السبت، 6 أبريل 2019

المرأة ولية .. وأنثى .. قراءة في نصّ ابن عربي

المرأة ولية .. وأنثى .. قراءة في نصّ ابن عربي



- د. سعاد الحكيم 
 يقولون‏ في ابن عربي مايقولون، وتظل تربة ضمت رفاته في قاسيون وجهة اتقياء زائرين، وتستمر تجربته الروحيّة مداداً لكتابات عارفين عالمين، ومتطلعين متعلمين.‏
ومابين عوام يعتقدون ولايته، ويتبركون بزيارته، وبين خواص أرباب تدوين وتسطير، يغمسون أقلامهم في تصورات فكره ولحظات تجربته، مسافةٌ لا يردمها إلا تفرّد شخصه، الذي استطاع وصل القمة بالقاعدة.. فارتقى عوالي مراتب الخصوصية، دون أن يفارق جموع عوام المسلمين.‏
لذا، يكون الرجوع إلى نصه وإلى حياته، وخاصة في موضوع المرأة، هو اطلاع على موقف عالم إسلامي كبير، اتحد فكره بوجوده، بحيث إننا كثيراً ما نكمل بحثنا لفكرة من أفكاره بالنظر في تفاصيل حياته.‏
واقترح قراءة للمرأة في نصوصه وحياته من منطلقين، وبموجبهما سوف أقسم بحثي:
المنطلق الأول، ننظر إلى المرأة ـ الفرد، ونبحث مفاهيم ابن عربي وتجاربه بخصوصها، كذات وشخص له هوية وإمكانات، وله كمال يخصه في مقابل كمال الرجل.‏
المنطلق الثاني: ننظر إلى المرأة ـ الآخر، ونقرأ نصوص ابن عربي وحياته حول المرأة في علائقها، وفي وجودها كجزء له دور في شبكة علاقات تمتد رقائقها منها لتتصل بالوجود بأكمله.‏

واعتقد أن هاتين المقاربتين للمرأة، سوف تجعلان بحثنا ينفذ إلى القضايا الجوهرية الخاصة بالمرأة على امتداد التاريخ، وصولاً إلى يومنا الواقع على مشارف القرن الواحد والعشرين، ويفتح أيضاً آفاق قناعات جديدة علها تخدم أجيال مستقبلنا.‏
I : المرأة ـ الفرد‏
يزدوج النص الصوفي في نصين، عندما ينظر إلى كينونة المرأة، وعندما يتعاطى مع إمكاناتها وأهلياتها وحدود قدراتها:‏
النص الأول: يبطن، وإن كان لا ينص صراحة، القول بقصور المرأة، وعدم أهليتها للتصدي للحياة العامة، لذا يحبسها في إطار الحياة الأسرية الخاصة.. والمرأة الكاملة في هذا النص هي الأم الحاضنة المربية، والزوجة الصالحة المدبرة، الودود الصبور الشكور.. هي الأم والابنة والأخت والزوجة.. لا كينونة ذاتية لها، بل كينونتها عين أدوارها وعلاقاتها الأسرية، والمسرب الوحيد من هذا السد الأسري يفتح على خارج الكون، ويظهر في علاقتها بخالقها ومعبودها.. وهنا أيضاً الكثير من الضوابط والعديد من الاستحسانات، التي تحثّها على جعل علاقتها باللّه علاقة ثنائية بعيداً عن الجمع والجماعات.‏
أما النص الثاني فهو أكثر التفاتاً لجهة كينونتها الذاتية، وأكثر إضاءة لأهليتها الروحية، وقدراتها في مجال الرياضات والمجاهدات، وبالتالي يفسح لها مجالاً في مراتب الولاية الذكورية بالأصالة.‏
ومن خلال إشارات لنساء متصوفات، أفراد في حقل التصوف، نستشف نحن أهلية المرأة كجنس للعرفان والقرب الإلهي، وبالتالي مشروعية أخذ الرجل عنها، وتربيته في مجالسها، وتأدبه بنهجها وطريقها.‏
هاهو الحسن البصري يقول لصحبه مدللاً على شخص السيدة رابعة: هيّا بنا إلى المؤدبة.. وفي مجلسها تتداول مع أهل النخبة من الحضور، فنرى من طرحهم جميعاً لمفاهيمهم الصوفية علو تجربتها على تجربتهم، وبالتالي يصبح نصها هدفاً لمجاهدة رجل وتحققه من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار.. ويقول عنها محيي الدين بن عربي: رابعة العدوية المشهورة التي أربت على الرجال حالاً ومقاماً1-.‏
وهذه أيضاً فاطمة النيسابورية أستاذة ذي النون المصري؛ وهذا أبو يزيد البسطامي يقول لشيخ الملامتية: تعلّم الفتوة من زوجتك.. فالمرأة هنا، بشهادة البسطامي، وضعت قدمها في مقام يقصّر عنه أبطال الرجال، لأن الفتوة اقتحام وقوة ونصرة.‏
وبطل شيخ الصوفية الأكبر ـ ابن عربي ـ ليذهب في الموقف الثاني إلى نهاياته الأخيرة.. أما نقطة البداية فكانت ـ في رأينا ـ تجربته السلوكية التي أفسحت المجال أمام قناعاته الفكرية بالأهلية الروحية للمرأة، لذا ننطلق من هذه الأهليّة الروحيّة لننظر في أهليّة المرأة العلمية وأهليتها السياسية.‏
1 ـ الأهلية الروحية.. ولاية المرأة:‏
يافعاً خدم ابن عربي بنفسه سنين، امرأةً من العارفات بإشبيلية.. لها حال مع اللّه، هي فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، والتي تقول عن نفسها2-، إنَّ اللّه اعتنى بها، وجعلها من أوليائه واصطنعها لنفسه.‏
ومما يلفت النظر قول ابن عربي أنه خدمها سنين، فهو ـ بحسب معرفتنا بمسار حياته الصوفية ـ لم يخدم رجلاً من العارفين سنين. كما أنه لم يعترف لرجل من العارفين بالولادة عليه، ولادة روحية معنوية، هي وحدها ناداها بقوله: يا أمي.‏
وإذا توقفنا عند تعليمها له نرى بدايات وحدته الوجودية، تقول لابن عربي: "عجبت لمن يقول إنه يحب اللّه ولا يفرح به وهو مشهوده، عينه إليه ناظرة في كل عين، لا يغيب عنه طرفة‏ عين3-".‏
.. وعندما تسأله: "ياولدي ماتقول فيما أقول، يجيبها: يا أمي القول قولك4-".‏

بالإضافة إلى تعاليمها نرى ابن عربي يعرف مقامها ويعلمه.. عرف مقامها عندما أخبرته أن فاتحة الكتاب تخدمها5-، وعلم مقامها عندما قرأت فاتحة الكتاب لأمرٍ أرادته وقرأ معها، فإذا بها تنشئها بقراءتها صورة مجسدة هوائية، وتطلب منها أن تفعل كذا أو كذا6-....‏

وعندما تكلم ابن عربي على علم الحروف، وهو علم الأولياء، ذكر خدمته وانتفاعه بهذه السيدة الولية7-، وأكد أنها كانت من أكابر الصالحين، تتصرف في العالم، ويظهر عنها من خرق العوائد بفاتحة الكتاب خاصة كل شيء.. وكانت تظن أن هذا متاح لكل أحد، بل وتعجب ممن يعتاص عليه شيء، وعنده فاتحة الكتاب. وتقول لابن عربي: لأي شيء لا يقرؤها فيكون له مايريد.‏

