الخميس، 11 أبريل 2019

كرامات الأولياء



كرامات الأولياء



                                                     

إثبات الكرامات ـ الحكمة من الكرامات ـ
الفرق بين الكرامة والاستدراج ـ موقف الصحابة من الكرامات
كثر تساؤل الناس في هذا الزمان عن الكرامات ؛ هل هي ثابتة في الشرع ؟ هل لها دليل من الكتاب والسنة ؟ ما هي الحكمة من إِجرائها على يد الأولياء والمتقين ؟ .. إِلخ. وبما أن موجات الإِلحاد والمادية، وتيارات التشكيك والتضليل قد كثرت في هذا الوقت، فأثرت في عقول كثير من أبنائنا، وأضلَّت العديد من مثقفينا، وحملتهم على الوقوف من الكرامات موقف المنكر الجاحد، أو الشاكِّ المتردِّد، أو المستغرب المتعجب نتيجة لضعف إِيمانهم بالله وقدرته وقلة تصديقهم بأوليائه وأحبابه.

فلا يسعنا إِلا أن نعالج هذا الموضوع إِظهاراً للحق، ونصرة لشريعة الله تعالى.
إِثبات الكرامات:
لقد ثبتت كرامات الأولياء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي آثار الصحابة رضوان الله عليهم، ومَنْ بعدهم إِلى يومنا هذا، وأقرها جمهور العلماءِ من أهل السنة والجماعة، من الفقهاء والمحدِّثين والأصوليين ومشايخ الصوفية، وتصانيفُهم ناطقة بذلك، كما ثبتت كذلك بالمشاهدة العيانية في مختلف العصور الإِسلامية. فهي ثابتة بالتواتر في المعنى، وإِن كانت التفاصيل آحاداً ؛ ولم ينكرها إِلا أهل البدع والانحراف ممن ضعف إِيمانهم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله [قال العلامة اليافعي رحمه الله تعالى: (والناس في إِنكار الكرامات مختلفون، فمنهم من ينكر كرامات الأولياء مطلقاً، وهؤلاء أهل مذهب معروف، عن التوفيق مصروف. ومنهم من يكذب بكرامات أولياء زمانه ويصدق بكرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانه كمعروف الكرخي والإِمام الجنيد وسهل التستري وأشباههم رضي الله عنهم، فهؤلاء كما قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: والله ما هي إِلا إِسرائيلية، صدقوا بموسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أدركوا زمنه. ومنهم من يصدق بأن لله تعالى أولياء لهم كرامات ولكن لا يصدق بأحد معيَّنٍ من أهل زمانه). روض الرياحين، للإِمام اليافعي ص18].

الدليل عليها من كتاب الله تعالى:
1ـ قصة أصحاب الكهف وبقائهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة وتسع سنين، وأنه تعالى كان يحفظهم من حر الشمس: {وتَرى الشمسَ إذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عنْ كهفِهِم ذاتَ اليمينِ وإذا غَرَبَتْ تقرِضُهُم ذاتَ الشمالِ} [الكهف: 17]. إِلى أن قال: {وتحسَبُهُم أيقاظاَ وهُمْ رُقودٌ ونُقلِّبُهُم ذات اليمين وذات الشمال وكلْبُهُم باسِطٌ ذراعيهِ بالوصيدِ} [الكهف: 18]. إِلى أن قال: {ولَبِثوا في كَهْفِهِم ثلاثمئةٍ سنين وازدادوا تسعاً} [الكهف: 25] [قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره الكبير عند قصة أصحاب الكهف: (احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر، فنقول: الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول..) انظره مفصلاً في التفسير الكبير للعلامة فخر الدين الرازي ج5 ص682].

2ـ هزُّ مريم جذعَ النخلة اليابس، فاخضرَّ وتساقط منه الرُّطَبُ الجني في غير أوانه، قال تعالى: {وهُزِّي إليكِ بجذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عليكِ رُطَباً جنيّاً} [مريم: 25].
3ـ ما قص الله علينا في القرآن، من أن زكريا عليه السلام كان كلما دخل على مريم المحراب، وجد عندها رزقاً، وكان لا يدخل عليها أحد غيره عليه السلام فيقول: يا مريم أنَّى لك هذا ؟ تقول: هو من عند الله. قال الله تعالى: {كلَّما دخَلَ عليها زكريا المحرابَ وَجَدَ عندَها رِزْقاً قال يا مريمُ أنَّى لكِ هذا قالَتْ هوَ مِنْ عندِ اللهِ} [آل عمران: 37].
4ـ قصة آصف بن برخيا مع سليمان عليه السلام على ما قاله جمهور المفسرين في قوله تعالى: {قالَ الذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتيكَ بهِ قبْلَ أنْ يرتَدَّ إليكَ طرفُكَ} [النمل: 40]. فجاء بعرش بلقيس من اليمن إِلى فلسطين قبل ارتداد الطرف.

الدليل عليها من السنة الصحيحة:
1ـ قصة جُرَيْجٍ العابد الذي كلمه الطفل في المهد. وهو حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إِلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إِسرائيل رجل يقال له جُرَيْج، كان يصلي فجاءته أمه، فدعتْه، فقال: أُجيبُها أوْ أصلي ؟ فقالت: اللهم لا تمتْه حتى تريه وجوه المومسات. وكان جريج في صومعته فتعرّضت له امرأة وكلمته ؛ فأبى. فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج. فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبّوه، فتوضأ وصلّى، ثم أتى الغلام ؛ فقال: مَن أبوك يا غلام ؟ فقال: الراعي. قالوا: نبني صومعتك من ذهب ؟ قال: لا، إِلا من طين.."].
2ـ قصة الغلام الذي تكلم في المهد [وهذا تمام الحديث المذكور آنفاً: ".. وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بني إِسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه". قال أبو هريرة: كأني أنظر إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إِصبعه. "ثم مرَّ بأمَة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: لِمَ ذاك ؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمَة يقولون: سرقت، زنت، ولم تفعل". رواه البخاري في صحيحه في كتاب ذكر بني إِسرائيل، واللفظ له. ومسلم في كتاب بر الوالدين].

3ـ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، وانفراج الصخرة عنهم بعد أن سَدَّتْ عليهم الباب. وهو حديث متفق عليه [وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إِلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إِنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبْتُ لهما غبُوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثْتُ والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برِقَ الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إِن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فَفَرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم إِنه كانت لي بنتُ عم، كانت أحب الناس إِلي، فأردتها على نفسها، فامتنعت مني: حتى ألمَّتْ بها سنة من السنين فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إِذا قدرتُ عليها قالت: لا أحل لك أن تفضَّ الخاتم إِلا بحقه، فتحرَّجْتُ من الوقوع عليها فانصرفْتُ عنها وهي أحب الناس إِلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إِن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهبَ، فثمَّرتُ أجرَه، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله! أدِّ إِليَّ أجري، فقلت له: كلُّ ما ترى من أجرك من الإِبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله: لا تستهزىء بي. فقلت: إِني لا أستهزىء بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإِن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرجْ عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون". أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإِجارة واللفظ له، ومسلم في كتاب الذكر].
4ـ قصة البقرة التي كلمت صاحبها. وهو حديث صحيح مشهور [روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل راكب على بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إِليه البقرة فقالت: إِني لم أُخلَق لهذا، وإِنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنْتُ بهذا أنا وأبو بكر وعمر". رواه البخاري في صحيحه في كتاب المزارعة، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، والترمذي في كتاب المناقب].
الدليل عليها من آثار الصحابة:
وقد نُقِل عنهم من الكرامات الشيء الكثير.
1ـ قصة أبي بكر رضي الله عنه مع أضيافه في تكثير الطعام، حتى صار بعد الأكل أكثرَ مما كان. وهو حديث صحيح في البخاري [أخرج البخاري: أن أبا بكر كان عنده أضياف، فقدم لهم الطعام فلما أكلوا منه ربا من أسفله حتى إِذا شبعوا قال لامرأته: (ياأخت بني فراس ما هذا ؟ قالت: وقرة عيني لهي [تعني القصعة] أكثر منها قبل أن يأكلوا.. إِلى آخر القصة].
2ـ قصة عمر رضي الله عنه، وهو على منبر المدينة ينادي بقائده: يا سارية الجبل! وهو حديث حسن [انظر الحديث ص 344].
3ـ قصة عثمان رضي الله عنه مع الرجل الذي دخل عليه، فأخبره عما أحدث في طريقه من نظره إِلى المرأة الأجنبية. الحديث [انظر الحديث ص 346].
4ـ سماع علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلامَ الموتى. كما أخرجه البيهقي [أخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: (دخلنا مقابر المدينة مع علي رضي الله عنه، فنادى: يا أهل القبور السلام عليكم ورحمة الله، تخبرونا بأخباركم أم نخبركم ؟ قال: فسمعنا صوتاً: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين خبِّرنا عما كان بعدنا. فقال علي: أما أزواجكم فقد تزوجن، وأما أموالكم فقد اقتُسمت، والأولاد قد حُشِروا في زمرة اليتامى، والبناء الذي شيدْتم فقد سكنه أعداؤكم، فهذه أخبار ما عندنا، فما أخبار ما عندكم ؟ فأجابه ميت: قد تخرَّقت الأكفان، وانتثرت الشعور، وتقطعت الجلودَ، وسالت الأحداق على الخدود، وسالت المناخر بالقيح والصديد، وما قدَّمناه وجدناه وما خلَّفناه خسرناه، ونحن مُرْتَهنون)].
5ـ قصة عبَّاد بن بشر وأسيد بن حضير رضي الله عنهما اللذيْن أضاءتْ لَهمَا عصا أحدهما عندما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة. وهو حديث صحيح أخرجه البخاري [أخرج الحاكم في كتاب معرفة الصحابة وصححه والبيهقي وأبو نعيم وابن سعد، وهو في البخاري من غير تسمية الرجلين: "أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، خرجا وبيد كل واحد منهما عصا فأضاءت لهما عصا أحدهما فمشيا في ضوئها، حتى إِذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله"].
6ـ قصة خبيب رضي الله عنه في قطف العنب الذي وُجدفي يده يأكله في غير أوانه. وهو حديث صحيح [أخرج البخاري في صحيحه في باب غزوة الرجيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خبيباً كان أسيراً عند بني الحارث بمكة، في قصة طويلة، وفيها أن بنت الحارث كانت تقول: (ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة وإِنه لموثَق في الحديد، وما كان إِلا رزق رزقه الله)].
7ـ قصة سعد وسعيد رضي الله عنهما، وهي أن كلاً منهما دعا على من كذب عليه، فاستجيب له. أخرجه البخاري ومسلم [الأول منهما: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان والبيهقي من طريق عبد الملك بن عمير عن جابر رضي الله عنه قال: شكا ناس من أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إِلى عمر (فبعث معه من يسأل عنه بالكوفة، فطِيف به في مساجد الكوفة، فلم يُقل له إِلا خير حتى انتهى إِلى مسجد، فقال رجل يُدْعى أبا سعدة: أما إِذ أنشدتنا فإِن سعداً كان لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية ولا يعدل في القضية، فقال سعد: اللهم إِن كان كاذباً فأطلْ عمره، وأطل فقره وعرضه للفتن، قال ابن عمير: فرأيتُه شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وقد افتقر يتعرض للجواري في الطريق يغمزهن، فإِذا قيل له: كيف أنت ؟ يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد).

