الاثنين، 3 يناير 2022

الحركة فـي الذكر (التمايل)

 


الحركة فـي الذكر (التمايل)

أحمد عبد المالك
الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال للعلماء تضاد في فتواهم للآن ولكن الحركة في الذكر لها أدلة وشواهد كثيرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء الأجلاء.
كذا رأي أصحاب المذاهب في ذلك وبعد عرض هذه الأدلة في هذا الباب يظهر لك واضحاً جلياً أيها القارئ الكريم أنه لا كراهة البتة في التمايل في ذكر الله تعالى بل وقد يظهر أيضاً أن التمايل أثناء ذكر الله تعالى أمر مستحب كما أنه أمر لا إرادي.
الجبل يهتز فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم: وورد في صحيح البخاري أن النبي صعد أحدا يوماً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فاهتز الجبل فرحاً وتحرك طرباً وزهواً بمن عليه فضرب رسول الله برجله وقال: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن أحد جبل يحبنا ونحبه ) البخاري ومسلم فالجبل وهو حجر أصم فرح فاهتز بوقوف رسول الله وصحابته الكرام رضوان الله عليهم فكيف الحال مع المؤمن الصادق الذي أحب ذكر ربه ووله به واستولى الحب الإلهي على قلبه ألا يهتز فرحاً بذكر الله تعالى!! فالروح تهتز طرباً بسماعها القرآن، وهناك حركة لا إرادية يصاب بها قارئ القرآن وإلا لما اهتزازه وهو يقرأ كتاب الله أو ما الداعي لهذا الاهتزاز. ذلك أن الروح الطاهرة التي خلقها الله ووضعها في الإنسان تفرح بكلام الله وبأسماء الله فتهتز وما لمنا يوماً على قارئ القرآن لاهتزازه.. وقراءة القرآن ذكر فما بالنا نلوم على الذاكر في اهتزازه اللاإرادي. قال تعالىثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (1).
قال الإمام القرطبي في تفسير الآية: قوله تعالى: وإن منها لما يهبط من خشية الله يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر. من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله: وإن منها لما يهبط من خشية الله: البرد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: يريد أن ينقض، وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: وإن منها راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله. قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: (إن حجرا كان يسلم عليَّ في الجـاهلية إني لأعرفه الآن).
وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله). فناداه حراء: إليَّ يا رسول الله. وفي التنزيل: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال (2). وقال: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله (3) يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة سبحان إن شاء الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1-
البقرة : 74 .
2-
الأحزاب : 72 .
3-
الحشر: 21 .
المصدر: موقع رايات العز
http://www.rayat-alizz.com/issue28/page2.htm#1


الأوراد وخصائص الأذكار

 



الأوراد وخصائص الأذكار

بسم الله الرحمن الرحيم.

 

(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي). اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.

لَبِيسَ عبد شغلته النعم يرجوها ويدعو بها عن المنعم، وألهته محبوبات النفس عن محبوب القلب، وبدَّد شمله هم المكان والزمان عن استجماع همته في ذكر مولاه. تعتري المومن فترات غفلة لأن الإنسان جبل على النسيان، فيفتر عن ذكر ربه  وينشغل. لكنه يرجع إلى الذكر ويُراجِع. ولمثل هذا قال الله على صورة خطاب موجه لسيد الذاكرين  واذكر ربك إذا نسيت .(سورة الكهف، الآية: 24) نسيان المومن موقوتٌ طارئٌ، ونسيان الجاحدين والكافرين والمنافقين والغافلين حالٌّ مقيم!  نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (سورة الحشر، الآية: 19).

كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه كما روى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها. وبذلك أُمِرَ في قوله يخاطبه: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه (سورة الكهف، الآية: 28).

وقوله: واذكر ربك في نفسك تـضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (سورة الأعراف، الآية: 205).

وجاء القرآن بتحريض الرجال, حقِّ الرجال على الذكر في أطراف الليل والنهار في قوله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (سورة النور، الآيتان: 36-37).