ومع هذه الولية العارفة، التي تتصرف في العالم، ورأى منها ابن عربي عجائب8-، أقر ابن عربي بولادته الثانية وقبل نسبته إليها، وأفسح مجالاً في نصه لنَسَب الدين ونَسَب الطين، لولد الدين وولد الطين.. كانت تقول له، ويقرّها على ذلك: أنا أمك الإلهية ونور أمك الترابية9-. تأسيساً على ولادته المعنوية من أم روحية يقرّ بظهورها بوجهي الولاية: العرفان والتصريف في الأكوان.‏

تدرّج ابن عربي لأن تتكون لديه قناعة بأنه لا مانع تكوينياً أو كونياً من وصول المرأة إلى أعلى مراتب الولاية، وإن لم يقع ضمن خبرته لقاء بامرأة في موقع القطب، صاحبة الزمان، الغوث الخليفة. فالنساء والرجال، لديه، يشتركون في جميع مراتب الولاية حتّى في "القطبية"؛ فكل مايصح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاءَ اللّه من النساء 10-.. هذا النص لابن عربي يجعل طريق الولاية أمام المرأة مفتوحاً، لا سقف يحدّها إلا مرتبة النبوة وشخص النبي (صلى الله عليه وسلم)، فالمرأة وإن لم تظهر بالفعل في دنيا الناس في موقع القطبية إلا أنّه في قدرتها ذلك، وبالتالي في عالم الروح تتساوى الحظوظ بين المرأة والرجل، وينعكس هذا التساوي في نظرة أعلام الصوفية لها.‏

ولكن ما أبعاد كون المرأة قطباً وخليفة؛ بحسب تصورات الشيخ الأكبر؟‏

تصبح المرأة ـ فيما لو أصبحت قطباً خليفة ـ هي صاحبة الوقت، وسيدة الزمان، خليفة اللّه في أرضه، ونائبة سيد المرسلين في أمته، وارثة للاصطفاء والاجتباء والخصوصية الآدمية11-..‏

عليها مدار العالم12-، وتُعطى التحكم في العالم، حوائج العالم أجمعه تتوقف عليها.. وبها ينفرد الحق ويخلو دون خلقه، لا ينظر سبحانه في زمانها إلا إليها.. هي الحجاب الأعلى13-، ينصب لها اللّه سبحانه في حضرة المثال سريراً يقعدها عليه، ثم يخلع عليها جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم وتطلبه.. فإذا قعدت على السرير بالصورة الإلهية، أمر اللّه العالم ببيعتها على السمع والطاعة، فيدخل في بيعتها كل مأمور أعلى وأدنى إلى العالين من الملائكة وهم المهيمون، والأفراد من البشر الذين ليس لها فيهم تصرّف؛ لأنهم مثلها كُمّل مؤهلون لما نالته من القطبية14-..‏

هذه التجربة الشخصية مع فاطمة بنت المثّنى، وهذه القناعة النظرية بإمكانية وصول المرأة للقطبية والخلافة تجعلنا نعتبر ابن عربي، إنسان القرن السابع الهجري، شريكاً ومشاركاً حيوياً في الحوار القائم اليوم حول القضايا الخاصة بالمرأة.‏

ونتوقف عند مسألتين: مسألة الأهلية العلمية، ومسألة الأهلية السياسية.‏

الأهلية العلمية:‏

أعطى الإسلام الشخص أهمية كبرى بحال العلم والتعلّم، فالعلم الحق لا يؤخذ من الكتب بل من أفواه الرجال.. الإنسان حلقة في سلسلة، يتلقّى ويُلقي، يأخذ ويُؤخذ عنه.. فهل المرأة مؤهلة بحكم صفاتها وطبيعة حياتها أيضاً لأن تكون حلقة في سلسلة العلم المتوارث عبر الأجيال؟ أو أن الأمّة ستظل تحمل حرجاً من الاطمئنان إلى تساوي كفاءة منطق عقلها مع الرجل؟‏

ثمّ من جهة ثانية، قال العارف الصوفي: "حدثني قلبي عن ربي"، أو "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذت عن الحي الذي لا يموت".. فهل في طاقة قلب المرأة، الذي هو جهاز استقبال المعرفة الإلهامية، أن يلتقط على صفحته العلوم اللدنية؟.. ثم، إن التقط قلبها الإلهامات، هل نستوثق من ترجمة عقلها لإلهام قلبها وحفظها لتفاصيل هذا الإلهام، فلا تنسى بحيث يضيع انضباط هذا العلم على حدود أصولنا الثابتة؟‏

وأيضاً، لمصدر العلم في الإسلام موقع إمامة واتباع، فكل شخص نأخذ عنه فإننا نتبعه ونسير على نهجه، وإذ كان العلم ينمو بالتوارث ويتجدد بالأجيال، لذا تأخذ كل حلقة موقعها الاجتهادي.. فهل للمرأة أهلية لأن تكون عالمة فقيهة متّبَعة في مجال عرفان اللّه وشريعته؟‏

ـ أسئلة كثيرة وشكوك تدور كلها حول صفات المرأة التكوينية، وحول عوائق شروطها الحياتية في الأسرة، التي قد تناقض أحياناً طبيعة العلم الموضوعية، وشروط تحصيله بالاختلاط والترحل.‏

بداية، يرى ابن عربي أن الإنسانية هي حقيقة الإنسان، وهي واحدة في الناس جميعاً، وهي الأصل، أما الذكورة والأنوثة فهما عارضان، كل واحد منهما بمثابة جملة صفات تجري على قابل الذات.. فكل من كان في موقع المؤثر والفاعل فهو رجل وإن كان امرأة. وأيضاً كل من وَجَب عليه وجوباً شرعياً أن يطلب من يأخذ عنه علمه فهو رجل، سواء كان ذكراً أم أنثى15-. هنا يؤكد ابن عربي على كون المرأة بحكم خلقتها وتكوينها مساوية للرجل في الشروط الإنسانية، قابلة لكل النشاطات العقلية والفعاليات الإنسانية الذكورية.‏

ويعطي بلقيس مرتبة فقهية.. ويرى أنهاعندما أسلمت لم تنقد لسليمان، بل ظلت متحررة في اعتقادها من أتباع رسول أو إمام، اعتقاد متحرر من الوسائط، مباشر كاعتقاد الرسل تماماً، وذلك حين قالت: "أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين"، فلم تنقد لسليمان جاعلة منه مصدر علمها ومعرفتها ودينها، بخلاف فرعون حين قال: "رب موسى وهارون"16-.‏

ونستفيد من طرح ابن عربي لمثال بلقيس، هذه الشخصية القرآنية، لنقول نحن أيضاً: إن نموذج بلقيس مثال على أنه عندما أفسح المجتمع المجال أمام المرأة برزت.. ملكت وحكمت.. ومما يلفت النظر أننا لم نلحظ في القرآن إشارة استنكار أو كراهة لملك المرأة أو حكمها.. وبلقيس ظلت موضوعية وواعية لشروطها وموقعها كسيدة قومها أمام سليمان، وهو من هو في زمنه: فهي أولاً حين رأت عرشها لم تجزم بأنه هو، ولم تنفِ بأنه هو، وقالت: "كأنه هو".. جوابٌ ينسجم في نسبيته مع أكثر فلسفاتنا وموضوعياتنا المعاصرة. وهي ثانياً حين أسلمت، حافظت على موقعها كأولى في قومها، فلم تنقد لسليمان لتكون تابعة، وبالتالي الرجل الثاني وهي ملكة، فقالت: "أسلمت مع سليمان".. فهذا المثال، ومثال السيدة عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ التي وصّى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالأخذ عنها، يزحزحان أطراف الستار عن أهلية المرأة وموضوعيتها ووعيها لشروطها.. ويجعلاننا نؤكد مع ابن عربي، أن الذات الإنسانية واحدة، تستقبل الصفات بحسب طاقاتها الفردية، وتوجهات تربيتها، وتجاربها الحياتية.‏