والثاني: سعيد بن زيد رضي الله عنه. فقد أخرج مسلم في كتاب المساقاة عن عروة بن الزبير رضي الله عنه: (أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إِلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: وما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقه إِلى سبع أرضين" فقال له مروان: لا أسألك بَيِّنَةً بعد هذا. فقال: اللهم إِن كانت كاذبة فَعَمِّ بصرها واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إِذ وقعت في حفرة فماتت)].
8ـ قصة عبور العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر على فرسه ونبع الماء بدعائه. أخرجه ابن سعد في الطبقات [كان أبو هريرة يقول: (رأيتُ من العلاء بن الحضرمي ثلاثةَ أشياء لا أزال أحبه أبداً، رأيته قطع البحر على فرسه يوم دارينَ. وقدم من المدينة يريد البحرين، فلما كانوا بالدهناء نفد ماؤهم، فدعا الله فنبع لهم من تحت رملة، فارتووا وارتحلوا، وأنسي رجل منهم بعض متاعه، فرجع فأخذه ولم يجد الماء. وخرجتُ معه من البحرين إِلى صف البصرة فلما كنا بلِياسٍ مات ونحن على غير ماء، فأبدى الله لنا سحابة فمُطرنا فغسلناه وحفرنا له بسيوفنا ولم نُلْحِدْ له، فرجعنا لنُلْحِدَ له فلم نجد موضع قبره). الطبقات الكبرى لابن سعد. ج4. ص363].
9ـ قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في شربه السم. أخرجه البيهقي وأبو نعيم والطبراني وابن سعد بإِسناد صحيح [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن أبي السفر قال: نزل خالد بن الوليد الحيرة، فقالوا له: احذر السم لا تسقيكه الأعاجم فقال: ائتوني به، فأخذه بيده وقال: بسم الله وشربه، فلم يضره شيئاً. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ج3. ص125].
10ـ إِضاءة أصابع حمزة الأسلمي رضي الله عنه في ليلة مظلمة. أخرجه البخاري في التاريخ [أخرج البخاري في التاريخ عن حمزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا ظهرهم وما هلك منهم وإِن أصابعي لتنير). انظر تهذيب التهذيب ج3. ص30].
11ـ قصة أم أيمن وكيف عطشت في طريق هجرتها، فنزل عليها دلو من السماء فشربتْ. رواه أبو نعيم في الحلية [عن عثمان بن القاسم قال: (خرجت أم أيمن مهاجرة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إِلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت أن تموت من شدة العطش، قال: وهي بالروحاء أو قريباً منها، فلما غابت الشمس قالت: إِذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعتُ رأسي ؛ فإِذا أنا بدلو من السماء مدلَّى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إِذا كان حيث أستمكن منه تناولْتُه فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش، وما عطشْتُ بعدها. أخرجه أبو نعيم في الحلية ج2. ص67].
12ـ سماع بعض الصحابة سورة الملك، من قبر بعد أن ضرب خباء فوقه. رواه الترمذي [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة {تبارك الذي بيده الملك} حتى ختمها،فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فقال يا رسول الله: إِني ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإِذا فيه إِنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر". أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، وقال: حديث حسن غريب].
13ـ تسبيح القصعة التي أكل منها سلمان الفارسي وأبو الدرداء رضي الله عنهما وسماعهما التسبيح. رواه أبو نعيم [أخرج البيهقي وأبو نعيم عن قيس قال: (بينما أبو الدرداء وسلمان يأكلان من صحفة إِذا سبَّحتْ وما فيها)].
14ـ قصة سفينة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسد. أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية [عن محمد بن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ركبتُ البحر فانكسرتْ سفينتي التي كنت فيها، فركبْتُ لوحاً من ألواحها، فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل إِليَّ يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وأقبل إِليَّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم فظننت أنه يودعني، فكان ذلك آخر عهدي به). أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة ج3. ص606، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأبو نعيم في الحلية ج1. ص368 وسفينة هو: قيس بن فروخ وكنيته أبو عبد الرحمن. ذكره ابن حجر في التهذيب ج4. ص125].
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير مما ورد عن كرامات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توالى ورود الكرامات الكثيرة على يد الأولياء في عهد التابعين وتابعي التابعين إِلى يومنا هذا، مما يصعب عده، ويضيق حصره [قال العلامة التاج السبكي في الطبقات الكبرى: للكرامة أنواع: النوع الأول إِحياء الموتى. 2ـ كلام الموتى. 3ـ المشي على الماء. 4ـ انقلاب الأعيان. 5ـ إِنزواء الأرض. 6ـ كلام الحيوانات والجمادات. 7ـ إِبراء العلل. 8ـ طاعة الحيوان. 9ـ طي الزمان. 10ـ نشر الزمان. 11ـ إِمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه.. إِلى أن عد خمسة وعشرين نوعاً. وذكر لكل نوع مثالاً وحكاية جرت للعلماء ومشايخ الصوفية فراجعه هناك تجده مفصلاً]، وقد ألف العلماء في ذلك مجلدات كثيرة، وصنف أكابر الأئمة منهم مصنفات في إِثبات الكرامة للأولياء، منهم: فخر الدين الرازي وأبو بكر الباقلاني، وإِمام الحرمين، وأبو بكر بن فورك، وحجة الإِسلام الغزالي، وناصر الدين البيضاوي، وحافظ الدين النسفي، وتاج الدين السبكي، وأبو بكر الأشعري، وأبو القاسم القشيري، والنووي، وعبد الله اليافعي، ويوسف النبهاني، وغيرهم من العلماء المحققين الذين لا يحصى عددهم، وصار ذلك علماً قوياً يقينياً ثابتاً، لا تتطرق إِليه الشكوك أو الشبهات.
وقد يتساءل بعضهم: لماذا كانت كرامات الصحابة على كثرتها أقل من كرامات الأولياء الذين جاؤوا بعد عصر الصحابة ؟!.. ويجيب على ذلك تاج الدين السبكي في الطبقات بقوله: (الجواب: ما أجاب به الإِمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين سئل عن ذلك، فقال: أُولئك كان إِيمانهم قوياً، فما احتاجوا إِلى زيادة شيء يقوون به، وغيرهم كان إِيمانهم ضعيفاً لم يبلغوا إِيمان أولئك فقووا بإِظهار الكرامات لهم) [جامع كرامات الأولياء للشيخ يوسف النبهاني البيروتي ج1. ص20].

الحكمة من إِجراء الكرامات على يد الأولياء:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكرم أحبابه وأولياءه بأنواع من خوارق العادات، تكريماً لهم على إِيمانهم وإِخلاصهم، وتأييداً لهم في جهادهم ونصرتهم لدين الله، وإِظهاراً لقدرة الله تعالى، ليزداد الذين آمنوا إِيماناً، وبياناً للناس أن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية إِنما هي من صنع الله وتقديره، وأن الأسباب لا تؤثر بذاتها ؛ بل الله تعالى يخلق النتائج عند الأسباب لا بها، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.

وقد يقول معترض: إِن تأييد الحق ونشر دين الله لا يكون بخوارق العادات، بل يكون بإِقامة الدليل المنطقي والبرهان العقلي.
فنقول: نعم لابد من نشر تعاليم الإِسلام بتأييد العقل السليم والمنطق الصحيح والحجة الدامغة، ولكن التعصب والعناد يدعوان إِلى أن تخرق العادات بالكرامات كما اقتضت حكمة الله أن يؤيد أنبياءه ورسله بالمعجزات إِظهاراً لصدقهم، وتأييداً لهم في دعوتهم، وحملاً للعقول المتحجرة والقلوب المقفلة أن تخرج من جمودها، وتتحرر من تعصبها، فتفكر تفكيراً سليماً مستقيماً يوصلها إِلى الإِيمان الراسخ، واليقين الجازم. ومن هنا يظهر أن الكرامة والمعجزة تلتقيان في بعض الحِكَم والمقاصد، إِلا أن الفارق بينهما أن المعجزة لا تكون إِلا للأنبياء عليهم السلام، والكرامة لا تكون إِلا للأولياء، وكلُّ كرامة لولي معجزةٌ لنبي.

الفرق بين الكرامة والاستدراج:
لا بد من التنبيه إِلى الفرق بين الكرامة والاستدراج، وذلك لأننا نشاهد بعض الفسقة المنسوبين للإِسلام تجري على يديهم خوارق العادات؛ مع أنهم مجاهرون بالمعصية، منحرفون عن دين الله تعالى. فالكرامة لا تكون إِلا على يد وليٌّ، وهو صاحب العقيدة الصحيحة، المواظب على الطاعات، المتجنب للمعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، وهو الذي قال الله تعالى فيه: {ألا إنَّ أولِياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهِمْ ولا هُمْ يحزَنُونَ . الذينَ آمنوا وكانُوا يتَّقونَ} [يونس: 62ـ63]. وأما ما يجري على يد الزنادقة والفسقة من الخوارق كطعن الجسم بالسيف وأكل النار والزجاج وغير ذلك، فهو من قبيل الاستدراج.

ثم إِن الولي لا يسكن إِلى الكرامة، ولا يتفاخر بها على غيره، قال العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير: (إِن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة، بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد، وحذره من قهر الله أقوى، فإِنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج.
وأما صاحب الاستدراج، فإِنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه، ويظن أنه إِنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها، وحينئذٍ يحتقر غيره، ويتكبر عليه، ويحصل له أَمْنٌ مِنْ مكْرِ الله وعقابه، ولا يخاف سوء العاقبة، فإِذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة، فلهذا قال المحققون: أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إِنما وقع في مقام الكرامات، فلا جَرَمَ أن ترى المحققين يخافون من الكرامات، كما يخافون من أنواع البلاء، والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه) ثم ذكرها حتى عدَّ إِحدى عشرة حجة، نذكر منها واحدة.
قال الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: (إِنَّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً لكرامة بسبب عمله، حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومَنْ كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً، ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير، وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور، وكلُّ معارفهم وعلومهم في مقابلة عزته حيرةٌ وجهلٌ، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالحُ يرفَعُهُ} [فاطر: 10]. فقال: علامةُ أن الحق رفع عملك أن لا يَبْقى عندك [أي عملك] فإِن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع، وإِن لم يبق معك فهو مرفوع) ["تفسير الرازي" ج5. ص692].

