم ذلك فهو إما مدسوس عليه ، وإما فهم على غير حقيقته... فليتقالله من يطلق لسانه على أهل الله تعالى ( راجع اليواقيت والجواهر جـ1 ص80 –81 ) ، وهذا أيضاً غير ما أشار إليه الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات جـ4 ص372-379 (ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد ومن قال بالحلول فهو معلول لا دواء له) .

وقد قال الشيخ علوان الحموي ( ت 936هـ ) في أحكام النظر صـ187 ومن ذلك ما أثر من كلام محمد بن واسع تلميذ الحسن البصري في فنائه عن الخلق بالحق ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه. فقال معلقاً على المعنى : مذهب أهل الحق أن مولانا عز وجل لا يحل في شيء ، ولا يحل فيه شيء ، وكلما ورد عليك ما يوهم ظاهره الحلول فاوله .

ومن التأويل الواعي ما قاله الشيخ ابن تيميه : ( في مجموعة الرسائل والمسائل صـ 86 ) : " إذا قال قائل إلا ورأيت الله فيه " ، أو قبله وبعده ، بمعنى ظهور الصانع آثار الصانع في صنعته .

فهذا القول صحيح ـ بل القرآن كله مبنى على هذا ، وهو سبحانه نور السموات والأرض

أما الشيخ الهجويري (ت. 470هـ) في كتابه ( كشف المحجوب صـ115) تعليقاً على هذه العبارة فقد قال : " إن المرأ عندما تغلبه المحبة للذات الإلهية يصل إلى مرحلة لا يرى فيها الصنع وإنما يرى الصانع " وقال أحد العارفين : ( أراد بهذه الرؤية الشهود لا رؤية البصر لأن الرؤية من خصائص البصر ، والشهود من خصائص البصيرة ) ن فليتدبر ذلك من يهاجمون الصوفية ، وليتعظوا بمقولة الشيخ ابن تيمية ، وغيره من أهل المعرفة والبصيرة .

فعلى كل حال سنترك كل من يطوي خبثاً وإساءة لأولياء الله الذاكرين الله كثيراً من رجال التصوف الإسلامي سنتركه إلى الله يوم تنكشف الأستار ، وتبرز الأسرار فيعرف حين ذلك ما عندهم من الحقائق وما عنده من الخيال ، ولكن بعد أن يقطف ثمرة الخسران من القطيعة والحرمان ويندم حين لا ينفعه الندم . قال عليه الصلاة والسلام في شأن الذاكرين حديثاً له معناه ( لا يتحسر أهل الجنة في الجنة إلا على ساعة مرت في الدنيا لم يذكروا الله فيها ) وقال تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) سورة الرعد / 28 .

فماذا نقول لأمثال هؤلاء إلا (أنهم نيام عن الحقائق فإذا ماتوا انتبهوا) فبدلاً من أن يثوبوا إلى رشدهم ويذكروا ربهم ويصحبوا هؤلاء الصادقين الذن امر الله بصحبتهم قال تعالى :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "[9]

فبدلاً من ذلك أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم لتمطر على الذاكرين والصالحين مطر السوء فرحماك اللهم فأنت أرحم الراحمين .

بما سبق لخص أحد المفكرين نشأة التصوف في الإسلام ويؤيد هذا الرأي عن نشوء التصوف ما ذكره العلامة القشيري حيث يقول الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في رسالته ( الرسالة القشيرية )[10] :-

( أعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله r لم يتسم أفضلهم في أجيالهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله r إذ لا فضيلة لهم فوقها فقيل لهم ، ( الصحابة ) ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة ( التابعين ) ، ورأوا ذلك أشرف سمة ، ثم قيل لمن بعدهم ( أتباع التابعين ) ، ثم أختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ( الزهاد والعباد ) ، ثم ظهرت البد وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا أن فيهم زهادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم ( الصوفية ) واشتهر هذا الأسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة .

وهكذا يتبين لنا أن التصوف نشأ مع اللإسلام وولد معه ، لأنه جزء منه وليس بشيء زائد عليه بل هو التطبيق العملي والجانب الروحي منه ، وهو لا يمت بصلة إلى ما يقوله أعداء الإسلام عنه أنه مأخوذ عن الأمم الأخرى ، بل ما هو في واقع الأمر إلا حال النبي r وآله والقرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية ، وما الصوفي إلا المسلم الذي يكون في حاله مع الله ومع الناس أقرب شئ إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وصفوة أصحابه . 
...

المصدر: الصوفيــة والتصــوف في ضوء الكتاب والسنـة

تأليف الشيخ السيد يوسف السيد هاشم الرفاعي

الحب الإلهي عند الصوفية



الحب الإلهي عند الصوفية 





فاتح عساف

ارتبط مفهوم الحب الإلهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بالصوفيّة ، والواقع أن مفهوم الحب الإلهي لم يكن إبداعاً صوفيّاً من حيث المبدأ ، فقد ورد مفهوم الحب الإلهي أول ماورد في القرآن الكريم ، حيث خاطب الله عباده المخلصين بقوله أنه " يحبهم ويحبّونه " ( 21 ) ، وقد ورد العديد من الآيات في القرآن الكريم تؤكّد حب الله للمؤمنين بحيث يشمل هذا الحب جميع مجالات الحياة التي يحياها المؤمن ، وقال تعالى " والله يحبّ الصابرين " ( 22 ) ، وقوله " والله يحب المحسنين " (23) وقوله تعالى " فإن الله يحب المتقين " ( 24 ) . وهذا بعض مما ورد في القرآن الكريم والذي يبيّن أن الله تعالى هو الّذي بدأ بمخاطبة المسلمين ليبيّن لهم طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الله وعباده ، وهي علاقة تقوم على مبدأ الحب الّذي يمنحه الله لعباده ، إذا كانوا من الصّابرين ومن المحسنين ومن المتقين .