الأهلية السياسية:‏

عندما قال ابن عربي بإمكانية وصول المرأة للخلافة الكونية، أي تكون رأس الدولة الباطنة..، طرح أهليتها السياسية، ليس بالانتخاب الشوري بل بالتعيين الإلهي.. فهي، قد تكون، خليفة الله في أرضه ونائبة رسول اللّه في أمته.. إذن، بمقتضى نص ابن عربي، لا مانع عقلانياً أو نفسانياً في أصل فطرتها، ولا عائق في طبيعة حياتها، يمنعانها من الخروج من دائرة خصوصيتها لمباشرة حوائج العالم وأمور الناس.. ونرى أنه لا يقدح في قوله هذا كون رأس الدولة الباطنة مستوراً مصوناً من أعين الخلق، والخليفة الظاهر محور وجود المسلمين الدنيوي.. فهذا أمر يُبحث على مستوى مظهر المرأة وليس أهليتها..‏

ابن عربي هنا، في نظرته إلى أهلية المرأة، يسترجع ويكمل مسيرة بداياتنا الإسلامية في زمن النبوة والصحابة، حين كانت مشاركة المرأة العلمية والسياسية واضحة معلنة ومباشرة. وأتت عصور الظلم والإظلام، وتراجع دور المرأة الحرة في الحياة العامة أمام دخول الجواري المملوكات ـ بالشراء أو السبي ـ ساحات الفنون وبلاطات السلاطين وسياساتهم. وأدخل هذا معه نمطاً جديداً من العلاقة غير المتكافئة مكانة بين الرجل والمرأة، بين قويّ مالك حاكم، وبين ضعيف وصولي ماكر، يتوسل بأي نهج ليكون ويستمر، وينشئ شبكة علاقات مصلحة داعمة في غياب عزوة وأهل وعشيرة.‏

استشهد ابن عربي على مراتب الولاية المفتوحة للمرأة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: النساء شقائق الرجال.‏

وعندما ننظر إلى مسألة المرأة اليوم، إلى أهليتها العلمية والإدارية السياسية ـ ولا نقصد بالضرورة من الأهلية السياسية أعباء خلافة المسلمين ـ فنحن إنما نستعيد ونحيي من خلال نص إسلامي شامل، هو نص الشيخ الأكبر، أصولنا المنسية الموؤدة تحت وطأة سنين غربّت الإسلام في حضارات تكاد تناقضه في سلّم قيمها. تجعل قيمة الرجل في كونه واصلاً ناجحاً قوياً منتصراً لا في كونه صادقاً أميناً شهماً أبياً شجاعاً.. لذا، لابدّ من إعادة فتح ملف المرأة والرجل معاً، والتأكيد على أن أهلية الرجل ليست في ذكورته، وإنما في اكتمال صفات الرجولة الإنسانية فيه.‏

II: المرأة ـ الآخر‏

المرأة الإنسان والمرأة الأنثى:‏

تناولنا في القسم الأول كينونة المرأة كإنسان، ورأيناها تدخل عالم الروح، وتؤكّد أهليتها لتمارس العلم والحكم في الغيب والشهادة.. وتوضحت رؤية ابن عربي للكمال الإنساني ـ المتاح بعد ختم النبوة ـ على أنه واحد مفتوح للرجل والمرأة، وإن كانت الالتماعات الذكورية في النص تجعلنا نشعر أن المرأة في هذا المجال لم تفعل سوى أنها دخلت حقل الرجل، وشاطرته كماله الذكوري، إن أمكن التعبير.‏

أما في هذا القسم الثاني فسوف نبحث كينونة المرأة كأنثى، لنتعرف على خصوصية الكمال الأنثوي ورتبة الأنوثة، في مقابل الكمال الذكوري ورتبة الذكورة. ونرى في المقابل هنا، كيف يدخل الرجل حقل المرأة ليشاطرها أنثويتها ويتحقق برتبتها.. فلكل رتبة وجودية كمالها الذي هو عين استقامتها على صراط حقيقتها الخاصة، من منظور ابن عربي.‏

وجرياً على منهجنا في قراءة ابن عربي، على أنه هو هو على مستوى الفكر والوجود، سنداخل بين أفكاره حول المرأة وبين سلوكه تجاهها وعلاقته بها، حتى تتوضح أبعاد رؤيته لها، في البُنى المتعددة التي هي جزء منها، وتمارس فيها دوراً ووظيفة.‏

ونحصر كلامنا بالعلاقتين الأهم بين الرجل والمرأة، واللتين تكرسهما عمليتان هامتان في تاريخ الوجود، بل يقوم عليهما الوجود، هما: عملية الخلق والإيجاد، وعملية التوالد والتكاثر؛ حيث تظهر مع العملية الأولى المرأة ـ المكمل الوجودي للرجل، وتظهر مع العملية الثانية المرأة ـ المنفعل الوجودي للرجل.‏

1 ـ المرأة ـ الآخر، المكمل الوجودي:‏

استوحش في الجنّة آدم، أول هذا الجنس الإنساني، إذ لم يجد من يسكن إليه، لأن الأنس لا يكون إلاّ بالجنس، تبعاً لتصورات الشيخ الأكبر..‏

وخلق اللّه حواء، أوجدها من آدم.. فارقت بدنه وهي قطعة منه، فظل حنينه إليها ـ طوال أجيال الرجال ـ حنين الكل إلى جزئه المكمل لوجوده، وظل حنينها إليه ـ طوال أجيال النساء ـ حنين الغريب المفارق لوطنه.‏

قبل ابن عربي وُظِّف خَلْق المرأة من الرجل، في مجال العلاقة بينهما، بتوجهات دونية وتهميشيّة واستعلائية.. ولكن مع ابن عربي عادت رسالة القرآن للظهور، ويمكننا متابعة رؤيته والقول بأن الرجل سيظل يشكو نقصاناً، مالم ترجع المفارقة إلى مكانها من بدن ذاته17-، وستظل المرأة تشكو غربة إن خرجت أو أخرجت وراء حدود أرض رجلها.‏

ولننظر في حياة ابن عربي، لنرى هل تعامل مع المرأة على أنها جزءه الوجودي، هذه الواحدة التي بها، وبها فقط، يشعر بامتلاء كينوني، أم أن كلامه في الحنين والجزء مجرد تنظير في الخلق، على حين أن حياته مفتّتة الكيانات يتشاطر لحظاتها مع كثيرات؟‏

نعرف أنه تزوج أكثر من واحدة وأنجب، ونعلم أنه أحبّ حباً عميقاً وهو في الثامنة والثلاثين، نظام بنت الشيخ مكين الدين الأصفهاني، ومن أجلها نظم الشعر ونطق باللغز والرمز.. فأين موقع نظام من نسائه، وكيف يظل منسجماً مع قوله بالجزء المكمّل بوجود هذا التعدد؟. هل عاش مثلاً امتلاءه الكينوني مع كل واحدة على شكل لحظات متوالية، يتغير فيها شخص المكمّل الوجودي فقط؟ أم أن المرأة ـ الآخر الوجودي هي عنده مجرد فكرة لتفسير الخلق، وترجمة القلق وحلم يحركان معاً الإنسان في مسار بحث وتفتيش دائمين؟‏