وعلى هذا فإِننا حين نرى أحداً من الناس يأتي بخوارق العادات لا نستطيع أن نحكم عليه بالولاية، ولا يمكن أن نعتبر عمله هذا كرامة حتى نرى سلوكه وتمسكه بشريعة الله. قال أبو يزيد رحمه الله تعالى: (لو أن رجلاً بسط مُصلاَّه على الماء وتربَّعَ في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه في الأمر والنهي) ["اللمع" للطوسي ص400].

موقف الصوفية من الكرامات:
إِن بعض المنحرفين عن الصوفية يدَّعي أن مقصد الصوفية من سيرهم هو الوصول إِلى الكرامات [من بينهم عبد الرحمن الوكيل الذي دفعه الحقد الدفين والخلق الذميم إِلى التهجم على السادة الصوفية وتزييف كلامهم والدس عليهم، فجمع الأشياء التي دُسَّتْ على الصوفية وجعلها في كتاب له] وهم في هذا إِنما يُترجمون عما في نفوسهم من أمراض خبيثة وعلل دفينة ؛ مع أننا نرى الصوفية يهتمون بتزكية النفس وتخليصها من صفاتها المذمومة كالرياء والنفاق، وتحليتها بالصفات العالية، أن يكون سيره معهم بعيداً عن العلل والغايات، وألا يبتغي إِلا وجه الله تعالى ورضاه. كما نراهم يستترون من الكرامة بعداً عن شبهة الرياء.

قال الشيخ أبو عبد الله القرشي رحمه الله تعالى: (من لم يكن كارهاً لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصي فهو في حقه حجاب، وسترها عليه رحمة، فإِنَّ من خرق عوائد نفسه لا يريد ظهور شيء من الآيات وخوارق العادات له، بل تكون نفسه عنده أقل وأحقر من ذلك، فإِذا فَنِيَ عن إِراداته جملةً فكان له تحقق في رؤية نفسه بعين الحقارة والذلة، حصلت له أهلية ورود الألطاف، والتحقق بمراتب الصديقين) [نور التحقيق لحامد صقر ص127].

وقال علي الخواص رحمه الله تعالى: (الكُمَّل يخافون من وقوع الكرامات على أيديهم، ويزدادون بها وجلاً وخوفاً لاحتمال أن تكون استدراجاً) [اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ج2 ص113].
ثم إِن الصوفية يمنعون إِظهار الكرامة إِلا لغرض صحيح ؛ كنصرة شريعة الله أمام الكافرين والمعاندين [كما حدث مع الشيخ محي الدين بن عربي في قصته مع الفيلسوف، وهو يرويها لنا بقوله: (حضر عندنا سنة ست وثمانين وخمسمائة فيلسوفٌ ينكر النبوة على الحد الذي يثبتها المسلمون، وينكر ما جاءت به الأنبياء من خرق العوائد وأن الحقائق لا تتبدل، وكان زمن البرد والشتاء وبين أيدينا منقل عظيم يشتعل ناراً، فقال المنكر المكذب: إِن العامة تقول: إِن إِبراهيم عليه السلام أُلقي في النار فلم تحرقه، والنار محرقة بطبعها الجسوم القابلة للاحتراق، وإِنما كانت النار المذكورة في القرآن في قصة إِبراهيم عبارة عن غضب نمرود وحنقه، فهي نار الغضب. فلما فرغ من قوله قال له بعض الحاضرين [أي الشيخ محي الدين نفسه]: فإِن أريتك أنا صدق الله في ظاهر ما قاله في النار أنها لم تحرق إِبراهيم، وأن الله جعلها عليه ـ كما قال ـ برداً وسلاماً، وأنا أقوم لك في هذا المقام مقام إِبراهيم في الذبِّ عنه ؟ فقال المنكر: هذا لا يكون، فقال له: أليست هذه النار المحرقة ؟ قال: نعم. فقال: تراها في نفسك، ثم ألقى النار التي في المنقل في حِجْر المنكر، وبقيتْ على ثيابه مدة يقلبها المنكر بيده، فلما رآها لم تحرقه تعجب، ثم ردها إِلى المنقل، ثم قال له: قرّبْ يدك أيضاً منها، فقرَّبَ يده فأحرقته. فقال له: هكذا كان الأمر، وهي مأمورة، تحرق بالأمر وتترك الإِحراق كذلك، والله تعالى الفاعل لما يشاء. فأسلم ذلك المنكِرُ واعترف). الباب الخامس والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص371] وكإِبطال سحر الكافرين والضالين أو الفسقة المشعوذين الذين يريدون أن يضلوا الناس عن دينهم ويشككوهم في عقائدهم وإِيمانهم [ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية من أنَّ صوفياً ناظر برهمياً، والبراهمة قوم تظهر لهم خوارق لمزيد الرياضات، فطار البرهمي في الجو، فارتفعت إِليه نعل الشيخ ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه حتى وقع على الأرض منكوساً على رأسه بين يدي الشيخ والناس ينظرون. انظر الفتاوى الحديثية لابن حجر ص222]. أما إِظهارها بدون سبب مشروع فهو مذموم، لما فيه من حظ النفس والمفاخرة والعجب.

قال الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى: (ولا يخفى أن الكرامة عند أكابر الرجال معدودة من جملة رعونات النفس، إِلا إِنْ كانت لنصر دين أو جلب مصلحة، لأن الله تعالى هو الفاعل عندهم، لا هُمْ، هذا مشهدهم، وليس وجه الخصوصية إِلا وقوع ذلك الفعل الخارق على يدهم دون غيرهم ؛ فإِذا أحيا كبشاً مثلاً أو دجاجة فإِنما ذلك بقدرة الله لا بقدرتهم، وإِذا رجع الأمر إِلى القدرة فلا تعجب) [الباب الخامس والثمانون والمائة من الفتوحات المكية. كذا في اليواقيت والجواهر للشعراني ج2. ص117].

ثم إِن الصوفية يعتبرون أن أعظم الكرامات هي الاستقامة على شرع الله تعالى.
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (واعلم أن من أجلِّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات، والحفظ من المعاصي والمخالفات) ["الرسالة القشيرية" ص160].

وذُكر عند سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى الكرامات فقال: (وما الآياتُ وما الكراماتُ ؟! أشياء تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكرامات أنْ تُبدّلَ خُلُقاً مذموماً من أخلاق نفسك بخُلق محمود) ["كتاب اللمع" للطوسي ص400].

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: (الكرامة الحقيقية إِنما هي حصول الاستقامة، والوصول إِلى كمالها. ومرجعها أمران: صحة الإِيمان بالله عز وجل. واتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ؛ فالواجب على العبد أن لا يحرص إِلاّ عليهما ولا تكون له همة إِلا في الوصول إِليهما. وأما الكرامة بمعنى خرق العادة فلا عبرة بها عند المحققين، إِذ قد يُرْزَقُ بها من لم تكتمل استقامته، وقد يُرْزَق بها المستدرَجون) وقال: (إِنما هي كرامتان جامعتان محيطتان ؛ كرامة الإِيمان بمزيد الإِيقان وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوي والمخادعة، فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إِلى غيرهما فهو عبد مُفْتَرٍ كذاب، ليس ذا حظ في العلم والعمل بالصواب ؛ كمن أُكرم بشهود الملك على نعت الرضا فجعل يشتاق إِلى سياسة الدواب وخلع الرضا) [نور التحقيق ص128].

وقال الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى: (واعلم أن الكرامة على قسمين: حسية ومعنوية، ولا تعرفُ العامةُ إِلا الحسية ؛ مثل الكلام على الخاطر، والإِخبار بالمغيبات الماضية والكائنة والآتية، والأخذ من الكون، والمشي على الماء، واختراق الهواء، وطي الأرض، والاحتجاب عن الأبصار، وإِجابة الدعاء في الحال، ونحو ذلك. فالعامة لا تعرف الكرامات إِلا مثل هذا. وأما الكرامة المعنوية فلا يعرفها إِلا الخواص من عباد الله تعالى، والعامة لا تعرف ذلك وهي أن يُحفظ على العبد آداب الشريعة، وأن يُوفَّق لفعل مكارم الأخلاق واجتناب سفاسفها، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقاً في أوقاتها والمسارعة إِلى الخيرات، وإِزالة الغل والحقد من صدره للناس والحسد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس، ومراعاة حقوق الله تعالى في نفسه وفي الأشياء، وتفقد آثار ربه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في دخولها وخروجها، فيتلقاها بالأدب إِذا وردتْ عليه ويُخرجها وعليه حلة الحضور مع الله تعالى، فهذه كلها عندنا كرامات الأولياء المعنوية التي لا يدخلها مكر ولا استدراج) [الباب الرابع والثمانون ومائة من الفتوحات المكية ج2. ص369].

ثم إِن السادة الصوفية لا يعتبرون ظهور الكرامات على يد الولي الصالح دليلاً على أفضليته على غيره. قال الإِمام اليافعي رحمه الله تعالى: (لا يلزم أن يكون كلُّ مَنْ له كرامة من الأولياء أفضلَ من كل من ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض مَنْ ليس له كرامة منهم أفضل من بعض مَنْ له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، ودليلاً على صدقه وعلى فضله لا على أفضليته، وإِنما الأفضلية تكون بقوة اليقين، وكمال المعرفة بالله تعالى) [كتاب نشر المحاسن الغالية لعبد الله اليافعي ص119].

كما أن الصوفية يعتبرون أن عدم ظهور الكرامة على يد الولي الصالح ليس دليلاً على عدم ولايته.

قال الإِمام القشيري رحمه الله تعالى في رسالته: (لو لم يكن للولي كرامة ظاهرة عليه في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه ولياً) وقال شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في شرحه لرسالة القشيري عند هذا الكلام: (بل قد يكون أفضل ممَّنْ ظهر له كرامات، لأن الأفضلية إِنما هي بزيادة اليقين لا بظهور الكرامة) [الرسالة القشيرية ص159].
...............
 
المصدر : حقائق عن التصوف – الشيخ عبد القادر عيسى


التصوف .. تعريفه .. اشتقاقه .. نشأته .. أهميته



التعريف بالتصوف





1ـ تعريفه. 2ـ اشتقاقه. 3ـ نشأته. 4ـ أهميته.

تعريف التصوف

قال القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى:

(التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية) [على هامش "الرسالة القشيرية" ص7 توفي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري سنة 929هـ].

ويقول الشيخ أحمد زروق رحمه الله:

(التصوف علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله تعالى عما سواه. والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام. والأصول "علم التوحيد" لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك) ["قواعد التصوف" قاعدة 13 ص 6 لأبي العباس أحمد الشهير بزروق الفاسي، ولد سنة 846هـ بمدينة فاس، وتوفي سنة 899هـ في طرابلس الغرب].

قال سيد الطائفتين الإمام الجنيد رحمه الله:

(التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى المدني ص22. توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].

وقال بعضهم:

(التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى المدني ص22، توفي الإمام الجنيد سنة 297هـ].

وقال أبو الحسن الشاذلي رحمه الله:

(التصوف تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية) ["نور التحقيق" للعلامة حامد صقر ص93. توفي أبو الحسن سنة 656هـ في مصر].