كانت بداية الحب إلاهيّة ، من الله تعالى للإنسان ، ولكن هل يمكن أن تكون هذه العلاقة متبادلة ، أي أن يحب الإنسان الله كما يحب الله الإنسان ؟ لانستطيع القول أن طبيعة هذا الحب يحمل في جانبيه تكافؤاً من نوع ما ، فإن حب الله للإنسان ليس كحب الإنسان لله ، فهناك دائماً الجانب الأقوى في هذا الحب وهو الله تعالى ، وهناك الجانب الأضعف وهو الإنسان ، ولايمكن تحت أي ظرف عقد مقارنة بين هذين الحبيّن ، فالله هو الخالق وهو المنعم بيده القوّة والملك ، وقد ورد في القرآن الكريم " ليس كمثله شيء " ( 25 ) فقد نزّه الله نفسه في هذه الآية الكريمة أن يوصف بما يصف الناس به بعضهم بعضا ، وما يحيط بهم في هذا الكون .

ومايمكن أن ينطبق على أنماط السلوك البشري ضمن الحدود البشريّة لايمكن أن ينطبق على الله تعالى ، لأنّه أكبر من أن يوصف بصفات وضعها الناس للتفاهم في ما بينهم ، وبالتالي فإن الحب من جانب الله للبشر ليس هو نفسه حب الإنسان لله ، وإن اتفقا بالمعنى إلاّ أن الطريقة تختلف ، وهذا مايشير إليه القشيري بقوله ( وليست محبة العبد له سبحانه متضمّنة ميلاً ، كيف وحقيقة الصمدية مقدّسة عن اللحوق والدرك والإحاطة " (26 ) فالإنسان ليس بيده سوى الطّاعة التي يجب عليه أن يقدّمها لله تعالى . فأذا كان الأقوى هو الذي يبادر بعرض حبّه على الأضعف : فإن دور الأضعف وهو الإنسان أن يبادر بالإستجابة لهذة الدعوة الكريمة وهي أن يحب الله شكراً له على نعمه . " وهذا الّذي يمثل جانب الطّاعة والخضوع لله ، فليس من العبادة في شيء أن يرفض الإنسان الإستسلام لله ، ويستكبر عن اتباع منهجه والإنقياد لشرعه " ( 27) ، وكما قال الله تعالى بأنه يحب المؤمنين من عباده فهو يطلب منهم أن يحبّوه ، ويقول تعالى" قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله " ( 28) ، وقوله تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حبّاً لله " ( 29) . نلاحظ في الآيتين السابقتين أنهما تطالبان المؤمنين بحب الله ولكن أي نوع من الحب ؟ إنه الحب القائم على الإيمان بالله وطاعته ، وتتحقّق طاعته باتباع أوامره وتجنب نواهيه ، لأن الله لايأمر إلاّ بالخير ، ومايحقّق الخير للإنسان .



أفرد الصوفيّون مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع

السلوك التي يتوجب على المؤمن إتباعها إذا أراد أن يحوزعلى حب الله ، وبدأت تظهر في عباداتهم وصلواتهم أشكال مختلفة من السلوك الإيماني الذي كان برأيهم يميزهم عن غيرهم من المسلمين .



قال أبو طالب المكي " أن المحبّة أكمل مقامات العارفين ... وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين " ويقول " فالمحبة تكون هبة من الله تعالى لأصفيائه من الأولياء ، وهي أكمل أنواع المقامات التي يحققها المؤمن " و " كل مؤمن بالله فهو محب لله ، ولكن محبته على قدر إيمانه ، وكشف مشاهدته ، وتجلي المحبوب له على وصف أوصافه " (30 ) . ويقول القشيرى أن الحب هو تفضيل الله لجماعة معينة من الناس هم عباد الله المخلصين بقوله " الحب حالة شريفة ، شهد الحق سبحانه بها للعبد ، وأخبر عن محبته للعبد " (31 ) ، ويرى القشيري أن الله تعالى إذا أراد أن ينعم على عبده بصورة عامة فإن هذه النعم تدخل في باب الرحمة الإلهية أمّا إذا تعلقت بخصوصها فإنّها تسمّى رحمة " (32 ) .



يعلم الإنسان أنّ الله يراه وهو يعمل ، ويسجّل عليه أعماله ، فمن عمل صالحاً بتقرّبه لله حظي بحبّه ، ويجب على الإنسان أن يرد هذا الحب بالإخلاص لله تعالى عن طريق الحب أيضاً . لأن الحب هو شكل من أشكال التعبير عن الشكر ، والله هو أحق مايجب على الإنسان أن يشكره على نعمه الكثيرة التي منحها للإنسان ، وأهمّها نعمة الإيمان ، ويدخل الإنسان في " حال المحبة " التي يصفها الطوسي بأنها هي حال " لعبد نظر بعينه إلى ماأنعم الله به عليه ، ونظر بقلبه إلى قرب الله تعالى منه وعنايته به ، وحفظه وكلاءته له ، فنظر بإيمانه وحقيقة يقينه إلى ماسبق له من الله تعالى من العناية والهداية وقديم حب الله له ، فأحب الله عزّ وجلّ " ( 33 ) .