وعلى ضوء النظر في تجارب أشخاص الإنسان، المتنوعة والمتشابهة معاً؟ نقارب ابن عربي، الذي كثيراً ما نفهمه على ضوء مسار وجودنا، وكثيراً أيضاً ما نفهم أنفسنا على ضوءِ مسارِ وجوده، لنقول إن حياة كل إنسان تنفتح على إمكانيتين في العلاقة بالآخر: الواحد والكثير.. وقد تتحقق هاتان الإمكانيتان، وأحياناً كثيرة تتحقق واحدة منهما دون الأخرى. قد يحدث مثلاً أن تحتل كينونة إنسان، في مطلع حياة آخر، موقع الواحد المكمّل الوجودي، عندئذ تتعطل الإمكانية الثانية في كينونته، لانتفاء الحاجة إليها، والتي هي إمكانية الكثير.. وأيضاً قد يعيش إنسان حياته يتذوق كأساً إثر كأس، دون أن يرتوي، يتقلب في أعداد الكثير، من عدد إلى عدد دون أن يلتقي بمكمّله الوجودي. أو قد يلتقي بالواحد الفرد الذي به فقط يشعر بالامتلاء، وتنتفي عندها فقط حاجته إلى غيره، بل لا غير يمكنه حقيقةً الحلول محله.‏

أما إذا لم يلتقِ الإنسان فعلاً بآخره الوجودي فتظل إمكانية علاقة الواحد ثابتة في القوة، لا تخرج إلى الفعل بل تتلامح أحياناً في لحظات تَوَّهم سرعان ما تعبر.‏

فعلى ضوء علاقة الواحد والكثير في حياة إنسان نظن أن نظام الزوجة المفضّلة لابن عربي، قد احتلت موقع المرأة، أي الواحد ـ الفرد، والباقيات المذكورات في نصوص ابن عربي، والواضحات النسبة إليه، هنّ نساء، أي الكثير ـ المتوالي أو المتجاور.‏

ولكن هل في استطاعة الإنسان أن يمنح باختياره وإرادته مقام الواحد ـ الفرد في وجدانه، لمطلق إنسان يرى أنه يناسبه مقاماً أو أوضاعاً. أم أن الموضوع قدر لا إرادي ويشبه إلى حد بعيد علاقة المفتاح بالقفل؟. أقول: من منطلق أخلاقي اجتماعي أميل إلى القول الأول الكافل لاستمرار مؤسسة الأسرة، ومن منطلق معرفي بحت يرصد تجارب الناس المنفلتة من الروابط، لأسباب شتى مشروعة وغير مشروعة، ويرصد تقلباتها في صيرورة الزمن، أراني أقول بالقول الثاني، فكثيراً ماكنت أرى أشخاصاً تقارب عدة، وتظن في كل مرة السراب ماءً، ولكن لا فائدة، لا ينفتح عالم التوحد إلا بإنسان مخصوص، تنطبق صفاته مع صفاته انطباق الكف مع الكف، وانطباق أسنان المفتاح مع القفل.. وإلا سيظل الواحد منا خارج جنته ودائم الحنين إليها والبحث عنها.. والتفاتةٌ إلى الوصف الذي يعطيه ابن عربي لنظام في مقدمة "ترجمان الأشواق" تؤكد مصداقية ما أسلفنا، فهي وحدها امرأته، ولم تكن يوماً مجرد عدد في جملة نسائه.‏

وانسجاماً مع رمز المفتاح نقول أنه ـ استناداً إلى وصف ابن عربي لنظام ـ في استطاعتها، بحكم شمولية كينونتها المطابقة لشمولية كينونة ابن عربي، أن ترافقه في عوالمه كلها، عالم الروح والعقل والنفس والبدن؛ بالإضافة إلى كونها تمثل صورة الكمال المشتهى لديه في امرأة كل عالم..‏

يقول في وصفها 18-: عذراء، هيفاء، تقيد النظر، من العابدات العالمات السائحات الزاهدات، شيخة الحرمين، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت.. شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء.. علمها عملها، عليها مسحة مَلَك وهمّة ملك..‏

أما كون نمط علاقة ابن عربي بها هو نمط علاقة الكل بجزئه الواحد الفرد، فنستدل عليه من مدلولات ألفاظه نفسها، فهو يقول عنها؛ إنها يتيمة دهرها، بيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، عهدها قديم، وكل اسم يذكره في ديوانه فهو عنها يكني، وكل دار يندبها فدارها يعني...‏

هذا الموقع الذي تحتله المرأة بكونها الآخر المكمّل الوجودي للرجل، والشريك الوجداني أيضاً، يخضع كما رأينا لمواصفات تكوينية خاصة بالمرأة، راجعة لفطرتها وتربيتها وتوجهاتها؛ والأهم من ذلك لمستوى وعي الرجل، ورتبة عرفانه بمكانة المرأة الوجودية. ونؤكد نص ابن عربي بأن نلاحظ، أنه من آدم لم تُخلق إلا حواء واحدة.‏

المرأة ـ الآخر، المنفعل الوجودي:‏

هنا تفارق علاقة الرجل بالمرأة حقل الحضور والوجود للآخر فقط، كما في المكمل الوجودي، لتدخل حقل الفعل والانفعال بغاية التوالد والإنتاج، فهي التوالد لابد من ازدواج الأب والأم بحركة بينهما تؤدي لوجود ثالث، هو الابن...‏

هنا يقارب ابن عربي المرأة لا من جهة كينونتها الإنسانية، ولا من جهة موقعها من ذات الرجل ووجدانه، بل من جهة كونها الأنثى.. إحدى مراتب الوجود. وهي مرتبة القابلية والانفعال والتأثر.. هي محل الإلقاء والبذر والاستحالات والإيجاد والتكون والظهور، فكل منفعل وقابل للإلقاء والتكون، ومحل للظهور والإيجاد فهو أنثى وإن كان ذكراً19-.. لذا كل من في الكون أنثى، لأنه محل زرع وحرث، محل بذر وإنتاج.. يقول الشيخ في الفتوحات20-:‏

‏إنّا إناثٌ لما فينا يولدهُ‏

فالحمدُ للّهِ مافي الكونِ من رجلِ‏

‏إن الرجال الذين العرفُ عينّهم‏

هُمُ الإناثُ وهم نفسي وهم أملي‏

‏وتستمر معرفة ابن عربي الشهودية تتصاعد في نظرتها للمرأة ـ الأنثى.. إلى أن يصرح في فصوص الحكم، استناداً إلى أن الإنسان لا يشهد الحق إلا متجلياً في صور الممكنات، بأن المرأة هي أكمل مشهد للحق المشهود، لأن الرجل يشهد فيها الحق من حيث هو فاعل منفعل.. فالرجل يشهد الحق في المرأة ويعبر من جمالها المقيد إلى الجمال الحق المطلق.‏

هذه الرؤية للأنوثة تضفي قدسية على المرأة هي بأمسّ الحاجة إليها في زمننا، كما أنها تزحزح القهر والظلم والاضطهاد عنها، وتوضح إلى أي مدى الإسلام مبرّء من ممارسات غير واعية.‏

فالمرأة ـ الأنثى هي محل التكوّن والظهور لأنها القابل والمنفعل، ففيها يتكون الولد وعنها يظهر.. وهنا يعطيها ابن عربي اسمً الأمً، ويظهر كمالها بأنها متلقية ملقية، آخذة عاطية، منفعلة عن الأب فاعلة في الابن.. وهكذا بالمرأة يمر الوجود ويستمر توالد الكون من الكون.‏