كلمة "سَبَّحَ" ذاتُ دلالة عامة تشمل كل العبادات من قول وفعل ونية كما قال الراغب الإصفهاني رحمه الله . واستغراق الوقت كله بالذكر والتسبيح درجة عليا نَدَبَ الله  إليها رسله وسائر عباده المومنين. استغراق الوقت كله في الذكر والتسبيح علامة على إقبال العبد على ربه إقبالا كليا. قال الله لحبيبه  في سورة طه: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (الآية: 130). استدل الفقهاء بهذه الآية على توقيت الصلوات الخمس. وهو كذلك. والصلاة من أعظم الذكر. والذكر اللساني والقلبي فيها بتلاوة القرآن والخشوع والمناجاة من أعظم ما يرجوه العبد من عمله. والذكر بعدها وما بين الصلوات وَصْلَةٌ مطلوبة. قال الله : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض (سورة آل عمران، الآيتان: 190-191).

وهكذا يلحق أولو الألباب بالدرجات العُلى إن هم ذكروا الله  على كل أحوالهم كما كان يفعل المصطفى .

درجة فوق مجرد ملء الأوقات بالذكر هي درجة الاستهتار التي اختص الله  بها المفردين الذين يذكرون الله  حتى يقال مجنون.

وقد سن رسول الله لأمته معراجا يتدرج فيه الذاكر ليصل إلى ما شاء الله  من تلك الدرجات. قال : "أحب الأعمال إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه". رواه البخاري ومالك عن عائشة رضي الله عنها. وروى مسلم عنها عن رسول الله : "أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل". وفي رواية لأبي داود عنهاعن النبي : "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يملُّ حتى تملّوا. وإن أحب العمل إلى الله أدومُه ولو قل. وكان إذا عمل عملا أثبته". أثبته بمعنى داوم عليه في وقته من نهار أو ليل.

المداومة في أوقات معينة على أذكار معينة هي ما يسمى في اصطلاح القوم بالأوراد. والأوراد أوتادٌ راسية عليها يبني المومن خيمة الذكر في أرجاء وقته وعامة نشاطه وسُوَيْدَاءِ قلبه.

الأوراد هي الطريق إلى الله  لا يستغني عنها مبتدئٌ ولا يزهد فيها واصل. قيل للجنيد : نراك تحافظ على أورادك وأنت شيخ! فقال طريق وصلنا بها إلى الله  لا نتركها. قال الإمام الغزالي  "اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أن لا نجاة إلا في لقاء الله ، وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محبا لله  وعارفا بالله ، وأن المحبة والأُنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه، وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وفي أفعاله(...) وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار".[1]

الأوراد والمداومة عليها سنة. وهي بمثابة نَذْر يقطعه العبد الصادق على نفسه يجب عليه الوفاء به. لذلك حذر العلماء من الدخول في الأوراد بخِفَّة مخافة أن لا يفي العبد بما عاهد الله  عليه منها. قال العالم الفقيه أحد عباقرة الفقه الإمام الشاطبي: "إن في توقيت الشارع وظائف العبادات من مفروضات ومسنونات ومستحبات في أوقات معلومة لأسباب ظاهرة ولغير أسباب ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال. وقد قيل في قوله في الذين ترهبوا: فما رعوها حق رعايتها : إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار. فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات، وأمروا بالمحافظة عليه بإطلاق. لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم. فالمكلَّف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب فمن حقه ألاّ ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء، حتى ينظر في مآله فيه، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أو لا".[2]

للذكر مَراقٍ، يترقى المريد من ذكر اللسان إلى ذكر القلب واللسان، ومن الوفاء بأوراد محدودة إلى الاستغراق ثم الاستهتار إن وفقه الله . قال ابن عطاء الله  في حكمه: "لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله  فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعَسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يَقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز".

للذكر آثار عامة وفوائد خاصة. احذر كل الحذر من الذين يتخذون آيات الله  هُزُؤاً ويرتبون لأنفسهم وللناس أذكارا. تقول كذا وكذا مرة في وقت كذا ليحصل لك كذا وكذا من أغراض الدنيا. هذا والسحر من بابة واحدة. ومن كان على بصيرة من ربه علم من أي باب يُرزق. ما سوى هذا من الأذكار الخاصة السنية أو الأثرية من عمل السلف الصالح لا اعتراض عليه. وفي أدعية رسول الله التي علمها أصحابه  والأمة الشفاء والغناء. لكل نازلة وحاجة وحالة توسل ودعاء وذكر. من الناس من يعتمد على تجارب الصالحين في التماس خصائص الأذكار. لابأس إن كان الذكر واردا في كتاب أو سنة قال ابن القيم رحمه الله: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: من واظب على "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الصبح أربعين مرة أحيى الله قلبه".[3] فهذا مريد اتخذ شيخه مرجعا نهائيا في المسألة. سند هذا الذكر بهذا العدد رؤيا رأى فيها الشيخ الكتاني النبي يأمره بذلك كما ذكر القشيري في رسالته.

