الأربعاء، 20 مارس 2019

حقيقة التصوف

حقيقة التصوف





أشرف الجمال:


-1-


- تعددت آراء الباحثين في مفهوم التصوف والأصول التي استمد منها موضوعه ومادته ومجالات بحثه ، وقد استفاضت الأقلام في بسط هذه القضية والتعبير عنها شرحا وتحليلا وشواهد بما فيه الكفاية، وبما يجعل الكلام فيها تكرارا لا يضيف كثيرا . وقد عرّف الصوفية أنفسهم معنى (التصوف) بأكثر من مائتي تعريف ، غصّت بها المعاجم وكتب الطبقات والرقائق ، إلا أنه يمكن القول إن جميع هذه التعريفات تصب في مفهوم واحد ؛ وهو : التصوف : الوصول لمرتبة الإحسان ، التي يعبد فيها العبد ربه كأنه يراه، فهو في دوام المشاهدة وأنس الشهود، مشغول بربه عما سواه، مراقب له غير ملتفت للأغيار، مطلوبه ربه وحده ؛ فهو قصده وغايته ومبتداه ومنتهاه . ولهذا درج كثير من مشايخ الصوفية تسمية أهل هذا الطريق بـ (أهل الله) و (أهل الإحسان)


- ويكتسب التصوف قيمته الكبرى من موضوعه وغايته وفائدته ، فليس ثمة علم أشرف من العلم بالله ، وليس ثمة غاية أعظم من عبادة الله ، وليس هناك فائدة أجلّ من هداية الخلق لمعرفة باريهم ، والامتثال لمراده بإفناء مرادات أنفسهم وشهواتهم وأهوائهم ، ولا شك أن في ذلك نفعا لا يضاهى يعود على الإنسان والعالم ، فسعادة الإنسان وصلاح العالم هي في امتثال أمر الله ونهيه والاستقامة على طريق المحبة التي ينشدها الصوفي ، تلك المحبة التي لا تفرق بين إنسان وآخر، ولا عرق ولا جنس ولا لون ولا لغة، فالحب هو دين الصوفي وسلوكه ورحلته، والقلب عنده محل مشاهدة الحق سبحانه وتعالى، والله عز وجلّ لا يتجلى على قلب غير عامر بالمحبة، تعكر مرآة شهوده الأنانية والكراهية والعنصرية البغيضة، إذ يؤمن الصوفي أن الخلق جميعا عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، ويدرك الصوفي أن الطرق إلى الله متعددة بعدد أنفاس الخلائق، فلا مجال هنا للمصادرة والتعصب وإقصاء الآخر، فلكل إنسان شفرة وجود تربطه بخالقه، وفي كل إنسان موطن قابل لظهور التجلي ، ولكل قلب إسراؤه ولكل روح معراجها ، والعباد على سفر، والله مقصود الكل . فالصوفي يعظم قدْر إنسانية الإنسان حتى وإن خالفه مذهبا وعقيدة ودينا ، لأنه ينظر إلى الخلق باعتبار أنهم مضافون إلى الله فيجلّ فيهم قَدَرَ الله ويرضى بحكمه على جبلّتهم وبعلمه ومشيئته ومراده الأزلي في صنيعته ، فلا يرى الصوفي لنفسه فضلا في طاعته حتى يتباهى بها على من سواه .


