الثلاثاء، 30 أبريل 2019

التصوف كخبرة بالهوية الإنسانية

التصوف كخبرة بالهوية الإنسانية  (human identity)





إن المصطلح "صوفى" مع كل مشتقاته قد تم ابتذاله على نطاق واسع فى الثقافة التسويقية المتداولة حاليًا والمفروضة على الجماهير عبر شتى الوسائل الإعلامية. فقد تم اختزال هذا المصطلح فى أغلب الأحيان كعبارة عن كل ما هو شاذٌّ غريبٌ، غير منطقى وتافهٌ على مستوى العرض السوقى الاستهلاكى فى عالمنا المُعولَم. لقد وصلنا إلى حد أننا كثيرًا ما نسمع الحديث بصفاقة مدهشة عن تصوُّف (mysticism) يخص بعض الأشياء التافهة مثل العطور والسيارة وكرة القدم والموضة، وهلمَّ جرًّا من المنتجات التسويقية المعروضة عبر الوسائل الإعلامية العامة. وكذلك، يُستخدم مصطلح "صوفى" (mystic) للتلميح إلى أى نوع من الظواهر الغيبية الغريبة وغير الطبيعية أو غير المنطقية من أمثال الرؤى والأحلام، والأحداث الخارقة للعادة،

 ومن ناحية أخرى، فالخبرة الصوفية تحملنا إلى مستوى يتجاوز كل صيغة عقلانية منطقية محددة. فقبل كل شىء نتعامل هنا مع خبرة، أى مع حدث وجودى ذاتى، يدخل الإنسان من خلاله فى اتصال بسر الوجود الأسمى، وهو السر الإلهى. وفى هذا اللقاء، كما يبدو بوضوح من شهادة المتصوفة (mystics) من كل الأديان، قد تحدث أشياء، من "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت"، إذْ إنَّ الصوفى عَبْرَ خبرة عميقة كهذه يتحول فى أعماق كيانه تحولاً جذريًا. فالمتصوفة الذين حصلت لهم خبرة حقيقية مع الله بوصفه المطلق، اختبروا فيها أن كل الحدود التى تحدِّد وتُكبِّل وجودنا البشرى العادى المرسوم فى إطار الزمان والمكان، قد تم تجاوزها بشكل ما. وهذا لأن الخبرةَ الصوفية فى أساسها لقاءٌ مع الحقيقة المطلقة، وحقيقة كهذه لا يمكن أن تصبح ملكًا أو حكرًا لأىِّ كائن، كما أنها لا يمكن حصرها فى حدود ثقافة بشرية معينة. فعلى مستوى الخبرة الصوفية "الروح فقط هو القانون"، يقول الصوفى المسيحى القديس يوحنا الصليب (John of the Cross, d. 1591)، وعلى هذا المستوى يتحلَّى الإنسان بـ "الصفات الإلهية"، كما يقول المتصوفة المسلمون. فعلى أية حال فالمتصوفة يتكلمون بلغة لا يمكن فهمها إلا لمن ذاق مذاق خبرتهم تلك، حسب قولهم "من ذاق عرف"، وشرب من عين مشربهم فيما وراء الصيغ الشكلية العقلانية. فعلى هذا المعنى تأتى العبارة الشهيرة للصوفى محمد عبد الجبار النفرى (ت354هـ/ 965م أو 366هـ/ 976م) فى كتابه الشهير "المواقف والمخاطبات"، "كلَّما اتَّسعَتِ الرؤيةُ ضاقَتِ العبارةُ". إذن، فإن الخبرة الصوفية فى واقع أمرها تَقْصِد، بل يجب أن تكون فى المقام الأول خبرة وجودية حية ملموسة بالحقيقة المطلقة، وإلا فلن تكون صوفية البتة.
إذن، فالخبرة الصوفية، وهى قلب كل خبرة دينية، يجب أن تصير أيضًا بالضرورة الموضِع المميَّز للحوار بين الأديان بل الأساس للحوار بين الثقافات والحضارات أيضًا. وهناك عدد من المجالات المهمة ينبغى بل يجب أن يُجرى فيها الحوار على مستوى هويته الأعمق، كما يكتشف ويَخْبَر أن هويته هذه يشاركه فيها غيره من البشر، وهى جذور الأُخوَّة الإنسانية الأصلية. 
....
المصدر : كتاب التجليات الروحية في الإسلام




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...