وقال ابن عجيبة رحمه الله:

(التصوف: هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة) ["معراج التشوف إلى حقائق التصوف" لأحمد بن عجيبة الحسني ص4].

وقال صاحب "كشف الظنون":

(هو علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعاداتهم) إلى أن قال:

علم التصوف علمٌ ليس يعرفه إلا أخو فطنةٍ بالحق معروفُ

وليس يعرفه مَنْ ليس يشهده وكيف يشهد ضوءَ الشمسِ مكفوفُ

["كشف الظنون" للعلامة حاجي خليفة ج1/ص413 ـ 414].

وقال الشيخ زروق في قواعد التصوف:

(وقد حُدَّ التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه) ["قواعد التصوف" ص2].

فعماد التصوف تصفية القلب من أوضار المادة، وقوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم، فالصوفي من صفا قلبه لله، وصفتْ لله معاملته، فصفت له من الله تعالى كرامته.



اشتقاق التصوف
كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، فمنهم من قال: (من الصوفة، لأن الصوفي مع الله تعالى كالصوفة المطروحة، لاستسلامه لله تعالى) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (إنه من الصِّفَة، إذ جملته اتصافٌ بالمحاسن، وترك الأوصاف المذمومة) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (من الصفاء)، حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى:

تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقاً من الصوف

ولست أمنح هذا الاسم غيرَ فتىً صفا فصوفي حتى سُمي الصوفي

["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" للعلامة ابن عجيبة المتوفى سنة 1266هـ ص 6].

ومنهم من قال: (من الصُفَّة، لأن صاحبه تابعٌ لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف) حيث قال تعالى: {واصبِرْ نفسَك مع الذين يدعونَ ربَّهم...} [الكهف: 28].

وأهلُ الصُفَّة هم الرعيل الأول من رجال التصوف، فقد كانت حياتهم التعبدية الخالصة المثل الأعلى الذي استهدفه رجال التصوف في العصور الإسلامية المتتابعة.

وقيل: (من الصَّفوة) كما قال الإمام القشيري.

وقيل: (من الصَّف) فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث حضورهم مع الله تعالى ؛ وتسابقهم في سائر الطاعات.

ومنهم من قال: (إن التصوف نسبة إلى لبس الصوف الخشن، لأن الصوفية كانوا يؤثرون لبسه للتقشف والاخشيشان).

ومهما يكن من أمر، فإن التصوف أشهر من أن يحتاج في تعريفه إلى قياس لفظٍ، واحتياج اشتقاق.

وإنكار بعض الناس على هذا اللفظ بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين مردود، إذ كثيرٌ من الاصطلاحات أحدثت بعد زمان الصحابة، واستُعملت ولم تُنكَر، كالنحو والفقه والمنطق.

وعلى كلٌّ فإننا لا نهتم بالتعابير والألفاظ، بقَدْرِ اهتمامنا بالحقائق والأسس. ونحن إذ ندعو إلى التصوف إنما نقصد به تزكية النفوس وصفاء القلوب، وإصلاح الأخلاق، والوصول إلى مرتبة الإحسان، نحن نسمي ذلك تصوفاً. وإن شئت فسمه الجانب الروحي في الإسلام، أو الجانب الإحساني، أو الجانب الأخلاقي، أو سمه ما شئت مما يتفق مع حقيقته وجوهره؛ إلاَّ أن علماء الأمة قد توارثوا اسم التصوف وحقيقته عن أسلافهم من المرشدين منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا، فصار عُرفاً فيهم.


نشأة علم التصوف

يقول الدكتور أحمد عَلْوَشْ: (قد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في صدر الإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد الصحابة والتابعين ؛ والجواب عن هذا: إنه لم تكن من حاجة إليها في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمَّة ما يدعو إلى تلقينهم علماً يرشدهم إلى أمرٍ هُم قائمون به فعلاً، وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القُحِّ، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابراً عن كابر؛ حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئاَ من قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن، وضعف التعبير، أو لمن يريد من الأجانب أن يتفهمها ويتعرف عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.

فالصحابة والتابعون ـ وإن لم يتسموا باسم المتصوفين ـ كانوا صوفيين فعلاً وإن لم يكونوا كذلك اسماً، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات، وسائر الكمالات التي وصل بها الصحابة والتابعون من حيث الرقي الروحي إلى أسمى الدرجات فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الإيمان، والقيام بفروض الإسلام، بل قرنوا الإقرار بالتذوق والوجدان، وزادوا على الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات، وابتعدوا عن المكروهات فضلاً عن المحرمات، حتى استنارت بصائرهم، وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم. وكذلك كان شأن التابعين وتابعي التابعين، وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى عصور الإسلام وخيرها على الإطلاق، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "خير القرون قرني هذا فالذي يليه والذي يليه" ["خير الناس قرني هذا ثم الذين يلونهم.." أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات. وفي "صحيح مسلم" في فضائل الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه].

فلما تقادم العهد، ودخل في حظيرة الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق، ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض "الميراث" وغيرها..

وحدث بعد هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة والزهد إلى أن يعملوا هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، ولم يكن ذلك منهم احتجاجاً على انصراف الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم ـ كما يظن ذلك خطأً بعض المستشرقين ـ بل كان يجب أن يكون سداً للنقص، واستكمالاً لحاجات الدين في جميع نواحي النشاط، مما لا بد منه لحصول التعاون على تمهيد أسباب البر والتقوى" ["المسلم مجلة العشيرة المحمدية" عدد محرم 1376هـ. من بحث: التصوف من الوجهة التاريخية للدكتور أحمد علوش، وهو من الرواد الأوائل الذين نقلوا حقائق التصوف الإسلامي إلى اللغات الأجنبية، وقد ألف فضيلته كتاباً باللغة الإنكليزية عن التصوف الإسلامي، كان له أكبر الأثر في تصحيح الأفكار والرد على المستشرقين كما ألف كتابه "الجامع" عن الإسلام الذي رد فيه على التهم المفتراة على دين الله، وكان له أثره البعيد في خدمة هذا الدين].

وقد بنى أئمة الصوفية الأولون أصول طريقتهم على ما ثبت في تاريخ الإسلام نقلاً عن الثقات الأعلام.

أما تاريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله، فقد سئل عن أول من أسس التصوف ؟ وهل هو بوحي سماوي ؟ فأجاب:

(أما أول من أسس الطريقة، فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله: "هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم" [جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه] وهو الإسلام والإيمان والإحسان.

فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"...

ثم قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك: (فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام(الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان؛ بعد تصحيح الإسلام والإيمان) ["الانتصار لطريق الصوفية" ص 6 للمحدث محمد صديق الغماري].

قال ابن خلدون في مقدمته: (وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة ؛ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية) ["مقدمة ابن خلدون" علم التصوف ص 329].

ويعنينا من عبارة ابن خلدون الفقرة الأخيرة، التي يقرر فيها أن ظهور التصوف والصوفية كان نتيجة جنوح الناس إلى مخالطة الدنيا وأهلها في القرن الثاني للهجرة، فإن ذلك من شأنه أن يتخذ المقبلون على العبادة اسماً يميزهم عن عامة الناس الذين ألهتهم الحياة الدنيا الفانية.

يقول أبو عبد الله محمد صديق الغماري: (ويَعْضُدُ ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة المائتين: إنه ظهر بالاسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف. وكذلك ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة، فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ نشأة التصوف. وذُكر في "كشف الظنون" أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومئة) ["الانتصار لطريق الصوفية" للمحدث الغماري ص17 ـ 18].

وأورد صاحب "كشف الظنون" في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام القشيري قال فيه: (اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة) ["كشف الظنون" عن أسماء الكتب والفنون، لحاجي خليفة ج1/ص414].

من هذه النصوص السابقة، يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً؛ ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أُصول لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذين ابتدعوا أسماءً مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي...

يريدون بذلك تشويه اسم التصوف من جهة، واتهام التصوف بأنه يرجع في نشأته إلى هذه الأصول القديمة والفلسفات الضالة من جهة أخرى، ولكن الإنسان المؤمن لا ينساق بتياراتهم الفكرية، ولا يقع بأحابيلهم الماكرة، ويتبين الأمور، ويتثبت في البحث عن الحقيقة، فيرى أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب.

أهمية التصوف

إن التكاليف الشرعية التي أُمر بها الإنسان في خاصة نفسه ترجع إلى قسمين: أحكام تتعلق بالأعمال الظاهرة، وأحكام تتعلق بالأعمال الباطنة، أو بعبارة أخرى: أحكام تتعلق ببدن الإنسان وجسمه، وأعمال تتعلق بقلبه.

فالأعمال الجسمية نوعان: أوامر ونواهٍ ؛ فالأوامر الإلهية هي: كالصلاة والزكاة والحج... وأما النواهي فهي: كالقتل والزنى والسرقة وشرب الخمر...

وأما الأعمال القلبية فهي أيضاً: أوامر ونواهٍ ؛ أما الأوامر: فكالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله... وكالإخلاص والرضا والصدق والخشوع والتوكل... وأما النواهي: فكالكفر والنفاق والكبر والعجب والرياء والغرور والحقد والحسد. وهذا القسم الثاني المتعلق بالقلب أهم من القسم الأول عند الشارع ـ وإن كان الكل مُهمَّاً ـ لأن الباطن أساس الظاهر ومصدره، وأعماله مبدأ أعمال الظاهر، ففي فساده إخلال بقيمة الأعمال الظاهرة، وفي ذلك قال تعالى: {فمَنْ كان يرجو لقاءَ ربِّه فلْيعملْ عملاً صالحاً ولا يُشرِكْ بعبادة ربِّه أحداً}[الكهف: 110].

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه اهتمام الصحابة لإصلاح قلوبهم، ويبين لهم أن صلاح الإنسان متوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفية والعلل الكامنة، وهو الذي يقول: "ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" [رواه البخاري في كتاب الإيمان. ومسلم في كتاب المساقاة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].

كما كان عليه الصلاة والسلام يعلمُهم أن محل نظر الله إلى عباده إنما هو القلب: "إن الله لا ينظرُ إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم" [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فما دام صلاح الإنسان مربوطاً بصلاح قلبه الذي هو مصدر أعماله الظاهرة، تعيَّن عليه العمل على إصلاحه بتخليته من الصفات المذمومة التي نهانا الله عنها، وتحليته بالصفات الحسنة التي أمرنا الله بها، وعندئذٍ يكون القلب سليماً صحيحاً، ويكون صاحبه من الفائزين الناجين {يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ 89].

قال الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله: (وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوها، فقال الغزالي: إنها فرض عين) ["الأشباه والنظائر" للسيوطي ص504].

فتنقية القلب، وتهذيب النفس، من أهم الفرائض العينية وأوجب الأوامر الإلهية، بدليل ما ورد في الكتاب والسنة وأقوال العلماء.

آ ـ فمن الكتاب: 1ـ قوله تعالى: {قُلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بَطنَ}

[الأعراف: 33].