-2-

- والتصوف علم وتجربة وذوق ؛ هو علم من حيث أصوله واصطلاحه ومناهج بحثه ، وخبرة ودراية تكتسب بالرياضة والمجاهدة وصحبة الأشياخ والتلقي عن العارفين والبحث والاطلاع ، ولكن هذا العلم وحده لا ينهض بتجربة الصوفي ويرتقي به معارج المقامات ما لم يصحبه ذوق ويؤازره كشف ، فمن درس التصوف - وإن علا قدْر علمه - لا يرتقي بمعرفته وشهود روحه ارتقاء مريد في بدء رحلته تلقّى من معين العرفان بصحبة وليٍّ صالح أو شيخ مُرَبٍّ ، فليس من وَصَفَ سماعا كمن عاش ، ولهذا اشترط الصوفية وجود الشيخ المربي لأنه بمثابة الدليل ومحل مراجعة المريد ، بحيث لا يكون مرجعية نفسه ، فلا علم يكون صاحبه مرجعه ، وقاصده هو نفسه تلميذه ومعلمه ، لأن ذلك يجعل المريد القاصد محل إظهار التلبيس والتلوين ومداخلات النفس والهوى الشيطان ، لذلك قالوا : من لا شيخ له فالشيطان شيخه ؛ إذ أن من ارتضى نفسه معيارا في العلم ومرجعا له بلا توقيف أو مراجعة رد الحقائق لنفسه على الإطلاق ، وجعل
من نفسه ميزانا للمعارف ومقياسا للعلم الذي هو نسبي بطبيعته ، وحكم على الأكوان بمن فيها وما فيها بمحض خبرته الذاتية المحدودة ، وقيّد الحقائق بقيود فهمه وعلى قدر علمه ، لم يأمن في ذلك الزلل والضلال وهو يحسب أنه يحسن صنعا .

-3-


- ومن حيث إن التصوف علم ، فهو علم مقيد بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ وكما قالوا : الشرع سيف على رقاب العباد ، وقالوا : من تصوف ولم يتفقه فقد
تزندق ، وقالوا كل حقيقة غير مقيدة بشريعة فهي مردودة . وجعلوا من الطريق الصوفي الذي يبدأ بالعبد وينتهي بالمولى عز وجل : شريعة وحقيقة ، فلا ينفذ إلى الحقائق من لم يوفِّ الشريعة حقها وواجبها على أكمل الوجوه ، لكنهم فهموا الشريعة فهما أكثر رحابة من غيرهم ، ولاحظوا فيها الإنسان كما لاحظوا الأحكام ، ورأوها بعين الجمال والرحمة التي شاهدوها في واضعها ومشرعها ، فكانوا بالبشر راحمين ، وللظرف الإنساني والواقع والوقائع مدركين ، فلم يقفوا عند حد الجمود في فهمها ، وجعلوها سلم ارتقاء إلى معارج القرب ، لا قانونا جامدا يتعالى على جبلّة البشر ويتخطى زمانهم ومكانهم . وقالوا : إن الدين : إسلام وإيمان وإحسان؛ فالإسلام : القيام بالشريعة أمرا ونهيا والوفاء بها ، ثم الإيمان وهو حقائق القلب وعبادته ،
ثم الإحسان وهو عبادة الروح ومشاهدتها ، ولا يمكن الانتقال لباب من أبواب الدين الثلاثة إلا باستيفاء واجبات الباب الذي يسبقه .

- ومن حيث إن التصوف علم أيضا ، فلكل علم مجال ووسيلة إدراك ؛ وتنقسم العوالم المدركة في التصور الصوفي إلى ثلاثة عوالم : عالم المُلك ، وهو عالم المدركات الحسية ، وتشمل الكون وظواهره وأسبابه وأعيانه ، ووسيلة إدراكه العقل . ثم عالم الملكوت ، وهو عالم الحقائق الغيبية والمجردات الملكوتية ، ووسيلة إدراكه القلب ، لأنه فوق استعداد العقل . ثم معرفة الله سبحانه وتعالى ووسيلتها الروح ، كما قال الإمام علي كرم الله وجهه : العالِم : من عرف الله بالروح . وليست هذه التقسيمات حدّية تفصل بين آفاق المعرفة ووسائلها ، وإنما هي على اتصال دائم ومتبادل وفاعلية مشتركة في تحقيق قيم الإدراك وتَعَيُّن الوعي بالحقائق ، لأن الإنسان كُلٌ متكامل ، وهو النسخة الكونية الصغرى ، وهو أيضا كتاب الله الصغير ، ومحل ظهور التجلي الإلهي الصفاتي والأسمائي الذي هو بمثابة الأمانة التي أبت السموات والأراضين عجزا أن يحملنها .