يقول الطوسي أن أهل المحبة في ثلاثة أحوال : الحال الأوّل هو محبّة العامة ، وهذا ناتج من إحسان الله إليهم وعطفه عليهم . والحال الثاني وهو يتوّلد من نظر القلب إلى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته ، وهذا النوع من الحب يصل إليه الصّادقون والمتحقّقون . أما النوع الثالث من الحب فهو محبّة الصديقين والعارفين ، تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علة ، فكذلك أحبّوه بلا علة (34 ) . إن الحال الثالث من تصنيف المحبين عند القشيري ينطبق تماماً على الصوفيّة ، لأن الصوفي إذا أحب الله ، فإنه لايحبه لغرض بنفسه ، فهو قد هجر الدنيا بما فيها ، وتحوّل إلى حال الزهد ، ولم يبق له في هذه الدنيا مايحبها ، فكان حبّ الله هو البديل الأسمى له ، ومن كان سعيه لله فقد أمن على نفسه في الدنيا والآخرة .

رابعة العدويّة



كانت رابعة العدويّة ( توفيت عام 185 هجريّة ) أوّل من قال بحب الله بلا علّة وهي من أقدم المتصّوفين في تاريخ التصوّف الإسلامي ، فقد وصلت في بدايات حركة التصوّف إلى مرحلة متقدّمة في حب الله ، ماجعلها تحمل لقب " شهيدة العشق الإلهي " ( 35 ) . فقد نذرت حياتها لحب الله ، بعد أن هجرت الدنيا ، واعتزلت حياة الناس ومن أقوالها :

أحبك حبين حب الهوى وحبّاً لأنّك أهل لذاكا

فأمّا الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا

وأمّا الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولاذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا ( 36 )



ويشرح الغزالي هذه الأبيات لرابعة بقوله " ولعلّها أرادت بحب الهوى حب الله لإحسانه إليها ، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة ، وبحبّه بما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها وهو أعلى الحبّين وأقواهما " (37 ) .

وتحب رابعة الله تعالى لأنّه يستحق هذا الحب ، بل وصل بها الأمر إلى إفراغ نفسها من أي نوع من أنواع الحب الذي يمكن أن تكون أحد أهدافه مصلحة أنيّة ، أو لتحقيق رغبة دنيوية ، أما هي في هذا الموقف فلم يعد لها في هذه الدنيا أية مطالب ، ولم يعد سوى مطلب واحد بل هو أمل واحد ,هو تريد أن تعرف الله ، وهذه المعرفة هي أن يكشف الله لها الحجاب حتى تراه . وكانت رابعة تحرص على أن تثبت لنفسها ولمستمعيها أنّها لاتريد من الله شيئاً ، وأن حبها له ليس مرتبطا بمصلحة تسعى لتحقيقها حتى مع الله ، والبيت الراّبع يبيّن أنها حتى في حال حبّها لله فإنها ليس لها فضل في ذلك ، وإنّما هو لله تعالى . فالشّكر دائماً لله الذي يوجه عباده باختياره لهم كي يحبّوه . ويروى عن رابعة أنها قد أصيبت بمرض ، وقالت لزوّارها عندما سئلت عن سبب مرضها فقالت " والله ما أعرف لعلّتي سبباً ، غير أني عرضت على الجنّة فملت بقلبي إليها ، ، فأحسب أن مولاي غار علي فعاتبني ، فله العتبى " (38 ) .



وعندما يصل الصوفي إلى مرحلة أن يميل بقلبه عن الجنّة التي يعرضها الله عليه ، فماذا يريد أكثر من ذلك ؟ إن ماتريده رابعة هو مايريده جميع الصوفيّة هو حب الله دون سبب ، ودون نتيجة ، بل الحب للحب ، بل هو الفناء في الله (39 ) . وهو أقصى مايريده الإنسان من ربّه ومايطالب به نفسه . وفي إحدى الروايات عن رابعة أنّها رأت رجلاً يقبّل صبيّاً من أهله ويضمّه إليه ، فقالت له : أتحبّه ؟ قال نعم ، فقالت له : ماكنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغاً لمحبّة غيره تبارك اسمه . فصرخ الرجل وسقط مغشيّا عليه . وعندما أفاق قال : رحمة منه تعالى ذكره ألقاها في قلوب العباد للأطفال ( 40 ) .



فالحب لله من وجهة نظر رابعة كما تبينه الرواية السابقة تبين لنا موقفين بالنسبة لها : الأوّل : أنها تركت كل أشكال الحب الدنيوي ، والثاني : أن حبّها لله لم يترك في قلبها أي مكان مهما صغر لحب دنيوي ، فقد شغلها حب الله عن كل حب " لأن الصوفي بالمعنى الوجودي هو ذلك الذي يعزف عن الرضا لأنّه ينطوي على فكرة سلبية خالصة ، فتراه دائماً في خوف على أعماله " (41)

وقد وصل بها الأمر إلى مناجاة الله مناجاة الحبيب للحبيب تقرّباً لله والمبادرة بإعلان حبّها الدائم له قائلة " ألهي : أنارت النجوم ، ونامت العيون ، وغلّقت الملوك أبوابها ، وخلا كل حبيب ٍ بحبيبه ، وهذا مقامي بين يديك . إلهي هذا الليل قد أدبر ، وهذا النهار قد أسفر ، فليت شعري أقبلتَ منّي ليلتي فأهنا ؟ أم رددتها علي فأعزى ؟ فوعزّتك هذا دأبي ماأحييتني وأعنتني ، وعزّتك لو طردتني عن بابك مابرحت عنه لما وقع في قلبي من محبّتك " (42 ) وينسب لها أنها خاطبت ربّها قائلة " وعزّتك ماعبدتك خوفاً من نارك ولارغبة في جنّتك ، بل كرامة لوجهك الكريم ومحبّةً فيك "

(43 ) .