(المعجم الصوفي ص (145)..‏

وكون حواء هي محل التناسل وظهور أعيان الأبناء 21-، ويمر الوجود في عالم الكون عبرها، فهذا يعطيها حسَّاً واقعياً عملانياً من جهة، كما يمكّنها من التحكم بنماء أي قوم أو شعب من جهة ثانية. وهذا ما خبرته قبلنا الدول الغربية، وتحاول تكييف قوانينها كأن تجعل مثلاً الأولاد من نصيب المرأة في حال الطلاق إرضاءً لها، لتحريضها على متابعة جهدها في حفظ النوع الإنساني واعية تماماً أنها محل ظهور الجنس.. وأنها بتجاوز المرأة إلى الأنبوب والاستنساخ إنما تقوم بمغامرة مكلفة إنسانياً.‏

ونمشي مع ابن عربي على طريق محمديته لنرى معه أهمية التعاليم النبوية في بناء‏

علاقات سليمة ومجتمع سليم.. فآخر كلامه صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء.. وهو‏

صلى الله عليه وسلم حبّب إليه من دنيانا النساء، أحبّهنّ بالمرتبة وأنهنّ محل الانفعال.. على‏

مايرى ابن عربي22-.‏ نصوص الحكم (ص218).‏

خاتـمــة.‏

الآن وبعد أن قاربنا ابن عربي من خلال حياتنا وتجاربنا ومشاكل معاصراتنا، نشعر بالاعتزاز بإسلامنا الذي أعطى في القرن السادس ـ السابع الهجري علماً إنسانياً علائقياً، قد تساعدنا رؤاه على تفسير واقعنا وتغييره...‏

ولا تفجأنا تقدميّة ابن عربي في نظرته اللا إزدواجية للمرأة حيث جاءت إيجابية غير مختلطة أو ملتبسة بسلبية.. كما أنها بخلاف كتابات المؤلفين في عصور الظلام اللاحقة لم تحبس المرأة في الدور والوظيفة، بل أفسحت المجال لكينونتها الذاتية.. فالمرأة الإنسان مساوية للمرأة الأنثى.. ومتساوية في العقل والدين والحظ مع شطر الكون الآخر، الرجل.‏

‏الحواشي:‏

‏1 ـ را. الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت ج2، ص 359.‏

2 ـ را. الفتوحات ج2. ص 348.‏

3 ـ را. الفتوحات ج2. ص347.‏

4 ـ م.ن. الصفحة نفسها.‏

5 ـ م.ن. الصفحة نفسها.‏

6 ـ م.ن. ج2 ص348.‏

7 ـ م.ن. ج2 ص 135.‏

8 ـ م.ن. ج2 ص348.‏

9 ـ را. المعجم الصوفي ، ص ص 124-125.‏

10 ـ را. الفتوحات ج2. ص89.‏

11 ـ را. المعجم الصوفي ص 680، الأجوبة اللائقة لابن عربي ورقة 9/أ.‏

12 ـ را. المعجم الصوفي ص912، ومنزل القطب لابن عربي ص 2.‏

13 ـ را. المعجم الصوفي ص912، والفتوحات ج2، ص 555.‏

14 ـ را. المعجم الصوفي ص913، والفتوحات ج3، ص 136-137.‏

15 ـ را. الفتوحات ج2. ص588.‏

16 ـ را. المعجم الصوفي ص 213، فصوص الحكم ج1، ص 156-157.‏

17 ـ انظر بحثنا عن الرهبنة والمرأة والزواج من منظور إسلامي، مؤتمر التراث السرياني الخامس، انطلياس، ص 6.‏

18 ـ را. ترجمات الأشواق، ص ص 8-9.‏

19 ـ را. المعجم الصوفي في المواد التالية آدم ـ أم ـ أرض ـ أنثى.‏

20 ـ را. الفتوحات ج4. ص445.‏

21 ـ را. المعجم الصوفي ص 145.‏

22 ـ را. فصوص الحكم، ج1، ص 218‏

الجمعة، 5 أبريل 2019

سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه


سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه




حورية بن قادة: باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

   للتصوف الإسلامي آفاقه الذوقية الرحبة، وعالمه العامر بالدلالات الروحية، والرؤى النورانية الشفافة، وطريق التصوف طويل لا يقطع مراحله إلا الصادقون في طريق الله، أولئك الذين تخلصوا من أَسْر المشاغل الحسية التي تُلهي المرء حينا وتلتهمه أحيانا.
   ومن كبار الشخصيات التي تُقابلنا في تاريخ التصوف الإسلامي، شخصية الصوفي الكبير، العالم العارف، سيدي عبد القادر الجيلاني قدّس الله سره، ونوّر ضريحه، ذلك الرجل الذي جذبه رحيق التصوف منذ حداثته، وتعلّق به في سنواته المبكرة حتى سلك سبيل الولاية الروحية، لا يشغله إلا حب الذات الإلهية، ولا يملأ قلبه إلا الرجاء في الاغتراف من كأس المعرفة الإلهية.
   إنه الشيخ الإمام، "العالم الزاهد، العارف القدوة، شيخ الإسلام، علم الأولياء، محي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي الحنبلي، شيخ بغداد".[1]
    ولد "بنيف، وهي مدينة صغيرة في جيلان سنة 470ھ-1077م"، [2] وقد ذكر أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع الجيلي أن مولد الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني، كان سنة 471ھ، وكذا قال الحافظ أبو عبد الله محمد الذهبي، ولد بجيلان سنة 471ھ".[3]
   نشأ الإمام عبد القادر نشأة كريمة في بيت زهد وشرف وصلاح، "فهو حسني الأب حسيني الأم، فقد جمع الشرف من الجهتين، وضمّ أسباب المجد من الطرفين".[4]
   هذا القطب الرباني، والفيض النوراني يعد "من أئمة التصوف البارزين، وطريقته من أول الطرق، فقد أسس منهاجا يتدرج به السالك من مجاهدات وأذكار مصحوبة بالفقه بالدين، وهو الأساس عند كل أهل التصوف"،[5] فقد اشتهر أمره عند الخاص والعام، وهو شيخ الشيوخ، وسيد الأولياء في عصره، وأكثر ما اشتهر به التصوف، والإرشاد، والتربية، إضافة إلى شهرته في فنون أخرى...
   لُقب الإمام الجيلاني بعدة ألقاب، أشهرها: باز الله الأشهب، ويبدو أن الإمام كان يوتر هذا اللقب، فقد لقّب نفسه به في أبيات شعرية، منها قوله:
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها

طربا وفي العلياء باز أشهب
   كما لقبه بهذا اللقب معاصروه، ففي بعض أبيات أبي مظفر منصور بن المبارك الواعظ من معاصري الجيلاني، يقول له:
بك الشهور تهني والمـواقيت
الباز أنت فإن تفخر فلا عجب