الخاصية العامة للذكر والدعاء في قوله : فاذكروني أذكركم ((سورة البقرة، الآية: 152) وقوله:عز::: ادعوني أستجب لكم ((سورة غافر، الآية: 60) وقوله : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (سورة الزخرف، الآية: 36).

قال الشيخ عبد القادر : "اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. اذكروني بالمجد والثناء أذكركم بالعطاء والجزاء. اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوْبة. اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة. اذكروني بالندم أذكركم بالكرم. اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة. اذكروني بالإيمان أذكركم بالجِنان. اذكروني بالقلب أذكركم بكشف الحجْب. اذكروني بصفاء السر أذكركم بخالص البِر. اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو. اذكروني بالجُهد فِيَّ أذكركم بتمام النعمة".[4]

من أعظم الأذكار فضلا، وأجلها قدرا، وأوفاها بمقصود المريدين المحبين المتقربين الصلاة على رسول الله . هي شيخ من لا شيخ له. هي وسيلتنا إلى ربنا إذ هي ميثاق وفاء ومحبة، تلتقي صلاتنا عليه  بصلاة الله عليه  وصلاة ملائكته. فأي فضل أعظم من أن يكون موضوع صلاتنا مطابقا موافقا؟ روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي طلحة أن رسول الله "جاء ذات يوم والبشر في وجهه. فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك! قال : "إنه أتاني الملك فقال: يا محمد! إن ربك يقول: أما يرضيك أنه لا يصلّي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا. ولا سلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا؟". وروى الترمذي بإسناد حسن وأحمد وغيرهما عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الشريف أن رسول الله قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي". وأخرج الإمام أحمد وحسنه المنذري عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: "إن من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة". وقال في رواية أحمد والنسائي بإسناد حسن عن زيد بن خارجة: "صلوا علي، فاجتهدوا في الدعاء وقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد".

اللهم شكرا على نعمتك العظمى وتعرُّضاً لوعدك الكريم نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، عدد خلقك ورضى نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

دوام الذكر، وتغلغل الذكر في القلب عن طريق الأوراد اللسانية التفكرية طريق الولاية مع الصحبة. قال الشيخ عبد القادر : "الذاكر لله  لا يفتر عن الذكر حتى ينتقل من حياة إلى حياة. فلا موت له سوى لحظة. إذا تمكن الذكر في القلب دام ذكر العبد لله وإن لم يذكره بلسانه. كلما دام العبد في ذكر الله دامت موافقته له ورضاه بأفعاله.(...). ما أعجب أمورَ القوم؟ وما أحسن أحوالهم! كل ما يأتيهم من الحق عندهم طيب. قد سقاهم بَنْجَ معرفته، ونومهم في حجر لطفه، وآنسهم بأُنْسه. فلا جَرَمَ يَطيب لهم المُقام معه. والغيبة عن كل شيء سواه. لا يزالون موتى بين يديه وقد ملكتهم الهيبة، فإن شاء أنشرهم وأقامهم وأحياهم ونبَّههم"[5] وتلك هي الولاية الكبرى: البقاء بعد الفناء.

وقال يُعلم الغلام المريد الجديد في خدمة مولاه: "يا غلام! اذكر الحق أولا بقلبك ثم بقالبك ثانيا. اذكره بقلبك ألف مرة وبلسانك مرة. اذكره عند مجيء الآفات بالصبر وعند مجيء الدنيا بالترك، وعند مجيء الأخرى بالقبول، وعند مجيء الحق بالتوحيد، وعند مجيء غيره بالجملة بالإعراض عنه. إذا أرخيت عنان نفسك طمعت فيك ورمت بك. ألْجِمها بلِجام الورع ودع عنك القال والقيل".[6]

ذكر الله  باللسان والقلب والاستغراق والاستهتار والمحافظة على الأوراد آناء الليل وأطراف النهار بناء على غير أساس إن لم يَصن ذلك الذكر الكثير ذكرُ الله عند الأمر والنهي، ذكرُهُ عند حق كل ذي حق، ذكره في الدرهم والدينار، ذكره في الأمة التي تنتظر مجاهدين لإقامة دين الله  في الأرض.