تمثّل رابعة صورة الإنسان الذي ليس له في هذا الوجود أي غرض أو هدف أو طمع في أي شيء ، بل إنّها كانت تسعى لإقناع نفسها بأنها قد حازت على أسمى ماكانت تسعى إليه ، وهوأن تهيم بحب الله ، فقط لأنّها تحبّه ، وليس طمعاً فيما وعد الله به عباده الصّالحين ، ولكن هذا لايعني أن رابعة لم تكن من عباده الصّالحين بل كانت كذلك ، فقد اتفقت الطرّق ولكن الهدف مختلف .



الغزالي





سيتحوّل معنى الحب الإلهي عند الإمام الغزالي إلى قضيّة فكريّة لامكان فيها للمناجاة ، أو قول الشعر ، بل إلى عملية تحليل نفسي وأجتماعي تقوم على تفسير الحب الإلهي من بداياته باعتبار أن الحب هو حالة إنسانية ، وأن الحب عندما يبدأ فإنه يكون بين البشر ، ويتسامى مع التطوّر العقلي للإنسان حتى يصل إلى أرفع أنواع الحب وهو حب الإنسان لله تعالى . سعى الغزالي لإثبات أن الذي يستحق الحب هو الله وحده ، وساق الأدلّة على ذلك على النحو التالي :



(الأوّل ) : هو أن الإنسان لايحبّ إلاّ نفسه ، وهو يعمل دائماً على المحافظة على حياته واستمرار وجوده والذي يضمن له هذا الوجود واستمرار حياته هو الله تعالى ، فإنّه يتوجب عليه أن يحب الله تعبيراً له عن شكره وامتنانه لخالقه . وهذا يعني أن بداية الحب عند الإنسان هي بشرية ، فلا يبدأ الإنسان بالحب إلاّ إذا أحب مايعرفه وأوّل مايعرفه هو ذاته ويبدأ بهذا النوع من الحب الأرضي والذي سيرتفع بواسطته إلى أنواع أخرى من الحب تكون محصّلته حبّا أسمى من الحب البشري ، والذي يهدف إلى تحقيق أغراض دنيويّة .



(الثاني ) : هو أن الله هو المحسن لعباده ، وهو يقدّم لخلقه كلّ مايحتاجون إليه في هذه الحياة الدنيا دون أن يكون له حاجة للناس لأنه ، ولايمكن أن نطلق معاني الجود والإحسان على غير الله إلاّ عن طريق المجاز ، ويجب على الإنسان أن يدرك أفضال الله تعالى عليه ، ويجب أن يتوجّه إليه بكل قلبه ، والتفرّغ لعبادته ، وأن يكون حبّه خالصاً لله .



( الثالث ) : هو أنّه يتوجب على الإنسان أن يحب الله حتى لو لم يصله إحسانه ، ، لأن الله تعالى هو المحسن للناس كافة ، ويكفي من إحسان الله للناس منحه الحياة لهم ، وتوفير مايحتاجونه على العموم من النعم ، حتى لو وصلت إلى الناس بصور مختلفة .



( الرّابع ) : وهي أن أشرف مايعرفه الإنسان هو الجمال لأنّه بطبعه يحّب الجمال ، ويميل الإنسان إلى حب الجمال لذاته دون أن يكون من وراء هذا الحب مصلحة له ، والله هو كمال كل شيء وحيث أن الإنسان لايجد حوله في هذا الوجود ماهو مطلق ، فالله تعالى هو غاية الطلب بالنسبة للإنسان ، ويجب عليه أن يحبّه لأن الإنسان يحب الجمال ، والله هو الجمال المطلق .



( الخامس ) : هو أن الإنسان يعمد على تنفيذ الأوامر الإلهية بالعبادات ، وعمل الخير ، والإحسان للآخرين ، لأن الإلتزام بالأوامر الإلهيه يعني قرب الإنسان من ربّه ، ويصبح شبيهاً به ، ليس بالصفات ، ولكن بتنفيذ ماأمر به الله ، لأن ماأمر به الله تعالى هو من صفاته ، وكلّما التزم الإنسان أكثر وجب عليه أن يحب الله أكثر . لأنّ الله هو أولى بالحب من غيره ، وأن حب الإنسان لله يكون كاملآً كلّما أحب الإنسان ربّه من كل قلبه ، أما إذأ إذا كانت أي زاوية من زوايا قلبه مشغولة بغير حب الله نقص ذلك من حبّه لله ، ومن يسعى لحب الله فلامكان لأي أمر دنيوي في حياته " ( 44 ).



وهذا مايؤكّده ابن قيم الجوزيّة بقوله " أن المحبّة الخالصة أن يُحبّ المحبوب لكماله ، وأنّه أهلٌ أن يُحب لذاته وصفاته " (45) وقال " أن الذي يوجب هذه المحبّة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه لامراده هو من محبوبه " (46 ) 0



فقد وجب على الإنسان أن يردّ الدّين إلى الله ، الذي منحه كل ّ شيء في هذه الحياة ، وماهو مطلوب من الإنسان هو أن يعمل على إرضاء الله ، وعندما يسعى الإنسان إلى إرضاء الله فهو يسعى من ناحية أخرى لإرضاء نفسه ، لأن الله ليس بحاجة لرضى الإنسان عنه ، بينما الإنسان بحاجة إلى رضى الله عنه ، وهو – أي الإنسان – إذا كان لايعلم أن الله قد رضى عنه أم لا ، فأنّه يجب عليه أن يعمل بجد وإخلاص لعلّه يحظى به لأن " المحبّة لله هي الغاية القصوى من المقامات ، والذروة العليا من الدرجات " ( 47 ) ، فما يصل إليه الإنسان من تطوّر فكري في حياته لايمكن أن يحقّقه إلاّ إذا كان حب الله يملأ عليه حياته ، و مادام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله " (48) . وحب الله تعالى لايتجزّأ ، بل هوكلّ لايستطيع أي إنسان كما ذكرت رابعة أن يحب الله ويشرك مع حبه حب أي أمر من أمور الدنيا " وكمال الحب في أن يحب الله بكل قلبه " ( 49 ) . لأنه لايوجد قبل الله حب ولا بعده حب لأن " المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات " (50 ) .



