الجمعة، 29 مارس 2019

التصوف الإسلامي ودوره في إغناء الفكر والأدب

التصوف الإسلامي ودوره في إغناء الفكر والأدب





رياض عامر القيسي


إن التصوف اليوم ، كما وصل إلينا هو خلاصة القرآن والحديث ، وصفوة علم الكلام وجانب مهم من جوانب الفكر الإسلامي والإنساني بشكل عام .
ومن يتتبع آثارهم يجد نفسه أمام روائع خلفها المتصوفة المسلمون ويجدهم قد تربعوا على قمم انفردوا بالصعود إليها وأخذت نسماتهم تغمرنا وتهز كياننا , لنسلك معهم سفرا جميلا خلابا بألوان مختلفة أصبحت منارا للأدباء والفنانين .
فما من أديب في تاريخ الأدب ، دخل حرم الإبداع ، والخلود ، إلا وفي شعره أو نثره نفحة صوفية . تلك النفحة التي تشبه النسمة التي تهب من فردوس خفي أو كأنها لون جميل أو نغم ممتع يشد السامعين .
فمن يقرأ الشعر الغربي ويستهويه (ريكله) الألماني المميز . ومن يمعن في كتابات
(غوته) ويعشقها ، ومن يعجب بـ (لامارتين دو موسيه) وغيرهم ، ما ذلك الإعجاب بشهادة الكثيرين من الأدباء المعاصرين الا لوجود ما نسميه بالنفح الشرقي أو الصوفي بالتحديد الذي طغا على روح شعرهم وأدبهم .
وعندما يقف المتلقي مبهورا خاشعا في حرم طاغور أو محمد إقبال أو غيرهم من أدباء وشعراء هذا العصر . يجد نفسه منساقا لا محالة إلى مثنوي (جلال الدين الرومي)
أو ترجمان الأشواق ( لابن عربـي ) ، ( وداود بن ابن الفارض ) ، وحِكم ( ابن عطا الله الأسكندري ) .
إن التصوف اليوم ليس مذهبا بل موقف من الحياة جسده أعلامه على مر العصور فأغنوا الأدب العربي والعالمي بأروع الآداب على مر الدهور .
فالوصل والوصال ، والعشق والجمال ، والحسن والجلال هي بعض ما تفيض به قصائدهم وموشحاتهم وأدبهم .
فالخمرة التي عصرت قبل الدهور شراب يسكر به وجود الصوفي ، والحسناء ذات الجمال والعطر والقدر والوصال هي بمثابة اللحن للصوفي الذي يرى فيه جمال الله ، حتى السماع كان له مكانة عظمى في نفوسهم لأنه باب لإثارة الوجد . فأصبح لهم مصطلحات خاصة رمزوا بها إلى حالات وجدانية ، تمتد بآفاق مترامية بعضها يتعامل مع الحسيات والبعض الآخر يجعل الرمزيات طابع لأدبه فأصبحوا معين لا ينضب يغترف منه من سلك طريق الأدب والفن .
فما يعرف في الغرب اليوم باسم الأسلوب الرمزي ، أو ( السوريالي أو الدادي ) ماهو الا محاكاة للأسلوب الرمزي الذي اتخذه بعض المتصوفة من خلال استخدام الجنس ، والرمز ، والجمل التي تخرج عن حد الإفصاح عن المشاعر والخواطر التي تجعل المتلقي أحيانا وكأنه أمام نوع من الصور الشكلية التي تـثير علامات الاستفهام أمامه وكأنه أمام لوحة سريالية ( لسـلفادور دالي ) أو ضبـابـية ل ( رينوار ) أو تكعيـبية متداخلة لـ ( بيكاسو ) . حتى إن احد المعاصرين يصف بقوله ابن سبعين فيقول : ( انه يتكلم بكلام تعقل مفرداته ، ولا تعقل جمله ) .
لم يقتصر دور المتصوفة على اغناء جانب معين من الحياة دون غيره أو التفاعل مع طرف وإهمال الآخر ، فالايجابية التي يمثلها مبدأ التسامح الذي يؤمن به الصوفي جعلت الصوفي صاحب هوية مركبة منفتح على الآخرين ، لا يعتمد على هوية محددة في التعامل مع الآخر ، بل يتقبله ويرى فيه مكملا بصرف النظر عن فوارق اللغة أو العرق أو الدين أو الثقافة أو أي انتماء آخر . وان ما استعرضناه من مراحل للتصوف هي محاولة لبيان ديناميكية الحضور للصوفي وما يمثله التصوف من ردة فعل تناسب كل عصر من العصور ، وتختلف من شيخ لأخر تبعا للظروف الاجتماعية والسياسية أو البيئية المحيطة به ، ويكفينا شاهدا على اختلاف أحوال المشايخ كل حسب منهجه ودعوته ومواكبته للتطورات التي تحيط به هو مقارنة بسيطة بين أقوال وأحوال بعض المشايخ في القرن الثالث الهجري من كبار الصوفية آنذاك ( الجنيد البغدادي ) وخاله وشيخه ( السري السقطي ) ، ومعلمه وشيخه ( معروف الكرخي ) هؤلاء الثلاثة في الرعيل الأول ، من كبار الصوفية وهم موضع ثقة العامة ، وكان احدهم للآخر مريدا وشيخا بالتوالي ولكن نرى ان لكل منهم رأيه الخاص في اللباس والطعام والتعامل مع الناس ، فالسري السقطي كان يلبس لبس الزهاد والصوفية ، أما الشيخ الجنيد البغدادي كان يرتدي ملابس العلماء حتى انه يقال في ذات يوم سأله احد الصحابة : يا شيخ الطريقة ماذا يحصل لو كنت تجليت بالمرقع فقال : ( لو كنت اعلم ان للمرقع فائدة لسبكت ثوبا من الحديد والنار وارتديته ، ولكن ليس الاعتبار بالخرقة وإنما الاعتبار بالحرقة ) ، أما الشيخ معروف الكرخي والذي كان أبواه مسيحيان فان من آثار مسلكه مع الناس انه حين توفى نادت كل الطوائف الدينية من اليهود والنصارى والمسلمين لتقول : ( انه منا ) وهذا دليل على الايجابية التي كان يتمتع بها الصوفي في التعامل مع الناس .
فالتصوف ليس خلقا فحسب ، ولا زهد فقط ، ولا عبادة لا غير ، وهو وان كان متضمنا للخلق الكريم ، والزهد الرفيع ، والعبادة المتجردة , فأنه مع كل ذلك شيء آخر . إن اللذين يربطون بين التصوف من جانب ، والكرامات وخوارق العادات من جانب آخر كثيرون ، ولكن التصوف ليس كرامات ولا خوارق العادات فحسب ، انه شيء يتجاوز الكرامات ، ويتجاوز خوارق العادات.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...