2ـ وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطنَ}[الأنعام: 151].

والفواحش الباطنة كما قال المفسرون هي: الحقد والرياء والحسد والنفاق...

ب ـ ومن السنة:
1ـ كل الأحاديث التي وردت في النهي عن الحقد والكبر والرياء والحسد... وأيضاً الأحاديث الآمرة بالتحلي بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة فلتراجع في مواضعها.

2ـ والحديث "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما في كتاب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه].

فكمال الإيمان بكمال هذه الشعب والتحلي بها، وزيادته بزيادة هذه الصفات، ونقصه بنقصها، وإن الأمراض الباطنة كافية لإحباط أعمال الإنسان، ولو كانت كثيرة.

ج ـ وأما أقوال العلماء: لقد عدَّ العلماء الأمراض القلبية من الكبائر التي تحتاج إلى توبة مستقلة، قال صاحب "جوهرة التوحيد": 
         وأمُرْ بعرفٍ واجتنبْ نميمةْ              وغيبةً وخَصلةً ذميمةْ

         كالعجب والكبرِ وداء الحسدِ             وكالمراءِ والجدلْ فاعتمدِ
يقول شارحها عند قوله ـ وخصلة ذميمة ـ: أي واجتنب كل خصلة ذميمة شرعاً، وإنما خصَّ المصنف ما ذكره؛ يعد اهتماماً بعيوب النفس، فإن بقاءها مع إصلاح الظاهر كلبس ثياب حسنة على جسم ملطَّخ بالقاذورات، ويكون أيضاً كالعجب وهو رؤية العبادة واستعظامُها، كما يعجب العابد بعبادته والعالم بعلمه، فهذا حرام، وكذلك الرياء فهو حرام. ومثل العجب الظلمُ والبغي والكبر وداء الحسد والمراء والجدل ["شرح الجوهرة" للباجوري ص120 ـ 122 توفي سنة 1277هـ].

ويقول الفقيه الكبير العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: (إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من "الإحياء". قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليه.

وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه) ["حاشية ابن عابدين" المسماة رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج1/ص31].

ويقول صاحب "الهدية العلائية": (وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر والعجب والرياء والنفاق، وجملة الخبائث من أعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك كان عنه مسؤولاً، مما يدخل تحت الاختيار)["الهدية العلائية" علاء الدين عابدين ص315].

ويقول صاحب "مراقي الفلاح": (لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة، بالإخلاص، والنزاهة عن الغلِّ والغش والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين، فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقراً إليه، وهو يتفضل بالمن بقضاء حوائجه المضطر بها عطفاً عليه، فتكون عبداً فرداً للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه، ولا يستملكُ هواك عن خدمتك إياه.

قال الحسن البصري رحمه الله:
       رُبَّ مستورٍ سبته شهوتُهْ            قد عري من ستره وانْهَتَكَا
       صاحبُ الشهوةِ عبدٌ فإذا            مَلَكَ الشهوة أضحى مَلِكا

فإذا أخلص لله، وبما كلفه به وارتضاه، قام فأدَّاه، حفَّتهُ العناية حيثما توجه وتيمَّم، وعلَّمه ما لم يكن يعلم.

قال الطحطاوي في "الحاشية": دليله قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلِّمكم الله}[البقرة:282 ]) [حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص70 ـ 71].

فكما لا يحسن بالمرء أن يظهر أمام الناس بثياب ملطخة بالأقذار والأدران، لا يليق به أن يترك قلبه مريضاً بالعلل الخفية، وهو محل نظر الله سبحانه وتعالى:

تطَبِّبُ جسمَك الفاني ليبقى وتترك قلبَك الباقي مريضاً لأن الأمراض القلبية سبب بُعد العبد عن الله تعالى ، وبعده عن جنته الخالدة ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبه مثقالُ ذرة مِنْ كبر" [رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه].

وعلى هذا فسلامة الإنسان في آخرته هي في سلامة قلبه، ونجاتُه في نجاته من أمراضه المذكورة.

وقد تخفى على الإنسان بعض عيوب نفسه، وتدق عليه علل قلبه، فيعتقد في نفسه الكمال، وهو أبعد ما يكون عنه، فما السبيل إلى اكتشاف أمراضه، والتعرف على دقائق علل قلبه ؟ وما الطريق العملي إلى معالجة هذه الأمراض، والتخلص منها ؟

إن التصوف هو الذي اختص بمعالجة الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص من صفاتها الناقصة.

قال ابن زكوان في فائدة التصوف وأهميته:
                 علمٌ به تصفيةُ البواطنْ  مِن كدَرَات النفس في المواطنْ

قال العلامة المنجوري في شرح هذا البيت: (التصوف علم يعرف به كيفية تصفية الباطن من كدرات النفس، أي عيوبها وصفاتها المذمومة كالغل والحقد والحسد والغش وحب الثناء والكبر والرياء والغضب والطمع والبخل وتعظيم الأغنياء والاستهانة بالفقراء، لأن علم التصوف يطلع على العيب والعلاج وكيفيته، فبعلم التصوف يُتوصل إلى قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بذلك إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله سبحانه وتعالى) ["النصرة النبوية" للشيخ مصطفى إسماعيل المدني على هامش شرح الرائية للفاسي ص 26].

أما تحلية النفس بالصفات الكاملة ؛ كالتوبة والتقوى والاستقامة والصدق والإخلاص والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والأدب والمحبة والذكر والمراقبة... فللصوفية بذلك الحظ الأوفر من الوراثة النبوية، في العلم والعمل.

قد رفضوا الآثامَ والعيوبا وطهَّروا الأبدانَ والقلوبا

وبلغوا حقيقة الإيمان وانتهجوا مناهج الإحسان

["لفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية"للعلامة ابن عجيبة على هامش شرح الحكم لابن عجيبة ج1/ص105].

فالتصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي بالإضافة إلى ما يقابله من العبادات البدنية والمالية، ورسَمَ الطريق العملي الذي يوصل المسلم إلى أعلى درجات الكمال الإيماني والخُلُقي، وليس ـ كما يظن بعض الناس ـ قراءةَ أوراد وحِلَقَ أذكار فحسب، فلقد غاب عن أذهان الكثيرين، أن التصوف منهج عملي كامل، يحقق انقلاب الإنسان من شخصية منحرفة إلى شخصية مسلمة مثالية متكاملة، وذلك من الناحية الإيمانية السليمة،والعبادة الخالصة،والمعاملة الصحيحة الحسنة،والأخلاق الفاضلة.

ومن هنا تظهر أهمية التصوف وفائدته، ويتجلى لنا بوضوح، أنه روح الإسلام وقلبُهُ النابض، إذ ليس هذا الدين أعمالاً ظاهرية وأموراً شكلية فحسب لا روح فيها ولا حياة.

وما وصل المسلمون إلى هذا الدرْك من الانحطاط والضعف إلا حين فقدوا روح الإسلام وجوهره، ولم يبق فيهم إلا شبحه ومظاهره.

لهذا نرى العلماء العاملين، والمرشدين الغيورين، ينصحون الناس بالدخول مع الصوفية والتزام صحبتهم، كي يجمعوا بين جسم الإسلام وروحه، وليتذوقوا معاني الصفاء القلبي والسمو الخُلقي، وليتحققوا بالتعرف على الله تعالى المعرفة اليقينية، فيتحلوا بحبه ومراقبته ودوام ذكره.

قال حجة الإسلام الإمام الغزالي بعد أن اختبر طريق التصوف، ولمس نتائجه، وذاق ثمراته: (الدخول مع الصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) ["النصرة النبوية" على هامش شرح الرائية للفاسي ص26].

وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر). وفي هذا القول يقول ابن علاَّن الصديقي (ولقد صدق فيما قال ـ يعني أبا الحسن الشاذلي ـ فأي شخص يا أخي يصوم ولا يعجب بصومه ؟ وأي شخص يصلي ولا يعجب بصلاته ؟ وهكذا سائر الطاعات) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" لابن عجيبة ص7].

ولما كان هذا الطريق صعب المسالك على النفوس الناقصة، فعلى الإنسان أن يجتازه بعزم وصبر ومجاهدة حتى ينقذ نفسه من بُعد الله وغضبه.

قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريقَ الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين. وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُضَّ الطرف عن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله تعالى شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفتَّ إليهم أخذوك وعاقوك) ["المنن الكبرى" للشعراني ج1/ص4].
 ......
المصدر : كتاب حقائق عن التصوف – الشيخ عبد القادر عيسى

الثلاثاء، 9 أبريل 2019

الحرية الدينية في تفسير النص القرآني – الفهم الصّوفي

الحرية الدينية في تفسير النص القرآني – الفهم الصّوفي





الحرية الدينية في تفسير النص القرآني

– نموذج الفهم الصوفي-

بقلم: د. سعاد الحكيم

إن الأصل، المعوّل عليه في الإسلام، هو الحرية الدينية لأجيال المسلمين في قراءة النص القرآني وفهمه وتفسيره، لأن القرآن الكريم هو كتابٌ: ألفاظه ثابتةُ (كلام الله القديم)، ولكن معانيه متجدّدةٌ متدفّقةٌ مفتوحةٌ على تفكُّر المتلقّي في كل زمان، من أجل إنتاج فهمٍ جديدٍ لا يلغي القديم وإنما يوسّع حدقة الرؤية.

وهذا يعني، أنه لا توجد أيّ سلطة – تملك شرعاً – حقّ مصادرة تفسير القرآن من علماء المسلمين، واحتكاره في طائفةٍ علميةٍ مكلّفةٍ بإنتاج “تفسير رسمي”، كما لا توجد سلطةٌ تملك حقّ حبس المعاني القرآنية في التفاسير التراثية، مهما كانت هذه التفاسير مقبولةً ومعتمدةً من جمهورٍ واسعٍ من الأمة.

وفي المقابل، ومنعاً للتسيّب العلمي والديني، فقد وضع العلماء جملة شروطٍ أو ضوابط علمية، يجب توافرها فيمن يتصدّى لتفسير القرآن ولطرح فهمٍ جديد. وهذه الشروط معلومةٌ ومتّفقٌ عليها ومدوّنة في كتب “علوم القرآن”[1]. وقد أراد العلماء أن تكون هذه الشروط/ الضوابط بمثابة الإطار للحرية الدينية في التعامل مع النص القرآني.

نترك بين قوسين الشروط الضابطة لحرية المفسّرين، لنلتفت إلى البحث في العوامل التي سمحت بوجود هذه الحرية لدى الإنسان الصوفي في فهم القرآن، وفي تدوين فهمه الجديد، مهما واجه من معارضةٍ أو من تشدّدٍ لدى بعض العلماء الذين يفضّلون الاكتفاء بالمعاني اللغوية أو القريبة والمباشرة.