ويميّز الغزالي بين حب الإنسان العادي وبين الصّوفي بقوله " والمؤمنون مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبّة ، ولكنّهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة ، وفي حب الدنيا " ( 51 ) ، فهو عندما يتحدّث عن حب الله يقصر حديثه على فئة " المؤمنين " وهذا يعني أن معرفة الله قصر على " المؤمنين " فقط ، ولكن حتى بين المؤمنين بالله يوجد هناك تفاوت في حب الله وذلك لاختلاف الطرق التي يسعون إليها لتحقيق هذا الحب ، وسبب هذا الخلاف أن هناك الكثير من المؤمنين يقبلون على حب الدنيا ، وهذا مايجعلهم يتراجعون في مستوى الحب الإلهي ، وهناك فئة من المؤمنين وصلت إلى حد المعرفة المطلوبة وذلك بابتعادهم عن الدنيا لأن " المحبّة نبع المعرفة بالضرورة ولايوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلاّ بالفكر الصّافي والذاكر الدّائم والجدّ البالغ في الطلب ، والنظر المستمرّ في الله تعالى ، وفي صفاته ، وفي ملكوت سمواته ، وسائر مخلوقاته " ( 52 ) . وفي ذلك يحدّد الغزالي للمؤمن الطريق التي يجب عليه أن يسلكها حتى يصل إلى مرحلة التصّوف ، وكأن الإيمان لايكفي وحده عند الغزالي للوصول إلى مرحلة الحب الإلهي ، بل هو بحاجة لشروط يجب توفرها فيه للإنتقال من مرحلة المؤمن إلى مرحلة المتصوّف .



ابن الفارض



وبرز موضوع الحب الإلهي بصورة جديدة عند صوفي تميّز عن غيره من الصّوفية السابقين عليه هو عمر بن الفارض ( 577 – 632 هجريّة ) ، الذي عبّر عن حبّه لربّه عن طريق الشعر ، وكان هو الصّوفي العربي الوحيد الّذي انطلقت روحه جيّاشة بالتعبير عن الحب الإلهي من خلال النظم شعراً وترك لنا ديواناً من الشعر يتنقّل من يقرأه بين الصور الجماليّة الرّائعة للحب الإلهي في أجلى صوره ، وأطلق عليه لقب " سلطان العاشقين " (53) ، ويصفه أبو العلا عفيفي بأنّه " أحد أقطاب العاشقين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربيّة على الإطلاق " (54 ) ، فقد أمضى حياته يعبد الله ويتقرّب إليه من خلال قصائده التي بثّ فيها صور الحب الإلهي ، فقد تغنّى في كل ماهو جميل في هذا الكون ، (55) واتّخذ حبه بالنظر إلى جمال الكون من حوله ليعبّر من خلال عالم الحس المادي ، ومنه إلى عالم الخلود ، حيث يتجلى الله في هذا العالم من خلال معجزات الوجود التي تحيط بالإنسان ، وكل علامة من علامات هذا الوجود تعني أن الله موجود ولكن ليس على شكل المادة ، فكان الحب الذي يطلبه ليس ماديّاً بل يسمو على المادة ليصل إلى الله تعالى ، بما في هذا الحب من روحانيّة . . وكي يحب الإنسان الله يتوجّب عليه أن يتحرّر من سلطة المادة التي تحاصر الإنسان من كل جانب ، وفكّ الحصار هذا يوجب على الصّوفي أن ينطلق في آفاق الكون باحثاً عن سرّ الوجود ، وهذا مالن يصل إليه الإنسان إلاّ إذا تحرّر بروحه من سلطة البدن ومن عالم المادة بما فيها من رغبات وشهوات ، وهذا لايتم إلاّ بتحرير الروح من سطوة الجسد " وتصفية النفس وتنقية القلب وجلاء عين البصيرة لتستحيل حياة الإنسان في هذه الدنيا إلى حياة روحيّة خالصة ، تستعيد فيها روحه روحانيّتها الأولى وتستشعر حبها القديم الذى منحته قبل أن تهبط من عالمها العلوي وتتصل ببارئها " (56 ) ، وإذا تمكن الإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة ، فإنه يمكن القول أن الإنسان قد أصبح قريباً من الله ، بل قد فني في الله ، لأن الذي يحب الله لايعود له أدنى اهتمام بوجوده الذاتي بل هو يستمدّ وجوده من الله ، وقد نظر إلى المحبّة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده (57 ) .

وقد وصل ابن الفارض إلى مرحل رأى نفسه فيها إمام العاشقين ومرجهعم الأوّل في كل مايتعلق بالحب الإلهي ويدعو الناس إلى اتباع خطواته للوصول إلى مرحلة متقدمة في حب الله وكسب معرفته لأنّه وصل إلى الطريق التي تقوده إلى معرفة الله أكثر من غيره ، ويقول :

زدني بفرط الحب فيك تحيّراً وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا

وإذا سألتك أن أراك حقيقةً فاسمح ولاتجعل جوابي لن ترى

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ ارق ّمن النسيم إذا سرى

وأباح طرفي نظرة أمّلتها فغدوت معروفاًوكنت منكرا

فدهشت بين جماله وجلاله وغدا لسان الحال عنّي مخبرا ( 58 )

هل وصل ابن الفارض إلى مرحلة الرؤية التي يدّعيها ، وهل أصبح قريباً من الله تعالى لدرجة أن المحبة الإلهية قد تحقّق مابين الله الذي رضي على عبده وقبل حبّه له مما جعل ابن الفارض يصل إلى مرحلة رؤية الله .