قال الإمام الشافعي يناجي ربه ويذكره:

 

قلبـي برحمتـك اللهم ذو أُنُـسٍ*** في السر والجهر والإصباح والغلس

وما تقلبت من نومي وفي سِنَتـي***إلا وذكرك بيـن النَّفْـسِ والنَّفَـسِ

لقد مننت علـى قلبـي بمعرفـة*** بـأنـك الله ذو الآلاء والـقُـدُس

وقد أتيـت ذنوبـاأنـت تعلمها***ولم تكن فاضحي فيها بفعلِ مُسـي

فامنن علي بذكـرالصالحين ولا ***تجعل عليَّ إذاً في الدين من لَبَـسِ

وكن معي طول دنياي وآخرتــي ***ويوم حشري بما أنزلت في عَبـس

 

لعله رحمه الله يشير إلى قوله في سورة عبس: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة (الآيتان: 38-39) اللهم اجعلنا منهم بمنك وبجاه نبيِّك .

قالت روح تحوم حول الحرم النبوي الشريف مُحبَّة وَالِهَةً:

 

يا سعد إن جئت لذاك المقـام***أنْشِدْ فؤاداً في حماهـم قـام

وإن رأت عيناك ذاك اللِّـــوَى***عرِّض بذكر الواله المُسْتهـام

يا عين إن لاحت لنـا يثـــربٌ***فالسير من تلك علينا حـرام

لما بدا وادي العقيق انثنَـتْ*** ترفل فـي مشيتهـا كالنَّعـام

يا صاحبي أَجْرِ معـي أَدْمُعـــا*** ًشوقا إلى محفل بدْر التمـام

وقل إذا ما سِرْتَ في رَوْ ضِـــه*** يا ساكن الحيِّ عليـك السـلام

 

وقال مشتاق إلى ذلك الحمى:

 

نعم، لولاك ما ذكر العقيـق***ولا جابت له الفَلـواتِ نـوقُ

نعم، أسعى إليك على جفوني***تدانَى الحي أو بَعُدَ الطريـقُ

إذا كانت تحن لـك المطايا***فماذا يفعل الصــبُّ المشـوقُ

 

وقلت:

 

يا رَبِّ شَقَّ النُّزلُ شَقَّ المُقامْ***قد اغتربنا بيـن قـوم لئـامْ

همُ أذَلُّـوا أمَّـة المُصطفــى***ورَكــبوا وأمسكـوا بالزِّمـامْ

يا رَبِّ نصرَك على جمعهِــــم***ومَنْ تَكُــن لــهُ فَليـس يُضـامْ

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

[1] الإحياء ج1 ص 299.

[2] الموافقات ج2 ص 177-178.

[3] مدارج السالكين ج3 ص 264.

[4] الغنية ج2 ص43.

[5] الفتح الرباني ص 77.

[6] المصدر السابق ص 207.

 

المصدر: منتديات شمس المعاني


حياة ابن عربيّ و فلسفته

 



حياة ابن عربيّ و فلسفته

د.عبد الرحمن دركزللي(*)