-4-

- لقد استطاع الصوفية بفضل من الله وإخلاص منهم في طلب الحقيقة أن يقدموا للعالم الكثير والكثير ، ولا زالت أفضالهم تغمر الدنيا علما وفهما ، محبة وتسامحا ؛ فقد انتقلوا بقضية الإلوهية من الحاكمية إلى العرفان ، فالله في التصور الصوفي إله عرفاني يتصف بكل صفات الجمال والرحمة والحب لخلقه ، رحيم بعباده ، بار بصنعته ، لطيف بهم ، مشفق عليهم ، مطلوبه منهم أن يعرفوه وأن يتفضل عليهم بمحبته ورحمته واهبا إياهم الخلود ، فكما مَنَّ عليهم بنعمة الإيجاد فقد تكفل بهم في الدنيا والآخرة . والجهاد فيه جهاد لمعرفته والإحسان لخلقه ، لا جهاد بخصومة الخلق وعداوتهم وإثارة الحروب والضغائن . وانتقل الصوفية بالإلوهية في معناها المجرد إلى أفق إنساني هو بمثابة مسرح تجلي للربوبية ، فالتجلي الإلهي سارٍ في الأشياء في الابن والزوجة والصديق والأم والأب والحبيبة والحبيب ، في الطير والحيوان والنبات وفي الجمادات ، وهو ما أضفى على العالم مسحة قدسية تحول بين الصوفي وانتهاك هذا العالم ما ومن فيه ، فكل ما في الكون قائم بالله وذاكر لله ومسبح باسم الله ودال على الله ومظهر لتجلي الله ، فالكون لوحة فنية عظيمة أبدعها الخالق الجميل لنتأملها ونتحد بها لنصبح جزءا منها ، لا لنشوّه مبناها ومعناها ، الكون في وجهة نظر الصوفي كتاب الله المنظور ، عنوان إبداع لا يسبر غوره إلا بالقراءة والتأمل ، وعليه فالعلم به عبادة ، وتأكيد قيم النور والخير والجمال فيه صلاة ، والانسجام مع أعيانه وخلائقه رحلة حنين ، وإبحار للانتقال من الظاهر للباطن ، ومن المرئي للامرئي ، ومن النسبي إلى المطلق، ومن الصور إلى المصور ، فيفنى الذات والموضوع فناء محبة وعشق لا فناء جوهر وتكوين ، حتى يصبح الإنسان والكون والله محل شهود الواحدية وتجلي جمال الأحدية .


- كما استطاع الصوفية أن يخرجوا الدين من دائرة الفقهية المتكلسة التي أصابته بالجمود لا لعلة فيه وإنما لضيق أفق من جعله مجرد قوانين تتجاوز أفق الزمان والمكان وتتعالى على الواقع وطبيعة الإنسان ، فمنحوا النصوص رحابة للفهم والتأويل ، واستثاروا طاقات اللغة لتتجاوز ذاتها ، واستنفروا جماليات التعبير والرموز لتلمس الحقائق وتشير إلى المجرد وتنتقل بالوعي من كثافة الحس إلى لطافة الروح ، ومن القانون إلى جمال المقنن ورحمته، ومن قيد المادة إلى إطلاق المعنى ، ومن طينية الوجود إلى وهج الروح الكامنة فيه ، ومن حتمية الزمان وجبرية المكان إلى تخطي منطق الضرورة وقيد الأسباب ، فكسروا المسافة بين المُلك والملكوت ، والماضي والحاضر والمستقبل ، والموت والحياة ، وانطلقوا عبر برزخ الحقائق بين المادة والمثال يؤسسون وجودا جميلا حرا عفيّا تسوده المحبة وتؤصل له الحقيقة المستمدة من رب الحقائق لا ميتافيزيقا وأوهام العقل الذي أخفق أن يتجاوز سطور الكون إلى معناه ، وجسد اللحن إلى كنه موسيقاه ، بحيث يمكن القول في اطمئنان : الصوفي : عابد زاهد ، وفنان ملهم ، وباحث متأمل ، وعاشق متفانٍ ، ورحّالة مخلص لا يعرف المستحيل ، دينه الحب ، ومراده المحبوب .

***
المصدر: معجم مصطلحات التصوف - تأليف أشرف الجمال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...