ويبدو أن هذه الحال التي وصل إليها ابن الفرض قد جعلته يشعر بالتفوّق على السابقين والمعاصرين من الصوفية ، لأن ماحصل عليه من الله لم يحصل عليه أحد غيره ، ويقول مخاطباً إيّاهم :



قل للّذين تقدّموا قبلي ومن بعدي ومن أضحى لأشجاني يرى

عنّي خذوا وبي اقتدوا ولي اسمعوا وتحدّثوا بصبابتي بين الورى ( 59 )





فهو المتقدّم على الجميع في مجال الحب الإلهى لدرجة أنّه يطلب من الآخرين أن لايبحثوا عن أسرار الصوفيّة إلا من خلاله ، فهو الوحيد الذي يستحق أن يسمع ، وأن يكون القدوة لغيره ، ولولا استغراقه في الحب الإلهي لما وصل إلى هذه الحالة من الحب الخالص لله ، ويضيف قائلاً :



كل من في حماك يهواك لكن أنا وحدي بكل من في حماكا

فيك معنى حلاك في عين عقلي وبه ناظري معنى حلاكا

فقت أهل الجمال حسناً وحسناً فبهم فاقة إلى معناكا

يحشر العاشقون تحت لوائي وجميع الملاح تحت لواكا ( 60 )



وفي هذه الأبيات ينصّب ابن الفارض نفسه سلطانا للعاشقين ، ويعتبر نفسه المرجع الأول والأخير ، ولم يعد هناك حبّ لله إلاّ بواسطة معرفة ماقام به ابن الفارض للتعبير عن حبّه لله ، وينبه سامعيه قائلاً :

نسخت بحبّي آية العشق من قبلي فأهل الهوى جندي وحكمي على الكل

وكل فتى يهوى فأنّي إمامه وإنّي بريء من فتى سامع العذل

ولي في الهوي علم تجل صفاته ومن لم يفقه الهوى فهو في جهل

ومن لم يكن في عزّة الحب تائهاً بحب الّذي يهوى فبشّره بالذل ( 61 )



ومافعله ابن الفارض فعله معظم الصّوفيّة الذين رأوا بالعزلة ، وهجر الدنيا ، أحد أهم الشروط التي كان عليهم أن يلزموا أنفسهم بها لإرضاء الله تعالى . ولم يكن له هدف سوى محبّة الله دون أن يسعى لتحقيق غرض دنيوي من هذا الحب ، ويقول في ذلك :



تقرّبت بالنفس احتساباً لها ولم أكن راجياً عنها ثواباً فأدنت

وقدّمت مالي في مآلي عاجلاً وما إن عساها تكون منيلتي ( 62 )



كانت صور الحب الإلهي في شعر ابن الفارض أكبر من أن تحصى وتعد واستعراضها في هذه الدراسة ضرب من المستحيل ، ولكن ماكان علينا أن نتحدّث عن الحب الإلهي دون الإشارة لهذا الصوفي الذي أفنى حياته وهو يسعى للتقرّب إلى الله .



لم يكن من أهداف هذه الدراسة كتابة تاريخ الحب الإلهي عند الصوفيّة ، بل كان من أهدافها تسجيل إشراقة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي لطائفة من المسلمين رأوا أن أقرب طريق إلى الله تعالى هو التعرّف على الذات الإلهية ليس من خلال الجنة والنار ، ولا من خلال مظاهر العبادة التي يسعى الناس للتقرب بها للناس أكثر من التقرّب إلى الله ، فكانت طريقهم إلى الله تتم عن طريق إعلان أن حبّهم لله ليس لهم من وراءه غرض دنيوي ، فإن من يحب الله ليس عليه أن يعلن ذلك بل إن كل ماهو مطلوب منهم هو السير على الطريق إلى الله ، ولكن هذه الطريق لم تكن سهلة في الحياة الدنيا ، فإن ماقالته هذه الفئة لم تلق القبول من معظم الناس ، كما أن السلطة الحاكمة لم تكن تنظر إلى هذه الفئة من الناس نظرة طمأنينة ، وماجرى للحلاّج من تعذيب وانتقام وقتل بصورة لم يعهدها المسلمون دليل على ذلك ( 63 ) ، وماحدث للسهروردي من تعذيب وقتل دليل آخر .





الحب والكراهيّة



تحفل اللغة العربية كغيرها من اللغات بالمفاهيم المتناقضة مثل الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحب والكراهيّة ، هل يمكن أن يكون هناك حبّ دون تكون هناك كراهيّة ؟ يدلّنا الواقع المعاش للإنسان أنّهما وجهان لموضوع واحد ، بل هما قضيّة واحدة ، إذ لايمكن معرفة واحد منها دون النّظر للآخر ، فمن يحب لابد أنّه كان يكره حتى وصل إلى مرحلة الحب ، وكذلك من يكره ، فإنّه يكره لأنّه لايحب ، والحد الفاصل بين النقيضين هو أن من يحب يكون دائماً في وضع أفضل ممن يكره وذلك من الناحية النفسيه ، فالحب هو تعبير عن نوع من الرضى تجاه قضيّة معيّنة . ويعكس الحب حالة من التملّك ضد حالة من الرّفض يمثّلها من يكره ، ولكن لو طرحنا على من يحب سؤالاً : هل تكره ؟ لكان جوابه نعم هو يكره ، ولكن ماذا يكره ؟ لقد كره الصّوفية الفوضى السياسيّة التي سادت المجتع الإسلامي ، وكرهوا الإنهيار الأخلاقي الذي كان السّمة السائدة بين النّاس ، ولاحظوا إقبال النّاس على الدنيا وأمعنوا بالتمسّك بالحياة ، وشادوا العمارة والبناء ، وكثرت لديهم الجواري والعبيد ، وابتعدوا عن الله ، ، لقد كرهوا الحياة الدنيا لأنّها لأنّها تقرّب الناس من المعصية ، وكلّما ازدادت المعاصي تعرّض المجتمع للإنحلال ، ويقول الغزالي أن " زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسّفهاء " (64 ) ، وهذا الزمان الذي عاش به الغزالي هو " الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم ، وقد خبثت أعمال الناس ونيّاتهم " (65) .