يا من بألفـاظه تغلو اليـواقيت
وسائر الناس في عيني فواخيت[6]
دخوله بغداد قصد طلب العلم وحرصه على مجاهدة النفس: 
   جاء في كتب القوم: "إن النهايات لا تصح إلا بصحة البدايات"،[7] ولقد كانت البداية والبذرة الدفينة في المنحنى الروحي لحياة الإمام، بجيلان؛ فهناك كانت النشأة الدينية القويمة، والنفحة الصوفية القوية، وكانت علوم القرآن والحديث، والفقه، وآداب الزهاد، أساسا للجدار الصوفي الذي ارتقاه الإمام فيما بعد، "وعلى الجملة، فقد كان للإمام: بذور صحاح غُرست بجيلان، وأورقت ببغداد، وتوزعت ثمارها على العالم الإسلامي كله".[8]
    وفي الطريق إلى بغداد، وقعت للمُتَرجَمِ واقعة، «فيحكي أنه كان تحت ثيابه أربعون دينارا خاطتها أمه في موضع خفي، وبينما القافلة تشق الطريق الجبلي في مسيرها إلى بغداد، خرج قاطعوا الطريق، فانفرط عقد القافلة، وعلا الصراخ والهياج والنهب، وسكن الشاب الجيلاني، حتى انتهى السطو، فإذا بواحد من قاطعي الطريق يتقدّم إليه مستخفّا به: "وأنت أيها الشاب، أليس معك شيء؟" يقول سيدي عبد القادر الجيلاني: "معي أربعون دينارا"، يتعجب اللص: "وأين هي؟" يرد: "مخاطة تحت ثيابي".. يتحول تعجب اللص إلى حنق، يريد الفتك بالشاب الذي بدا له أنه يهزأ به، يقوده إلى زعيم الجماعة القاطعة، يحكي ما دار بينهما، يسأله الزعيم نفس الأسئلة، فيتلقى نفس الردود. يتعجب: "إن معك الدنانير كما تقول فأخرجها"‼ يُخرج الجيلاني الدنانير، فينقلب التعجب إلى دهشة ووجل من الشاب. يُترجم الزعيم تعجبه ودهشته ووجله في السؤال: "لماذا تفعل ذلك وقد كنت بمنأى من السطو لو أنكرت ما معك؟" يقول: "لأنني عاهدت أمي قبل خروجي على الصدق، وأنا حافظ لعهدي معها"، هنا يعتصر الوجد قلب الزعيم، ويرتجف قلبه النائم في ضلوع الفسق، ويتأمل: "هذا الفتى يحافظ على عهده لأمه حتى ينهب ويكاد يُقتل، وأنا أخون عهد الله فأنهب وأقتل"، .. يرد الدنانير لصاحبها، ويرد ما سلبه للقافلة، ويعلن: "اعلموا إنني تائب إلى ربي، مقلع عما اعتدته، مقبل على عمل الخير"..، وتحت تأثير روعة توبة الزعيم، وانفعالا بموقفه؛ يعلن بقية القطاع عودتهم إلى طريق الله تائبين».[9]
   فقد ابتلي الشيخ - رضي الله عنه- في أول حياته في بغداد، وامتُحن امتحانا قاسيا، وتعرض للفتن والفقر والجوع والحرمان، حتى كان يقتات من حواشي الأنهار ويمشي على الشوك حافيا، ويلبس المرقع من الثياب...
   وفي ذلك قال الحافظ محب الدين ابن النجار: «كتب إليّ عبد الله بن أبي الحسن الجبائي، قال: حكى لنا الشيخ عبد القادر قال: قالت لي أمي: "امش إلى بغداد واطلب العلم"، قال: "فخرجت من بلد إلى بلد، وأنا ابن ست عشرة- أو ثماني عشرة سنة-، واشتغلت بالعلم، وكانت أمي تشتاق إليّ، فتكتب إليّ الكتب فتذكر شوقها إليّ، فأكتب إليها: إن شئتِ تركت العلم وجئت إليك، فتنفذ إليّ: لا تجئ واشتغل بالعلم، فكنت أشتغل في الفقه على المشايخ، وأخرج إلى الصحراء فلا آوي في بغداد، وأجلس في الخراب بالليل والنهار، وكنت ألبس جبة صوف، وعلى رأسي خريقة، وأمشي- وأنا حاف- في الشوك، وما هالني شيء إلا سلكته».[10]
وقال عنه الشيخ محمد بن يحيى التادفي الحنبلي:"ولما علم-أي السيد عبد القادر-أن طلب العلم على كل مسلم فريضة، وأنه شفاء للأنفس المريضة، إذ هو أفصح منهاج التقى سبيلا، وأبلغها حجة، وأظهرها دليلا..، شمّر عن ساعد الجد والاجتهاد في تحصيله، وسارع في طلب فروعه وأصوله، وقصد أشياخ الأئمة أعلام الهدى في الأمة"[11] 
 بعض شيوخه وأساتذته
   قَدِمَ سيدي عبد القادر الجيلاني إلى بغداد سنة 488ھ، وله 18 سنة، واشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه، ودرس الفقه، وأحكم الأصول والفروع والخلاف، وسمع الحديث، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه، وأخذ العلم عن أكابر علماء عصره، فكان إمام زمانه، وقطب عصره، وشيخ الشيوخ بلا منازع.
   بعد أن حفظ القرآن العظيم و أتقنه، "أخذ الفقه الحنبلي عن أبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي، وأبي الخطاب محفوظ الكلوذاني الحنبلي، وأبي الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء الحنبلي، والقاضي أبي سعيد المبارك بن علي المخرمي الحنبلي، وسمع الحديث من جماعة منهم أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني، وأبو سعيد محمد بن عبد الكريم بن خشيشا، وأبو الغنائم محمد بن محمد بن علي بن ميمون الفرسي، وأبو جعفر بن أحمد بن الحسين القاري السراج، وأبو العز محمد بن المختار، وأبو البركات طلحة العاقولي، وأبو البركات هبة الله بن المبارك وغيرهم...، كما أخذ الفقه الشافعي وعلوما أخرى...".[12]
   وكان الشيخ عبد القادر "قد لازم الأدب على أبي زكرياء التّبريزي، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه، وصحب الشيخ أحمد الدبّاس وأخذ عنه علم الطريق، ليكتب له بعد ذلك القبول وينتشر صيته بين الناس، فعقد المجالس سنة 521ھ، ثم جلس في مدرسة شيخه أبي سعد للتدريس والفتوى سنة 528ھ، وصار يُقْصَدُ بالزيارة والنذر، وصنّف في الأصول والفروع، وله كلام على لسان أهل الطريق".[13]
   وقد انتسب إليه جمع من العلماء وتتلمذ على يده خلق كثير لا يحصون، منهم على سبيل المثال لا الحصر: "الشيخ القدوة عثمان بن مرزوق القرشي، والقاضي محمد بن محمد الفراء الحنبلي. وأخذ عنه الشيخ الفقيه نصر المنى، والشيخ محمود بن عثمان البقال، والشيخ عبد الله بن أحمد الخشاب، والشيخ محمد بن الكيزان وغيرهم كثير...".[14] .
   وممن كان يحضر مجالس الشيخ عبد القادر ويأخذ عنه من أجلاء مشايخ ذلك العصر: منهم "الشيخ الكبير علي بن الهيتي، والشيخ ضياء الدين أبا النجيب عبد القاهر السهروردي، وابن أخيه الشيخ عمر بن محمد السهروردي البكري شيخ الطريقة السهروردية، والشيخ جاكير الكردي، والشيخ شعيب أبو مدين المغربي،... وغيرهم كثير".[15]
ثناء العلماء عليه
مما يشهد على أنه سيد أهل عصره، وإمام وقته، ثناء أكابر العلماء والعارفين عليه ممن عاصروه، ومن جاء بعدهم إلى يوم الناس هذا.
   فمن ذلك ما ذكره ابن الملقن في "طبقات الأولياء" أن الشيخ أحمد الرفاعي الكبير الحسيني قال عندما ذكر الشيخ عبد القادر في مجلسه: "الشيخ عبد القادر من يستطيع وصف مناقبه، ومن يبلغ مبلغه، ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه، وبحر الحقيقة عن يساره، من أيهما شاء اغترف، لا ثاني له في وقتنا هذا".[16]
   وقال الشيخ نجم الدين أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي البطائحي رحمة الله عليه: "سمعت أخي الشيخ  إبراهيم الأعزب يقول: "الشيخ محي الدين عبد القادر سيدنا، وشيخ المحققين، وإمام الصديقين، وحجة العارفين، وقدوة السالكين إلى رب العالمين".[17]
   وقال التادفي: «قال الشيخ الفاضل أبو طاهر محمد بن الحسن الأنصاري الخطيب: سمعت الشيخ أبا عبد الله محمد القرشي يقول: سمعت الشيخ أبا الربيع سليماني المالقي يقول: "سيد أهل زمانه، الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، "قال أبو طاهر: فقلت للشيخ القرشي: "سيد أهل زمانه"؟ فقال "نعم"، أما الأولياء فهو أعلاهم وأكملهم، وأما العلماء فهو أورعهم وأزهدهم، وأما العارفون فهو أعلمهم وأتمهم، وأما المشايخ فهو أمكنهم وأقواهم».[18]
   وقال الحافظ ابن رجب: "عبد القادر بن أبي صالح شيخ العصر وعلامة الحين، وقدوة العارفين، وسلطان المشايخ وسيد أهل الطريقة...، ظهر للناس وحصل له القبول التام، وانتصر أهل السنة الشريفة بظهوره، وانخذل أهل البدع والأهواء، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وجاءته الفتاوي من سائر الأقطار والبلاد، وهابه الخلفاء والوزراء والملوك فمن دونهم".[19]
كراماته
   من ذلك ما ورد في كتاب "إتحاف الأكابر" لعبد المجيد الجيلاني، قال مفرج بن شهاب: "لما اشتهر أمر سيدنا الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، اجتمع مائة فقيه من أعيان فقهاء بغداد وأذكيائهم على أن يسأل كل واحد منهم مسألة واحدة في فن من العلوم غير مسألة صاحبه ليقطعوه بها، وأتوا مجلس وعظه وكنت يومئذ فيه، فلما استقر بهم الجلوس أطرق الشيخ فظهرت من صدره بارقة من نور لا يراها إلا من شاء الله تعالى، ومرت على صدور المائة ولا تمر على أحد منهم إلا ويبهت ويضطرب ثم صاحوا صيحة واحدة ومزّقوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم وصعدوا إليه فوق الكرسي ووضعوا رؤوسهم على رجليه وضجّ أهل المجلس ضجة واحدة ظننت أن بغداد رجّت لها، فجعل الشيخ يضم إلى صدره واحدا بعد واحد، حتى أتى إلى آخرهم ثم قال لأحدهم أما أنت فمسألتك كذا وجوابها كذا، حتى ذكر لكل واحد منهم مسألته وجوابها، فلما انقضى المجلس أتيتهم وقلت لهم ما شأنكم قالوا إنا لما جلسنا فقدنا جميع ما نعرفه من العلم حتى كأنه لم يمر بنا قط، فلما ضمنا إلى صدره رجع إلى كل منا نزع من العلم، ولقد ذكر لنا مسائلنا التي بيتناها له وذكر عنها أجوبة لا نعرفها".[20]
   وقال الشيخ المظفر منصور بن المبارك الواسطي المعروف بجدادة: "دخلت وأنا شاب على الشيخ محيي الدين عبد القادر رضي الله عنه مع جماعة ومعي كتاب مشتمل على شيء من الفلسفة وعلوم الروحانيات، فلما دخلنا عليه قال لي من دون الجماعة قبل أن ينظر في الكتاب أو يسألني عما فيه: بئس الرفيق كتابك هذا، قم فاغسله، فعزمت أن أقوم من بين يديه وأطرحه في شيء، ثم لا أحمله بعد ذلك خوفا من الشيخ، ولم تسمح نفسي بغسله لمحبتي فيه، وكان قد عَلِقَ بذهني شيء من مسائله وأحكامه، فنهضت لأقوم على هذه النية، فنظر إليّ الشيخ كالمتعجب مني فلم أستطع النهوض وإذا حالي مقيّد عليّ، فقال ناولني كتابك هذا، قال: ففتحه فإذا هو كاغد أبيض لا حرف مكتوب فيه، فأعطيته إياه فتصفّح أوراقه وقال: هذا كتاب فضائل القرآن لابن الضريس محمد وأعطانيه فإذا هو فضائل القرآن مكتوبا بأحسن خط، فقال لي الشيخ: تتوب أن تقول بلسانك ما ليس في قلبك؟ فقلت نعم يا سيدي، قال: قم، فنهضت فإذا أنا قد نسيت الفلسفة وأحكام الروحانيات ونسخ من باطني حتى كأنه لم يمر بي قط".[21]
مؤلفاته:
   للشيخ عبد القادر رضي الله عنه مؤلفات عديدة، وتصانيف مفيدة تدل على تبحره وعلو كعبه، في الفقه والتوحيد والتصوف والأخلاق والحديث والتفسير، وغير ذلك من الفنون. ومن هذه المؤلفات نجد:
- الغنية: "وهي من أشهر آثار الإمام الجيلاني على الإطلاق، وهو واحد من المؤلفات التي توضع في مرتبة واحدة مع قوت القلوب لأبو طالب مكي، وإحياء علوم الدين للغزالي".[22]
- فتوح الغيب.
- الفتح الرباني والفيض الرحماني.
-  جلاء الخاطر في الظاهر والباطن.
- إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين.
- تنبيه الغبي إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
- الرد على الرافضة.
- الكبريت الأحمر.
- جواهر الرحمن.
- أدب المريد.
- سر الأسرار... وغيرها كثير.
وفاته
   عاش الشيخ عبد القادر الجيلاني تسعين سنة، "وانتقل إلى الله في العاشر من ربيع الثاني سنة إحدى وستين وخمسمائة، وشيّعه خلق كثير، ودُفن بمدرسته رحمه الله تعالى."[23]
   وهكذا فاضت روح الجيلاني، وطار باز الله الأشهب في رحلته الأخيرة، وودّع الدنيا إلى العليا.. لكن ذكره بقي في الأرض إلى يومنا هذا.
   كان يقول رضي الله عنه: "الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك، ما دمت ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربك".[24]
الهوامش:

[1]- سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط11، 1422-2001م، ج: 20 ص: 439.
[2]- عبد القادر الجيلاني شيخ كبير من صلحاء الإسلام، محمد علي العيني، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1413ھ-1993م، ص: 44.
[3]- الروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني، برهان الدين القادري، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1425ھ-2005م، ص: 17.
[4]- الفتح الرباني، عبد القادر الجيلاني، تحقيق: نجاح عوض صيام، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ط، د.ت، ص: 7، مقدمة المحقق.
[5]- إتحاف الأكابر في سيرة ومناقب الإمام محي الدين عبد القادر الجيلاني الحسني الحنبلي، عبد المجيد الجيلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1428ھ-2007م، ص: 11.
[6]- عبد القادر الجيلاني باز الله الأشهب، يوسف محمد طه زيدان، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411ھ-1991م، ص: 27.
[7]- منازل السائرين، عبد الله الأنصاري الهروي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط: 1408ھ-1988م، ص: 6.
[8]- عبد القادر الجيلاني باز الله الأشهب، ص: 39.
[9]- المصدر السابق، ص: 41-42.
[10]- ذكره برهان الدين القادري في: الروض الزاهر، ص: 18.
[11]- إتحاف الأكابر، ص: 139.
[12]- المصدر السابق، ص: 139-140.
[13]- الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، تحقيق: جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010م، 15/296.
[14]- إتحاف الأكابر، ص: 140.
[15]- المصدر السابق، ص: 142.
[16]- طبقات الأولياء، ابن الملقن، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2006م، ص: 95.
[17]- إتحاف الأكابر، ص:146.
[18]- المصدر السابق، ص: 147.
[19]- نفسه، ص: 149.
[20]- الطبقات الكبرى، الشعراني، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط2، 2006م، ص: 138.
[21]- إتحاف الأكابر، ص: 177.
[22]- عبد القادر الجيلاني باز الله الأشهب، ص: 89.
[23]- سير أعلام النبلاء، 20/451.
[24]- الوافي بالوفيات، 15/297.