وأكتفي بذكر سبعة عوامل، أرى أنها مفاتيح الحرية لدى الإنسان الصوفي في التعامل مع النص القرآني:

1 – غيابُ تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن

إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الشخص الوحيد المكلّف ببيان ما أنزل الله سبحانه للناس[2]، وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك قولاً وفعلاً؛ من خلال الحديث النبوي الشريف ومن خلال السيرة المحمدية الطاهرة. وقد كان بعض الصحابة يسأل عن معنى آيةٍ أو عن معنى كلمةٍ في آيةٍ، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب السائل في حدود السؤال، وهذه المعاني محفوظةٌ في دواوين الحديث الشريف[3]. إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك بين يدي المسلمين تفسيراً للقرآن، ولو فعل لكان ذاك التفسير هو التفسير الرسمي الذي يشكّل مرجعيةً صارمةً لكلّ تفسيرٍ لاحق.

إن غياب تفسيرٍ نبويٍّ للقرآن، يفتح الباب لتعاون علماء الأمة في هذه المهمة، بحيث يساهم كل واحد في حدود اختصاصه العلمي وهمّه الحضاري (لغوي، فقيه، عالم عقيدة، مصلح اجتماعي) أو قوة استنباطه للمعاني العميقة وشعلة فهمه لدقائق النص.

وفي هذا الصدد، نلمح في ثنايا الكتابة الصوفية، أن الواحد من كبارهم يحمّل نفسه مسؤولية متابعة خطى النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس.. وبالتالي في بيان التنزيل وتفسير معاني القرآن. يورد محي الدين بن عربي، شيخ الصوفية الأكبر، الآية الكريمة: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ( [الجمعة 2]، والآية الثانية: )قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي( [يوسف 108]، ثم يقول: فهو صلى الله عليه وسلم النبي “الأمي” الذي يدعو على بصيرةٍ مع أميّته. و”الأميّون” هم الذين يدعون معه صلى الله عليه وسلم إلى الله على بصيرة. و”البصيرة” هي العلم الإلهي اللَّدُنّيُّ الذي يناله “الأمّيّون”.

ويقدّم ابن عربي في هذا السياق معنىً مختلفاً للأميّة، فيقول: الأميّة عندنا لا تنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية، أي إن الأميّة لا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة وحفظ العلوم الأساسية، ولكن الشخص الأمّيّ هو الذي لم يتصرّف بنظره الفكري وحُكْمه العقلي في استخراج ما تحوي عليه آيات القرآن أو الأحاديث النبوية من معاني وأسرار. فإذا سَلِم قلبه من علم النظر الفكري كان أميّاً، قابلاً للفتح الإلهي ومستعدّاً لاستقبال العلم اللدني[4].

وهذا يعني أن فهم القرآن – عند الصوفي – لا ينتج عن استنباط المعنى من الدرس في الكتب أو من إعمال العقل في النص، ولكن من الرياضة والمجاهدة ليصبح القلب مستعدّاً لاستقبال الإلهام الرباني..

وتظلّ العلوم الأساسية (حفظ القرآن والحديث) ضروريةً “للأميّ”، لأنها تحفظ القلب من أن يزيغ أو يطغى عند قبول العلم المـُـلْـقَى فيه. وفي هذا التنبيه يقول الجنيد: «علمُنا مشبوكٌ بالكتابة والسنة»[5]. أي مع أنّ علمهم لَدُنيّ إلهاميٌّ، إلا أن القلب لا يقبل الإلهام إلا إنْ شَهِدَ له على صدقه شاهدان عَدْلان هما: الكتاب والسنة[6].

2 – مقاصد الله عز وجل من كلامه لا يحيط بها إنسان

إنّ للآية الواحدة في القرآن، ومهما كانت مُحْكَمَةً – بل للكلمة الواحدة – مقاصدَ عديدة. ولا يملك إنسانٌ أن يقول: إن المعنى الذي أُعطيه لهذه الكلمة القرآنية هو المقصد الإلهي الوحيد منها. لذا، نجد أئمة المفسرين يَعْرضون قولهم وأقوال غيرهم ويشيرون إلى عجزهم عن الإحاطة بالمعاني أحياناً بعبارة “والله أعلم”، ثم يتركون المعاني القرآنية مفتوحةً على تدبُّرٍ جديدٍ وفهمٍ جديدٍ.

وهذا ما سمح لكبار الصوفية بأن يشاركوا الأمة في فهم القرآن، وفي تقديم معانٍ غير مسبوقة. ومن الأمثلة العديدة على ذلك نختار ثلاثة:

قوله تعالى: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ( [الإسراء 23].. يرى ابن عربي أن الآية لا تدلّ عما يجب أن يكون، بل تخبر عما هو كائنٌ فعلاً، لأن الله عز وجل عندما يقضي أمراً فهو واقعٌ لا محالة. وينتج عن هذا الفهم، أنّ كلّ من عَبَد شيئاً ولو كان غير الله U، فهو في الحقيقة – وتحت قهر القضاء الإلهي – يقصد بعبادته الله، وإن ضلّ السبيل إليه[7].
وقوله تعالى: )وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ([الإسراء 44].. استدل ابن عربي بهذه الآية الكريمة على أن الحياة ساريةٌ في كل شيء في الوجود، لأن التسبيح دليل حياة، فلا يسبّح إلا حيّ.. ومن هنا، فكلّ شيء حيٌّ حتى ما تعارف الناس على أنه جماد، من حجرٍ وشجرٍ وغيره[8].
وقوله تعالى: )بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ([ق 15].. ذهب معظم المفسرين إلى أن هذه الآية تجد دلالاتها في الحياة الآخرة، إلا أن ابن عربي بنى عليها رؤيته للمخلوقات كلها. فالكائنات كلُّها، أي كلُّ ما سوى الله عز وجل – طبيعتها الذاتية هي “العدم الممكن”، وبالتالي فهي تحتاج لتظلّ موجودةً إلى الخلق الإلهي المستمر مع الأنفاس، ففي كل نَفَس يسقط الكائن في العدم ويخلقه الله في النَفَس التالي خلقاً جديداً. والعالم كله في لَبْسٍ من هذا الخَلْق المستمرّ مع الأنفاس: لسرعته أولاً، وثانياً: لأن الصورة اللاحقة للكائن هي نفس صورته السابقة[9].

3 – الكلام الإلهي لغير الأنبياء

نعرف من حديثٍ نبويٍ شريف، أنّ الله عز وجل يكلّم – أو يحدّث – بشراً ليسوا بأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي منهم، فإن عمر بن الخطاب منهم»[10]، وفي نصٍّ آخر: «رجالٌ مكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء»[11].

وقد حفل التاريخ الصوفي، بأعلامٍ كبارٍ أخبروا بأن الله سبحانه يخاطبهم، فرابعة العدوية تقول: «وجعلتك في الفؤاد أنيسي»، والنفري يقول: «أوقفني وقال لي»[12]، والجنيد البغدادي يقول: «أقبَلَ بك كلّكَ عليه… فأنتَ حينئذٍ يُقال لك وأنت قائل»[13]، وأبو يزيد البسطامي يقول: «أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت»[14].

وهذا الكلام الإلهي للبشر- أنبياء وغير أنبياء – يأخذ أسماءً عديدةً؛ فيسمّى “قولاً” عندما يُسمع المعدوم؛ ويسمّى “كلاماً” عندما يُسمع الموجود؛ ويُسمّى “وحياً” إذا كان إلقاءً في القلب على جهة الحديث، وصفة الوحي السرعة والسلطة؛ ويسمّى “من رواء حجاب” إذا كان مُلْقَى على السمع لا على القلب، وغير ذلك.

بناءً عليه، فإن الوحي الإلهي الملقى في القلب على جهة الحديث لم ينقطع بانقطاع النبوة والرسالة، وإنما انقطع الوحي التشريعي.. وينتج عن هذا الوحي التفسيريّ العلميّ، أن الشخص الذي يُلقى في قلبه وحيٌ إلهيٌّ لمعنىً قرآنيٍّ، فإنه يقبله ويدوّنه ويطيعه ويعدّل رؤيته للعالم وللإنسان وأيضاً سلوكه وفقاً لما ورد فيه.

ويستدلّ ابن عربي على سلطة الوحي الإلهي وقهريته، بأن أمّ موسى عليه السلام حين أوحى لها الله عز وجل إن خافت على ابنها أن ترضعه وترميه في اليمّ، فقد فعلت ذلك، مع أن الطبْع البشري يحكم على الإنسان بإخفاء ما يخاف عليه[15].

4 – تنزُّل القرآن الدائم على قلوب كبار عباد الله

يورد ابن عربي قوله تعالى: )رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [غافر 15]، وقوله تعالى: )يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ( [النحل 2]. ويفسر لفظ “الروح” بمعنى “العلم”، وذلك لأن العلم تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها.. وبناءً على تفسير الروح بالعلم يستدلّ بالآية الأولى على الإلقاء الإلهي للعلم في قلوب عباده وعلى وحيه عزّ وجلّ من غير واسطة، ويستدلّ بالآية الثانية على تنزيل الملائكة بالعلم[16].

وفي هذا السياق نفسه، سياق تنزيل العلم، يقول ابن عربي بأن الرسالة والنبوة انقطعت وسُدّ باب تنزّل الحكم الإلهي (= أحكام الشريعة) على قلب البشر بواسطة الروح، أما الذي بقي فهو تنزُّل القرآن على قلوب الأولياء، مع كونه محفوظاً لهم. ويورد في الفتوحات المكية، وفي أكثر من موضع، بأنه رُوي عن أبي يزيد البسطامي «أنه ما مات حتى استظهر القرآن».. ومن البديهي، بأن عبارة “استظهر القرآن” لا تدلّ على حفظه غيباً، فهذا موجودٌ بكثرةٍ بين المسلمين، ومعظم علماء المسلمين حفظوا القرآن كاملاً وهم دون العاشرة من عمرهم، ولا شك أيضاً أن أبا يزيد البسطامي كان حافظاً للقرآن قبل موته بكثيرٍ، إن لم يكن من طفولته.

إذن فإن للعبارة معنى آخر. ومعناها: أن أبا يزيدٍ ما مات حتى أخذ القرآن كلَّه عن إنزال. وإلى هذا نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن حفظ القرآن، يعني على وجه الإنزال، بأن النبوة قد أُدرجت بين جنبيه، ولم يقل في صدره[17]. وهذا من باب الفرق بين تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وبين تنزيله على الوليّ[18].

5 – تنزّل المعاني القرآنية (تنزُّل الفهم)

تتعدّد السياقات التي يصل منها ابن عربي إلى مقولةٍ مفادها: أن الفهم الحقّيّ لمعاني القرآن لا يتم بمعالجة الألفاظ اللغوية ولا بالدرس والتمحيص للكتب والتاريخ، وإنما هو رزقٌ لَدُنيٌّ يتنزّل على قلب “ولي الله”، إما عند تلاوته للقرآن، أو عند سماعه، أو عند ذوقه لتنزّل الآيات القرآنية، أو عند رؤيته في واقعةٍ من الوقائع[19].. باختصار، إن الفهم الحقّيّ هو الفهم عن الله عز وجل[20].