ولد الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (مرسية) بالأندلس سنة 560هـ، وما إن بلغ الثامنة من عمره حتى قصد "إشبيلية" لدراسة الفقه والحديث الشريف وعلوم القرآن، فأقام بها قرابة ثلاثين سنة ينهل فيها من مناهل الثقافة والعلم، ثم إنه عقد العزم على مغادرة الأندلس والنزوح عنها إلى المشرق، وكان حينئذ في الثامنة والثلاثين، فضرب في الآفاق، وطوّف في عدد من الأقطار والأصقاع (زار مصر ومكّة المكرّمة وبغداد وحلب والمَوْصل وآسية الصغرى) وكانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحلّ فيه، كما كان ذوو اليسار يجرون عليه راتباً كبيراً، ولكنه كان ينفق معظمه في وجوه البرِّ والخير (يُروى أنّ أحد الأمراء وهبه بيتاً، فما كان منه إلاّ أن أعطاه لأحد السائلين)، وخلال زيارته لمصر لقي ابن عربي عنتاً شديداً، إذ اتهمه أهلها بالزندقة وحاولوا اغتياله، وفي مكّة المكرّمة أحبّ ابن عربي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني نزيل مكّة فأعجب بجمالها ومبلغ ذكائها وسَعة اطلاعها، لذلك نظم فيها مجموعة من القصائد الغزليّة دعاها "ترجمان الأشواق".

وبعد أَمَدٍ من الترحال قرّر الإقامة بدمشق، فألقى فيها عصا التسيار، ولبث فيها بقيّة عمره حتى وافته المنيّة سنة 638هـ فدُفن بسفح جبل قاسيون.

عاش ابن عربي حياة حافلة بالتنقّل والأسفار، عامرة بمجالس العلم، غنيّة بالتجارب، وكان غزير النتاج جم التآليف، كتب –كما قال في إحدى رسائله –مئتين وتسعة وثمانين كتاباً ورسالة، وقد وصفه بروكلمان بأنه "من أخصب المؤلّفين عقلاً وأوسعهم خيالاً"، وذكر أنّ له نحواً من مئة وخمسين مؤلّفاً ماتزال باقية بين مخطوط ومطبوع، على أنه لم يشغل نفسه بالتأليف وحده، بل شغل شطراً منها بما يشغل الصوفية أنفسهم به عادةً من ضروب العبادة وصنوف المجاهدة وألوان المراقبة والمحاسبة.

وأشهر مؤلّفاته اثنان: "الفتوحات المكّ‍ية" و "فصوص الحِكم"، أما الفتوحات فموسوعة شاملة في عقائد الصوفية، جمع فيه شتات علومهم ومصطلحاتهم في خمسمئة وستين باباً، وقد قدّم لنا، في الباب التاسع والخمسين بعد الخمسمئة من الكتاب، خلاصةً وافية عنه، ولمّا طلب ابن عربي من معاصره ابن الفارض أن يكتب شرحاً على تائيّته. أجابه ابن الفارض بأنه: لايعرف لها شرحاً أفضل من كتاب الفتوحات نفسه، أمّا تسميته بالفتوحات المكية فلانّه ممّا فتح الله به عليه في أثناء زيارته لمكّة المكرّمة.

"كنت نويت الحجّ والعُمرة، فلما وصلتُ أمّ القرى أقام الله سبحانه وتعالى في خاطري أن أعرّف الوليّ بفنون من المعارف.. وكان الأغلب منها مافتح الله –سبحانه وتعالى- عليَّ به عند طوافي في بيته المُكرّم"

ووصف لنا كيف أّلف الفتوحات، فقال:

"جميعُ ماكتبته وأكتبه في هذا الكتاب إنّما هو من إملاء إلهيّ وإلقاءٍ ربّاني، أو نفْث روحانيّ في روح كياني"

أما كتابه الآخر "فصوص الحِكم" فيمثّل مذهبه في وحدة الوجود، وهو مذهب ظلّ يضطرب في نفسه نحواً من أربعين عاماً وهو لايجرؤ على الجهر به في جُملته ولايقوى على إخراجه في صورة كاملة، ويُعد كتاب الفتوحات تمهيداً للفصوص وتوطئة له يقول نيكلسون عن "فصوص الحكم":

"ولا تقل الفصوص عنها (أي عن الفتوحات المكيّة) من حيث عِظمُ الأهمّية، وهي مؤلّف صغير من سبعة وعشرين فصّاً أُطلِق على كل واحدٍ منها اسمُ نبيّ، وقد غدت موضع شروح عدّة في العربية والتركيّة والفارسية".

وممّا هو جدير بالقول والتنويه أن ابن عربيّ لم يكن يكتب بدافع التأليف والتصنيف وإنّما كان يكتب وهو رازح تحت وطأة قوّة خارقة كانت تلحّ عليه وتحمله على ذلك حملاً وقد وصف لنا هذا بقوله:

"إنه كان يرِد عليَّ من الحقّ مواردُ تكاد تحرقني فكنتُ أتشاغل عنها بتقييد ما يمكن منها، فَخَرجَتْ مخْرَجَ التأليف لا من حيث القصدُ".