وهذا الزمان الذي كرهه الغزالي نعتبره نحن اليوم من أيّام تفوّق الحضارة العربيّة الإسلامية ، ولكن رؤية أهل زمانه له ، تعكس مرآة صادقة عن الوضع الإجتماعي والسياسي ، وهذا ماسيعكسه لنا الغزالي بقوله " واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق " (66) وأصبح النّاس في أيامه لايخشون شيئاً ولايحسبون حساباً حتى لله تعالى ، وسبب ذلك أنتشار الرياء والنفاق بينهم ، وبسبب هذا الفساد الذي عم الناس وأصبح هو المطلب الأساسي ليحققوا من خلاله مطالب الدنيا ازداد ابتعاد الناس عن دينهم لصالح دنياهم ، وعن خالقهم لصالح مصالحهم الشّخصية ، وها مادفع الغزالي ليصوّر المجتمع الإسلامي بزمانه بقوله " وقد اندرس فيه الحق وانكسر البثق ... فإنّ قوماً اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وجعلوا التعليمات النبويّة هباءاً منثوراً ، وكل ذلك من قصور الجاهلين ودعواهم في الدين " (67) .



ويتحوّل كره الغزالي للمجتمع السائد في عصره إلى إدانة لكل أنماط الحياة والسلوك التي يمارسها الناس مهما علت مراتبهم الإجتماعية ، ويتحوّل كرهه إلى أوجه النظام المختلفة من سياسي واجتماعي واقتصادي بقوله " وأمّا الآن في هذا الزمان ، فكل مايجري على أيدي أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤناواستحقاقنا ، كما أنّنا رديئو الأعمال قبيحو الأفعال ، ذوو خيانة وقلّة أمانة ، فأمراؤنا جائرون وغشمة معتدون " (68 ) .



إن كلام الغزالي السابق يعكس المرارة التي تولّدت عنده نتيجة مطالعته لأحوال الناس في زمانه ، وفي هذا الأقوال والتي لايخلو منها زمان تبيّن كره مفكّر للأوضاع السّائدة في زمانه، وليس أمامه إلاّ قبول هذا الوضع أو رفضه ، وقبول هذا الوضع يعني من الإنسان قبول مايكره ، ولكن رفضه له يعني أن هذه الكراهيّة يجب أن تتحوّل للجانب الآخر من التناقض وهو الحب ، لذلك كانت دعوة الغزالي لنفسه " الرّحيل ، الرّحيل" (69) .



وهذا ماعمل به الصوفيّة وهو الفرار من الدنيا واللجوء إلى الله فقد تفوّق عندهم الحب على الكراهية ، لأن الذي يحب لايمكن أن يكره ، لأن الحب عاطفة تطغى على الإنسان فلايعود يرى إلاّ كل شيء جميل وتتراجع الكراهيّة عنده حتى تتلاشى ، فكيف إذا كان المحبوب هو الله ، وهل من يحبّ الله يمكن أن يكره أحداً ؟ والله هو الحب ذاته ، ويقول ابن قيم الجوزيّة " فالنفس لاتترك محبوباً ألاّ لمحبوب ، ولاتتحمّل مكروهاً إلاّ لتحصيل المحبوب ، او للتخلّص من مكروه آخر " (70 ) 0، فالمحب برأيه يتخلّى عن أدنى أنواع الحب طلباً لأعلى أنواع الحب لأنّ أعلى أنواع الحب أن تحقّق للإنسان نفعاً أكثر من الحب الأدنى " فتبيّن بذلك أن المحبّة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلّة لهما من غير عكس ، فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ، ولولا وجود المحبوب لم يكن بغض " ( 71 ) . فكان بالنسبة لهم الله هو الأعلى دائما ، وغيره هو الأدنى ، فكان لابد من التضحية بالأدنى وهي الدنيا طلباً للأعلى وهو التفرّغ لحب الله تعالى .

تلك هي المواقف التي اتخذها الصوفيّة في حياتهم ، فقد غلب عليهم حب الله ، لدرجة أنّه لم يعد في قلوبهم مكان للكراهيّة . أمّا بقية الناس فهم" في طغينهم يعمهون " ( 72 ) .




المراجع

1 . ابن خلدون ، المقدّمة ، المكتبة التجاريّة ، مصر ، د . ت ، ص 467 .

2 . المرجع السّابق ، ص 467 .

3 . ابو العلا عفيفي ، التصوّف ، الثورة الروحيّة في الإسلام ، دار المعارف ، مصر ، ط1 ، 1963 ، ص 62 .

4 . الطّوسي ، الّلمع في تاريخ التصوّف الإسلامي ، ضبطه وصحّحه كامل مصطفى الهنداوي ، دار الكتب العلميّة ،

بيروت ، ط1 ، 2001 ، ص 24 .