وهنا، فإن المعاني تتعدّد وتتراتب، لأن الأرزاق العلمية تتباين بتباين منازل القوم في مقامات الولاية.. ومــــــــن هنا، نفهم الحـــــــوار الصوفي-الصوفي عبر الزمان، ومنه حوار ابن عربي مع الجنيد وأبي يزيد وأبي مدين في كتاب “التجليات”[21].. والإجابات التي قدّمها ابن عربي (ت 638) لأسئلة الحكيم الترمذي (ت 320هـ) رغم أنه يفصل بينهما أكثر من ثلاثة قرون[22].

وفي إطار هذا الحوار – النقدي حيناً والتعريفيّ أحياناً – حول تفسير النص القرآني، نجد أن ابن عربي انتقد السيدة رابعة التي سمعت قارئاً يقرأ قوله تعالى: )إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ( [يس 55 – 58]، فقالت: «مساكين أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم». وفحوى نقده: أن السيدة رابعة لم تعلم أنها حين نَسَبَتْ إليهم الشغل بغير الله، فقد وقعت في المكر الخفيّ بالعارفين، لأنها جرّحت الغير ببادي الرأي، وعرّضت في حقّ نفسها أنها منزهة عن ذلك.. والحقّ: أن أهل الجنة في شغلٍ هم وأزواجهم بالله عز وجل[23].

وفي إطار الحوار التعريفي – عبر الزمان – حول معاني النص القرآني، نجد ابن عربي يشرح لأبي يزيد البسطامي الذي توفي قبله بحوالي أربعة قرون، قوله تعالى: )يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ( [مريم 85].. وذلك أن أبا يزيدٍ عندما سمع هذه الآية طار الدم من عينيه حتى ضرب المنبر وقال: عجباً كيف يَحْشُر إليه من هو جليسه. فإن الله يقول: أنا جليس من ذكرني، والمتّقي ذاكرٌ لله. ويتولّى ابن عربي تفسير موقف أبي يزيدٍ فيرى أن دموعه هي دموع فرح لا دمع حزن وخوف، لأن في حَشْر المتقين إلى الرحمن، بشارة بالأمان[24]. ثم في موضع آخر، يفصّل، بأن المتقي في الدنيا هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد (القهار، شديد العقاب، الجبّار…)، وفي هذه الآية بشارةٌ للمتّقي بأنه في الآخرة سوف يُحشر إلى الاسم الرحمن (وليس إلى اسم: شديد العقاب)، فيحدث له – من هذه البشارة القرآنيّة – الأمان في الدنيا، لأن مآله إلى الرحمة[25].

6 – العلاقة التفاعلية الحياتية بين الصوفي والقرآن

إن كبار الصوفية يقيمون علاقة تفاعلية مع النص القرآني، فالواحد مثلاً أثناء تلاوته للقرآن ينظر في ذاته ليرى أين هو مما يقرأ.. وها هو أبو يزيد وقد سمع قارئاً يتلو: )إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ( [البروج 12]، فقال: “بطشي أشدّ”. أي إن بطشي أشدّ من بطش الله عز وجل.

ويفسر ابن عربي هذه العبارة الغربية، بأن المخلوق إذا بطش فلا يكون في بطشه شيءٌ من الرحمة، بل قد يخالطه الانتقام فيزيحه عن العدالة، أما بطش الله عز وجل وإن كان شديداً ففيه رحمةٌ بالمبطوش به[26].

ومثالٌ آخر عن علاقة الصوفي التفاعليّة بالقرآن، يقول ابن عربي عن حياته، بأنه حصلت له “الفترةُ التي لا بدّ منها لكلّ داخل في الطريق”، وهي فترةٌ قد يعقبها رجوعٌ إلى الحال الأول من العبادة والاجتهاد إن كان السالك من أهل العناية، وإلا فإنه لا يفلح أبداً. فلما تحكّمت بابن عربي هذه “الفترة” رأى الحقّ في الواقعة وتلا عليه الآيات: )وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ( [الأعراف 57 – 58]، فعلم أنه هو المراد بهذه الآية.. وفهم الرسالة الموجودة فيها، وأدرك الإشارات القرآنية، فقوله تعالى “بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ” إشارةٌ إلى كونه اهتدى إلى الطريق على يد عيسى وموسى ومحمد سلام الله على جميعهم. و”البلد الميت” هو ابن عربي نفسه. فـ”أحيينا به الأرض” هو ما ظهر عليه من أنوار القبول والعمل الصالح وهكذا[27].

7 – الصدق مع الله والصدق مع الذات

أختم المقالة بهذا المفتاح السابع للحرية الصوفية في تفسير النص القرآني، وأقول: لا شكّ أن الوحي الإلهي العلمي للصوفي قاهرٌ، وله سلطانٌ لا يملك معه الإنسان إلا أن يرضخ ويطيع. ولكن قد يرضخ المرء لما ورد عليه من وحيٍ علميٍ، ويتركه سرّاً بينه وبين نفسه ولا يذيعه للناس، وقد لا يُطلع عليه أحداً. وهذا يشبه موقف الإمام الغزالي في قوله المشهور:

وكان ما كان مما لستُ أذكره فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخَبَرِ

وفي مقابل الغزالي الذي فضّل عدم البَوْح بما جرى معه، نجد ابن عربي يدوّن مشاهداته وأحداث حياته في كتبٍ تُقرأ وتُنشر وتشكّل إرثاً للأجيال.. ويخبرنا بأنه مأمورٌ بذلك الإخراج إلى الناس[28].

إن الإنسان الصوفي صادقٌ مع الله وصادقٌ مع نفسه، فإن كانت خبرته تنفع الناس أذاعها، وإن حدّثه قلبه عن ربه بمعنى قرآنيٍّ يرقّي إنسانية الإنسان دوّنه ونشره.. وهذا الصدق هو الوجه الآخر للحرية.

[1] – انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة، ج 4، ص 200. وكذا: مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط 3، 2000م، ص 340.

[2] – إشارة إلى الآية [النحل 44]: )وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ(.

[3] – راجع: صحيح البخاري، كتاب التفسير وفيه أبواب، ج 4، ص ص 1621 – 1852. وصحيح مسلم، كتاب التفسير، ج 4، ص ص 2308 – 2323.

[4] – انظر الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 644 – 645.

[5] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 174.

[6] – يقول أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النُّكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدَيْن عدلَيْن: الكتاب والسنّة. الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، ص 177. والنكتة هي الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس، أو المسألة العلمية الدقيقة. المعجم الوسيط، مادة: نكت.

[7] انظر: سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، مادة “إله المعتقدات”، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1981.

[8] انظر: المعجم الصوفي، مادة “حياة”.

[9] انظر: المعجم الصوفي، مادة “خلق جديد”.

[10] صحيح مسلم، ج7، ص115.

[11] انظر: زين الدين العراقي، طرح التثريب، ج 1، ص 188.

[12] – راجع كتاب النفري، المواقف والمخاطبات.

[13] – انظر: الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، ص 307.

[14] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 253 – 254.

[15] – انظر: مؤتمر أقامته وزارة الثقافة في دمشق بالاشتراك مع وزارة الثقافة في مرسية، الندوة العالمية: “من فلسفة الإنسان إلى فلسفة الوجود”، دمشق 1997، ورقة مشاركة د.سعاد الحكيم تحت عنوان: “الوحي الصوفي“. وابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 87.

[16] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص ص 255 – 356.

[17] – انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 258. كما يراجع في الفتوحات المكية، ج 2، ص 20، وج 2، ص 447.

[18] – راجع تفصيل هذا الفرق في الفتوحات المكية، ج 2، ص 194.

[19] – انظر مثلاً: رؤية ابن عربي لسورة الإخلاص في الكشف الصوري بيتٍ قائمٍ على خمسة أعمدة، ولا باب له مفتوح، فليس لأحدٍ فيه دخولٌ بوجهٍ من الوجوه، نفهم من هذا الكشف أن الأعمدة الخمسة تدلّ على عدد آيات سورة الإخلاص، أما كون البيت لا باب له، فلأن سورة الإخلاص، لا تحتوي إلا على أسماء التنزيه التي لا سبيل إلى التخلّق بها. انظر: ابن عربي، الفتوحات، ج 2، ص 581. وعبد الباقي مفتاح/ ختم القرآن، دار القبة الزرقاء، ط 1، 2005، ص ص 47 – 48.

[20] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي ينظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣

[21] – انظر ورقتنا بمهرجان ابن عربي – إسبانيا، عنوانها: “لقاءات حقيقية في عالم الخيال” بتاريخ 8-9 آذار 2013.. وقد ترجم إلى اللغة الفرنسية.

[22] – انظر ورقتنا: “فكرة الختمية وأثرها على تاريخ الولاية”، في الملتقى الدولي “طرق الإيمان” الذي يظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتي تمحور حول إشكالية “ختم الولاية”، في الجزائر، بتاريخ ١٦ إلى ٢٠ كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣.

[23] – راجع: الفتوحات المكية، ج 1، ص 321، وج 1، ص 641، وج 1، ص 743.

[24] – الفتوحات المكية، ج 1، ص 511.

[25] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 87. كما يراجع ج 1، ص 210، وج 3، ص ص 212 – 213.

[26] – الفتوحات المكية، ج 2، ص 412.

[27] انظر تمام التفسير لإشارات الآية، الفتوحات، ج 4، ص 172.

...
المصدر : موقع ابن عربي للدراسات العرفانية والصوفية

الأحد، 7 أبريل 2019

أهمية التصوف


أهمية التصوف




إن التصوف أضحى اليوم قانونا ضروريا لتحقيق التوازن في الحياة، وطريقة معَبدة للانسجام مع فطرية الوجود وبساطته، ومنهاجا محتما لتسديد القيم والسلوك، وشريعة غضة تستطيع برسالتها أن توجد الحلول الناجعة للمشاكل التي تعاني منها المجتمعات الإنسانية، وترزح تحت وطأتها فئات من المهووسين بحمى الحياة المعاصرة، وتعيش من وراء حجابها فئام من المضطربين والحيارى الذين فقدوا تفسيرا واضحا لحقيقة وجودهم، ومعنى حياتهم.
فالتصوف بهذا الاعتبار والتقدير، سفينة النجاة التي تمخر عباب الأمواج العاتية للحياة المادية الفاقدة للروح والغاية، والمحطة التي تزود الإنسان بطاقة روحية ووجدانية تفيده في تحرير نفسه من سلطان الهوى، وربقة الشهوة، وأغلال النزوة.