كان ابن عربي في الحق، ذا شخصية متعدّدة الجوانب والمواهب، فهو متصوّف وفيلسوف وشاعر، وكان ذا مسلكين في الحياة، فهو رصين تقيّ أمام الناس مرح متساهل أمام أنداده وأصحابه. وكان –كما قال المقّري- "ظاهريّ المذهب في العبادات، باطنيّ النظر في الاعتقادات". ومع أنه كان ظاهرياً فقد نفى أن يكون تابعاً لابن حزم أو سواه:

نسبوني إلى ابن حزم وإنّي ... لست ممّن يقول "قال ابنُ حزمِ"

لا، ولا غـيرُه، فإنّ مقالي: ..."قال نصُّ الكتاب".. ذلك علمي

أو"يقولُ الرسول"أو"أَجَمَع ...الخَلْقُ على ما أقولُ" ذلك حُكمي

وهو مع تمسّكه بفرائض الإسلام وعقائده –يتّخذ الكشف الصوفي أو "النور الباطني" رائداً له ومصدراً أوحد في المعرفة.

وقد اختلف الناس في عقيدته، وفي الحكم عليه، أشدّ الاختلاف، فبعضُهم رفعه إلى عِلّيين، وبعضهم وضعه مع الزنادقة والملحدين، يقول ابن العماد:

"وقد تفرّق الناسُ في شأنه شيعاً، وسلكوا في أمره طرائق قدداً، فذهبت طائفة إلى أنّه زنديق لا صِدّيق، وقال قوم: إنه واسطة عِقد الأولياء ورئيس الأصفياء، وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كُتُبه".

وكان الفيروز آبادي صاحب "القاموس" من أشدّ المُعجبين به، حتى إنّه طرّز شَرْحَهُ على البُخاريّ بكثير من أقواله، كما كان جلال الدين السيوطي يُجلّه ويوقّره حتى إنه صنّف في الدفاع عنه كتاباً، سمّاه: "تنبيه الغبيّ في تبرئة ابن عربيّ". ولعل عبد الوهّاب الشعراني هو أشدّ المنتصرين له وأكثر المنصفين، إذ ألّف كتاباً عنوانه: "اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر"، كما ألّف كتاباً آخر دعاه: "تنبيه الأغبياء على قطرةٍ من بحر علوم الأولياء". وفيهما دفاع شديد عن ابن عربي وغيره من المتصوّفة وبلغ به الأمر أن لخّص كتاب الفتوحات المكّية في كتابه الموسوم بـ "الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر". ومن الأمور الواضحة أن الناس في كل مكان تعلّقوا بابن عربي، وتهافتوا على مؤلّفاته، يشهد على ذلك كثرة الألقاب التي خلعوها عليه، فهو "الشيخ الأكبر" و"الكبريت الأحمر" و "ابن أفلاطون" و "البحر الزاخر" و"سُلطان العارفين".. وعندما ترجم له صفي الدين بن أبي المنصور قال عنه:

"هو الشيخ الإمام المحقّق، رأس أجلاّء العارفين والمقرّبين صاحب الإشارات الملكوتية، والنفحات القدسيّة، والأنفاس الروحانية، والفتحِ المونق، والكشفِ المُشْرق، والبصائر الخارقة، والسرائر الصادقة، والمعارف الباهرة، والحقائق الزاهرة له المحلّ الأرفع من مراتب القُرب في منازل الأنس، والمورد العذب في مناهل الوصل، والطَّوْل الأعلى في معارج الدنوّ والقدم الراسخ في التمكين من أحوال النهاية والباع الطويل في أحكام الولاية".