5 . المرجع السّابق ، ص 24 .

6 . محمّد الكلاباذي ، التعرّف لمذهب أهل التصوّف ، تحقيق محمود أمين النواوي ، مكتبة الكليّات الأزهريّة ،

القاهرة ، ط1 ، ص 29 .

7 . المرجع السابق ، ص 31 .

8 . السهروردي ، عوارف المعارف ، مطبوع على هامش " إحياء علوم الدّين " للغزالي ، ج1 ، عالم الكتب

، دمشق ، ص 295 .

9 . مقدمة ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص 467 .

10 . محمد الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 29 ، . أنظر أيضاً ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 29 .

11 . الطّوسي ، مرجع سابق ، ص 26 ، 27 ، 28 .

12 . عبد الكريم بن هوازن القشيري ، الرسالة القشيريّة في علم التصوّف ، تحقيق معروف زريق وعلي عبد الحميد

دار الخير ، دمشق وبيروت ، ط1 ، 1988 ، ص 280 .

13 . محمد الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 28 .

14 . الغزالي ، المنقذ من الضلال ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، ط1 ، 1988 ، ص 59 ومابعدها .

15 . المرجع السابق ، ص 57 .

16 . المرجع السابق ، ص 62 .

17 . المرجع السابق ، ص 62

18 . المرجع السابق يمثّل السيرة الذاتية للغزالي ، ومن خلال مطالعته يتبيّن للقاريء مراحل التطوّر الفكري

له ، حتى وصل إلى مرحلة التصوّف .

19 . المرجع السابق ، ص 57 .

20 . المرجع السابق ، ص 60 .

21 . القرآن الكريم ، سورة المائدة ، آية رقم 54 .

22 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 146 .

23 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 134 .

24 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 76 .

25 . القرآن الكريم ، سورة الشّورى ، آية رقم 11

26 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .

27 . ابن قيّم الجوزيّة ، محبّة الله ، تحقيق يوسف علي بديوي ، اليمامة للطباعة والنشر ، دمشق وبيروت ، ط3 ،

2005 ، ص 33 .

28 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 31 .

29 . القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية رقم 36 .

30 . أبو طالب المكّي ، قوت القلوب ، ج1 ، مكتبة مصفى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1961 ، ص 50 .

31 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 318 .

32 . القشيري ، مرجع سابق ، ص 319 .

33 . الطّوسي ، مرجع سابق ، ص 54 .

34 . المرجع السابق ، ص 54 .

35 . عبد الرحمن بدوي ، شهيدة العشق الإلهي ، وكالة المطبوعات ، الكويت ، 1978 ، ط4 ، ص 10 .

36 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، عالم الكتب ، دمشق ، د . ت ، ج4 ، ص 266 .

37 . الغزالي ، المرجع السابق ، ص 266 .

38 . الكلاباذي ، مرجع سابق ، ص 184 .

39 . محمد فاروق النبهان ، مباديء الفكر الصّوفي ، مكتبة دار التراث ، حلب ، ط1 ، 2005 ، ص 783 .

أنظر أيضاً الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج4 ، ص 338 .

40 . محمد عبد الرحمن بدوي ، مرجع سابق ، ص 111 .

41 . المرجع السابق ، ص 25 .

42 . المرجع السابق ، ص 27 .

43 . ديوان ابن الفارض ، تحقيق عبد الخالق محمود ، عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والإجتماعيّة ، القاهرة ،

د . ت ، ص 177 .


44 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، عالم الكتب ، دمشق ، د . ت ، ج2 ، ص 259 – 264 .

45 . ابن قيّم الجوزيّة ، طريق الهجرتين وباب السعادتين ، المكتبة العصريّة ، بيروت ، 2003 ، ص 346 .

46 . المرجع السّابق ، ص 346 .

47 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج4 ، مرجع سابق ، ص 252 .

48 . المرجع السّابق ، ص 271 .

49 . المرجع السّابق ، ص 271 .

50 . المرجع السّابق ، ص 252 .

51 . المرجع السّابق ، ص 251 .

52 . المرجع السابق ، ص 274 .

53 . محمد مصطفى حلمي ،ابن الفارض والحب الإلهي ، دار المعارف ، القاهرة ، د . ت ، 2003 ، 10 .

54 . ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 227 .

55 . محمد مصطفى حلمي ، مرجع سابق ، ص 164 .

56 . المرجع السّابق ، ص 164 .

57 . ابو العلا عفيفي ، مرجع سابق ، ص 230 .

58 . ديوان ابن الفارض ، مرجع سابق ، 369 .

59 . السّابق ، ص 369 .

60 . السّابق ، ص 341 .

61 . السّابق ، ص 372 .

62 . السّابق ، ص 242 .

63 . ديوان الحلاج ، صنعه وأصلحه أبو طريف الشّيبي ، منشورات الجمل ، بيروت ، 1997 ، ص 18 .

64 . الغزالي ، التبر المسبوك ، دار ابن زيدون ، بيروت ، ط1 ، 1987 ، ص 57 .

65 . المرجع السابق ، ص 76 .

66 . الغزالي ، إحياء علوم الدين ، ج2 ، مرجع سابق ، ص 569 .

67 . الغزالي ، القسطاس المستقيم ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، 1986 ، ص 64 .

68 . الغزالي ، التبر المسبوك ، مرجع سابق ، ص 57 .

69 . أنظر هامش رقم 20 .

70 . ابن قيّم الجوزيّة ، محبّة الله ، مرجع سابق ، ص 69 .

71 . المرجع السّابق ، ص 69 .

72 . القرآن الكريم ، سورة يونس ، آية 11 .

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...