لكن هذا الإرث الروحي تعاملت معه أطياف كثيرة بالتعمية والنقض، وطالته ألوان عدة بمعاول الهدم والطمس، وأرسلت إليه سهام طاعنة، وأطلقت عليه حداد الألسنة تسلق أهله بكل تؤبة وشنار، وتجرح محبيه بكل نقيصة وعار، وهذا ما يستلزم من أربابه أن يدافعوا عن بيضته، ويستوجب من معتنقيه أن يحموا ذماره، ويعرفوا بحقيقته، ويجلو مذهبه، و إلا تسممت العقول بالإنكار، وتصحرت النفوس بالجفاء، وهبت على القلوب رياح الاشتباه، وتولت على الباطن موجات الشك والارتياب، واستولت على السلوك أحاسيس المصلحة والاضطراب، وانتفت من الأرواح حب الحياة الروحية، وأثرة الانتساب إلى معاهد الصلاح، ومغاني الأخيار، فيتحول الإنسان المفتون بالعولمة والعصرنة قهرا إلى النظرة العجلى للحياة، والرؤية المسطحة الفاقدة للبراهين والدليل العلمي، وهذا مربط الضرر، وموقع الخطر.
فما هي أهمية التصوف؟؟

أولا: إن التصوف يعد جامعة شعبية تجمع مكونات الثقافة الإسلامية، ومختلف شرائح المجتمع الإسلامي، فالفلاسفة والحكماء، والمتكلمون والإلهيون، والمفسرون، والمحدثون، وأهل الفقاهة، وأرباب الأدب والشعر، وسائر طبقات الناس من العلية إلى السفلة، ومن النجباء إلى البلداء، يستطيع التصوف أن يمدهم بوهج يوقد أنوار الهداية في حياتهم، ويعطي غاية وهدفا حقيقيا لوجودهم.

ثانيا: إن التصوف يمثل الحياة الروحية للديانات السماوية، ويجسد حقيقة التدين الصحيح الذي يحرك الإنسان في دائرة الفعل المسئول، فلا حقد، ولا عداء، ولا حسد، ولا بغضاء، ولا كراهية، ولا إسفاف بحق الألوهية والربوبية، ولا تطاول على حقوق المخلوقين والعباد، فالتصوف هو الموصل للعبد الصادق إلى حضرة علام الغيوب، والمبلغ إلى مالك الملوك، وهو الجسر الذي يعين الإنسان على التعايش السلمي مع أخيه الإنسان، ويسير له أسباب الالتقاء والمقام الأمين.
ثالثا: إن التصوف يُعلِم الإنسان على اختلاف وظيفته في الحياة، ووظيفة في السلم الاجتماعي، كيف يحب غيره، فهو قيثارة الحب، وقانون الود، ومشتل الصفاء، فبالحب تصفوا الأرواح، وتسمو النفوس، وبالحب ستكتب الأمة قيمتها بين الأمم، وتعلوا مكانتها بين الأقوام.

رابعا: إن التصوف يبرُز في خاصيته بمثابة نقطة المحور التي تلتقي في رحابتها جميع المذاهب والمشارب، فالسني إلى جانب الشيعي، والماتريدي إلى جانب الأشعري، والمالكي إلى جانب الشافعي، وهكذا دواليك، فلكل حظ من هذا الإرث الروحي، ونصيب لا ينكر.

خامسا: إن التصوف يقدم للإنسان حلولا عملية تساعده على ترويض نفسه، وتهذيب أخلاقه، وتخليص ذاته من الأنانيات المفرطة، والإنيات النورانية، ويعطي أملا في تهيئة الأنفاس والحواس الباطنية والظاهرة للإقبال على الله عز وجل، والبلوغ إلى غاية استحضار عظمته في ملكه وملكوته، فمن اقتادته الأقدار، وساعدته الألطاف، لا بد أن ينتهي إلى مراده، ويستبين مقصوده، ومن لم تلحظه عناية الله بقي جامدا تقتله فترة البعد والسحق، وتُنقصه من مقاماته ساعات اليأس والحنين. 
فالتصوف يعبر كما يقول بعض الباحثين: عن شوق الروح إلى التطهر، ورغبتها في الاستعلاء على قيود المادة وكثافتها، وسعيها الدائم إلى تحقيق مستويات عليا من الصفاء الروحي، والكمال الأخلاقي. 

سادسا: إن التصوف يدفع عن المسلم غلواء الحياة، وفحيح الحضارة، وضغطة المادة، فنحن كما يقول سعيد حوى في كتابه تربيتنا الروحية، في عصر مادي، وهذا يقتضي منا أن نقابله بفكر مكافئ، وبحيوية روحية عالية، ونحن في عصر شهواني، وهذا يقتضي منا أن نقابله بأشواق روحية راقية مع تأمين الشهوات المباحة وإبقاء منافذها مفتوحة. والمتتبع لمسار المدنية المعاصرة يلحظ ابتعادها عن محور الوجود، وغفلتها عن المعاني الخالدة، والجوانب الملكوتية في النفس البشرية، ويلمس إيلاءها الرعاية القصوى، والأهمية الكبرى للجانب الحيواني في الإنسان، فالربح واكتناز الثروة، والرفاه المادي، والغنم السريع، صار مع التحولات الاقتصادية غاية الآملين للحياة الوديعة، ومنتهى غايات المحمومين بسعار الحضارة، وهذا ما أنتج كما يقول القرضاوي في كتابه الإيمان والحياة شعورين مختلفين، أولا: شعور الإنسان بالتفاهة والضياع، ونظرته إلى نفسه نظرة حيوانية بحتة، ثانيا: شعور الغرور والكبر، ذلك الشعور الذي ينتهي بالإنسان إلى تأليه نفسه حتى يسقط وجود الإله الحق من اعتباره، ويتصرف كإله لا يسأل عما يفعل، كما زعم جوليان هسكلي حين قال: "إن الإنسان في العالم الحديث أصبح هو الله المنشئ المريد".
إن الفراغ الروحي، والعطش النفسي، والاضطراب الذي يواجهه الغربيون وأزلامهم من أبناء جلدتنا، لا يمكن القضاء عليه إلا بالإجهاز على مسبباته، والقضاء على موجداته، ولا مسلك يؤدي حتما إلى اقتلاع هذا الهوس من قلوب وعقول وأرواح كثير من شباب اليوم إلا بإحياء القيم الروحية، وتعبئة المتدينين للأخذ بما يضمن سلامة أرواحهم من عواصف فتنِ ومغريات الحياة، ويؤمن للمجتمع استقراره وهدوءه وطمأنينته، ويمد الحياة في مشكلاتها بحلول ناجعة، فالعصر الذي نعيش فيه كما يقول سعيد حوى في تربيتنا الروحية( ص12):" عصر الشهوة، وعصر النزوة، وعصر المادية، ولا بد أن تقابل هذه الأشياء فيه بما يكافئها ويقابلها، وإن التربية الصوفية وحدها هي التي تقابل ذلك، فالشهوة لا تحل مشكلتها المقال وحده، بل لا بد من الشعور والذوق والإحساسات الإيمانية مع المقال، والتمرد لا يعالج بالكلمة وحده، بل يعالج بالإخبات لله والتقوى والورع والأدب، وهذه طريقها العملي هو التصوف" فالتصوف كما يقول بعض الباحثين: يغطي زوايا حساسة ومهمة في حياة الأفراد، ويلبي الخَوَاء الروحي والنفسي الذي يعيشه الغربي في حياة الفكرية وحضارته المادية.

سابعا: إن التصوف يفسر الوجود، ويكشف الحقائق الكبرى للكون، عن طريق ذوقي بدون وسائط، وقد احتار الناس قديما في هذه الحقائق، دون أن يجدوا لها مدلولا إلا داخل التجربة الصوفية التي تعبر عن نظرية معرفية ذوقية مستوحاة من القرآن.

ثامنا: إن التصوف يعلم الإنسان كيف يستشعر مسؤوليته في موقعه من الحياة، ويحفزه لتنمية جوانبه المرتبطة بكون الروح الذي أودعه الله بجسده، ويهيئه لتعميق تجربة الإيمان ذوقا ووجدانا بعد أن كانت أنظارا فلسفية لا تفيده في قيام علاقة فيما بينه وبين نفسه وكونه وعالمه العلوي والسفلي، فينتقل الإنسان بواسطة التصوف إلى إنسان مسدد مقوم يتحرك في فلك الحياة بقابلية الخير والرشاد، ويسعى في مجال العبادة بنية خلوصة تدفع عنه الريب والشكوك، وتمنعه من حضور الأغيار في ممارساته العبادية. 

تاسعا:إن التصوف بعد من أبعاد التجربة الدينية، ما دامت التوجيهات الدينية مرتبطة بالجانب العقدي والأخلاقي، فالتصوف فقرة أخيرة من فقرات السير الذي ينتقل فيه المتدين من الإسلام شعيرة، إلى الإيمان عقيدة، إلى الإحسان سلوكا، فالتصوف عبارة عن التخلية عن الأخلاق الأرضية، والتحلية بالأخلاق الملكوتية، والتدثر بالصفات الإلهية، 

عاشرا: إن التصوف يعلم الإنسان كيف يحتفظ على أعمال الظاهر والباطن، وكيف يرسم الطريق الموصل إلى تحقيق ذلك، فالظاهر يجسد جوهر العمل بإحدى الجوارح والكواسب، والباطن يمثل الحقيقة الدافعة إلى العمل، والغاية المقصودة منه، فإذا فسد الباطن تحولت العبادة إلى فراغ لا ترجى منه فائدة ولا عائدة، وإذا صلح أثرت في سير الإنسان، وجعلت عبادته مقبولة تؤثر على الإنسان في مسار حياته وسلوكه، يقول السيوطي: (وأما علم القلب ومعرفة أمراضه من الحسد والعجب والرياء ونحوها، فقال الغزالي: إنها فرض عين) ["الأشباه والنظائر" للسيوطي ص504]، فتطهير الباطن يؤثر في سداد الظاهر، والنصوص متواترة في شأن ذلك، قرآنا وحديثا. يقول ابن عابدين في حاشيته الشهيرة: (إن علمَ الإخلاص والعجب والحسد والرياء فرضُ عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر والشح والحقد والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبخل والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة، والاستكبار عن الحق والمكر والمخادعة والقسوة وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من "الإحياء". قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليه.

وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إلا بمعرفة حدودها وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه) ["حاشية ابن عابدين" المسماة رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج1/ص31]. فالتصوف هو الذي اختص بتبيان معرفة أدواء الأرواح، ووسائل علاجها، وطرق المحافظة على سلامتها.

إحدى عشر:إن التصوف يحقق للإنسان فردانيته التي تجعله مسئولا عن أفعاله واختياراته، فلا يعيش تحت تأثير أو مجريات أخرى تجعله مسلوب الإرادة، فاقد الحركة، فهو من الله وإلى الله، وغايته أن يفنى في الله عز وجل حضورا وفقدا، ووجودا وعدما، والتصوف في خدمة الإنسان حتى تكتمل دوراته وقراراته، وتنتهي حياته دون خنوع إلا للجمال الإلهي، يقول ابن عربي::" فلا يزال العالم محفوظاً ما دام فيه هذا الإنسان الكامل " ( فصوص الحكم )

إثنا عشر: إن التصوف يقرب صورة المعتقد والعبادة على أنها بسيطة غير معقدة، بخلاف المماحكاة المنطقية التي شغلت المتكلمين والفلاسفة ردحا من الزمان.
...
المصدر : موقع الحوار المتمدن

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...