الكرامة عند الصوفية

الكرامة عند الصوفية




ذ. طارق العلمي
من المظاهر التي يتميز بها التصوف الجنيدي هو عدم الالتفات إلى الكرامات، واعتبارها من أسباب الاستدراج التي قد تعود على السالك  بالتوقف في سيره إذا ما تعلق  بها واستكان إليها.
   فكان رجال التربية لا يُظهِرون الكرامات إلا حينما تدعو الحاجة إلى ذلك، أي أن يكون في إظهارها فائدة تربوية، من شأنها أن ترفع مواطن الشك التي قد تعتري المُتشكِّك في أمر التصوف، أو في أحد مبادئه الأساسية، وإلا فإن الظهور بوجه عادي يبقى هو ديدن أهل الولاية في غالب أحوالهم.
ومما يُظهِر هذا المعنى التربوي للكرامات، ما رواه الإمام الجنيد عن أبي حفص النيسابوري حينما عارضه هذا الأخير أحد تلامذته، بكونه لا تظهر على يديه أية كرامة، بخلاف من كان قبله الذين أُيِّدوا بهذه الخوارق، فكان من أمر الشيخ أبي حفص النيسابوري "أن عمد إلى كور عظيم محميٍّ، فيه حديدة عظيمة، فأدخل يده في الكورفأخذ الحديدة المحمّاة، فبردت في يده، فقال له: يجزيك هذا. فسئل بعضهم عن معنى إظهار ذلك من نفسه، فقال الجنيد: كان مُشرفاً على حاله، فخشي على حاله أن يتغير عليه إن لم يُظهر ذلك له، فخصّه بذلك شفقة عليه، وصيانة لحاله، وزيادة لإيمانه".[1]
فيظهر أن لجوء الشيخ إلى إظهار الكرامة لم يكن عن رغبة ذاتية، ولانزعة نفسية، وإنما دعا إلى ذلك أمر توجيهي، يتمثل في زرع الثقة التي ينبغي أن تسود بين المريد وشيخه، وهي الأساس في سلوك طريق القوم.
ولقد استثمر صوفية المغرب هذا المبدأ، حيث أدخلوا الكرامات في باب الرخص، فلا ينبغي إظهار شيء منها، إلا حينما يُضطر إلى ذلك، حيث يقول الإمام الشاطبي بعد ما ذكر مذهب القوم من عدم التفاتهم إلى لكرامات بقوله: " وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في حكم العزيمة".[2] 
   ويضيف قائلا: " بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما يُحكى عن أبي يزيد البسطامي. ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنّة، وواردة من جهة مجرد الإنعام. فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات. فكيف يتشوف إلى خارقة ؟ ومن بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته مثلُها. مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مرّ في الشواهد. وعدُّوا من ركن إليها مستدرجاً، من حيث كانت ابتلاءً لا من جهة كونها آية أونعمة".[3]
وذلك أن الراسخين في مقامات القرب، قد تجردوا عن حظوظهم، فليس لهم قصد إلا طلب وجه الله تعالى، لذلك كان "للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي مبرإ من طلبه لحظ نفسه ... وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال، حسبما دلّ عليه الاستقراء".[4]
 ومن ثمة فإن التوجه العام الذي اتخذه صوفية المغرب، أنهم عملوا على الظهور بمظهر لا يخرج عما يألفه الجمهور، وذلك نابع من خصوصية المسلك الجنيدي، الذي يعتبر مجال الكرامة من المسائل التي لا ينبني عليها ادعاء الرسوخ في المعرفة الربانية، بل يمكن أن يظهر الله تعالى الكرامة على من لم يستقم حاله، فيكون ذلك امتحانا له ولغيره، لذلك اعتبر الراسخون من الصوفية، بأن أعظم كرامة أن يكون العبد على استقامة.
  فالتصوف المغربي يعطي لجانب السلوك أهمية كبرى باعتباره قوام الرقي في مدارج الكمال المحمدي، ولا يمكن ادعاء الوصول إلى مقامات القرب إلا بانغماس المريد بالعمل على جهة التعبد، رغم ما يحصل لديه من معان ذوقية وفتوحات وهبية، التي ينبغي يتعامل معها السالك بحكمة وفق الآداب التي حددها أهل الرسوخ المعرفي.
وبالنظر إلى المصادر التي أرّخت للمئات من رجالاتِ التصوف بالمغرب منذ بدايةِ القرن الخامس الهجري وما بعده، نجدها تنحو وتؤكد هذا المسلك الجنيدي الذي اتخذه أهل الولاية بالمغرب،منها: 
- كتاب: "المستفاد في مناقب العباد بفاس وما يليها من البلاد"، للتميمي (ألّفه قبل عام 572 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء فاس.
- كتاب: "التشوف إلى رجال التصوف"، لابن الزيات (ألّفه عام 617 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء الجنوب خصوصا مراكش وأغمات وما جاورهما.
- كتاب: "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"، للبادسي، وقد أرَّخ فيه لرجالات التصوف بالريف من الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السادس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري.
- كتاب: "دوحة الناشر بمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر"، لابن عسكر الشفشاوني.
-  كتاب: "نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني"، لمحمد بن الطيب القادري.
- وكتب الأسانيدِ، مثل: "تحفة أهل الصديقية بأسانيد الطريقة الجزولية الشاذلية"، و"الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب"، لعبد الحفيظ الفاسي، و"ممتع الأسماع في الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع"، و "المعزى في مناقب أبي يعزى"، لأحمد التادليالصومعي، و"أخبار أبي العباس السبتي"، لابن الزيات التادلي، و"المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح"، لأبي العباس الماجري، و "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن"، لمحمد العربي الفاسي...
فالناظر في هذه المؤلفات وفي كثرتها يُدرك من جهة،المغرب كان وما يزال بلد التصوف والأولياء بامتياز، كما يدرك من خلالها ما ميّز ويُميِّز هؤلاء الأعلام ذوي المنحى الأخلاقي والذوق الإسلامي الصادق بعيدا عن الشطحات الإشراقية والحقائق المبهمة؛ فمن ذلك: ما صرّح به ابن الزيات في أوائل القرن السابع الهجري (617 هـ) في مقدمة كتابه، أنه جرّده من "الحقائق"، وأنه خبر رجالات الصلاح والولاية في عصره، ومن قبلهم، وأكد تمسكهم "بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح..".[5]
   وعليه فإن الكرامة عند الصوفية لا تعبر بالضرورة على منزلة في العرفان الصوفي، بقدر ما يمكن أن تكون تحفيزا للمريد على السير، كما يمكن أن تكون استدراجا له، وفتنة عليه إن هو سكن إليها، ولذلك كان الصوفية يحذرون السالكين من هذه الخوارق حتى لا يخرج على المنهج المطلوب، والمقصد المنشود، فكان أعظم كرامة يمكن أن يتشوف إليها المريد هو طلب الاستقامة.
هوامش

[1]  سعاد الحكيم : تاج العارفين، ص: 196. 
[2] الشاطبي : الموافقات،1/268.
[3] الشاطبي: الموافقات 1/267.
[4] نفس المصدر: 1/264.
[5] ابن الزيات: التشوف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص: 14.

الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...