وفلسفة ابن عربي تقوم أساساً على مبدأ "وحدة الوجود" Pantheism، ومُفادها أن العالم بجميع مظاهره هو الله، وأن ليس في الوجود سواه، وبناء على هذا فالحقيقة عند ابن عربي واحدة، مظهرها العالَم، وجوهرها الله، لذلك رأيناه في الفتوحات يقول: "سبحان من خلق الأشياء وهو عينها" وسمعناه في الفصوص يقول:

يا خالق الأشياء في نفسه... أنت لما تخلقه جامع

تخلق مالا ينتهي كونُه ...فيك؛ فأنت الضيّق الواسع

وقد بث مذهبه هذا في تضاعيف كتبه ونثرها في مواضع مختلفة من تصانيفه، وكان تشتيتها عن قصد، فهو يخشى إذا عرضها عرضاً كاملاً واضحاً أن يثير عليه حفيظة الجاهلين وغضب العامة. قال:

"جئت بها مبدّدة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبيّنة لكنها –كما ذكرنا- متفرّقة، فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها، ويميزها عن غيرها، فإنها العِلم الحق والقول الصدق".

ويترتب على قوله بوحدة الوجود أن الله هو الأصل وأن العالَم صدر عنه وفاض منه. ذلك أنه أراد بإيجاد العالم أن يرى نفسه ويُظهر جماله، فخلقه ليكون بمنزلة المرآة تتجلّى فيه رحمته وقدرته وعدالته كما جاء في الحديث القدسيّ "كنت كنزاً مخفيّاً، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، فبه عرفوني". وقد يفهم بعضهم من هذا أن ابن عربي يقول بالاثنينية، وليس الأمر كذلك، لأن الحقيقة عنده واحدة، هي الله، وليس المراد بالخَلْق عنده أن الله أوجد العالم من عدم، وإنما هو الفيض الإلهيّ، فالله بمنزلة "الواحد" من سائر الأعداد، يتكرّر فيها على صور متعدّدة وأشكال متكثّرة، وقد صرّح بهذا قائلاً:

"وقد ثبت عند المحقّقين أنه مافي الوجود إلا الله ونحن، وإن كنّا موجودين فإنما وجودُنا به، ومن كان وجوده بغيره فهو بحكم العَدَم".

والخلاصة أن الحقيقة الوجودية واحدة، لا ثنائية فيها ولا تعدّد، إذا نظرت إليها من وجهٍ قلتَ: هي الحق، وإذا نظرتَ إليها من وجهٍ آخر قلتَ: هي الخَلْق.

وأما مايلوح لك في الوجود من تناقض وتعدّد وتعارض واختلاف فإنما هو وهم خادع، وضلال ناشئ عن بلادة الحِسّ وقصور العقل وارتباط الإنسان بالمصالح والغرائز والظروف، ولو أنه تحرّر من هذه القيود وتَفَلَّتَ من هذه الأشراك لأدرك وَحْدانيةَ الوجود ولوقف على الأسرار ولا يكون ذلك بالنظر العقلي وإنما بالكشف الصوفي. وليست وحدة الوجود عند ابن عربيّ وحدة مادّية يضحّي فيها بفكرة الألوهيّة. بل العكس هو الصحيح أي أن الوجود الحقيقي هو وجود الله وحده، أمّا الخلق فهو شبح زائل وظل عابر.

وطريق المعرفة إنما هي القلب لا العقل، أي الحدْس لا المنطق، ذلك أن المعرفة نور يقذفه الله في قلب ابن آدم، لذلك ماوقف على أسرار النفس "إلا الإلهيون من الرسل والصوفية، وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلّمين في كلامهم على النفس وماهيّتها فما منهم من عثر على حقيقتها ولا يُعطيها النظر الفكري أبداً، ومن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا وَرَم، ونفخ في غيرِ ضَرم".

ويحتلّ الحب في فلسفة ابن عربي مكانةً مرموقة، فهو سرّ الخلق، ومغزى الوجود، ولولا حب الله لذاته، ورغبته في إبداء صفاته وتجلية كمالاته، ما أشرق في عالم العِيان شيء، ولا برز إلى صفحة الوجود مخلوق، فالعالم إذاً صادر عن حركةٍ حُبّيّة "ولولا هذه المحبّة ماظهر العالَمُ في عينه، فحركتُه من العدم إلى الوجود حركة حُبّ المُوجِد".

ولما كان الحب سبب الوجود كان الوجود كله مشمولاً بالرحمة والغفران فلا مذنب ولا آثم إلا فائز بالعفو، والدليل على ذلك أن الثناء جاء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد. يقول ابن عربي:

"الثناء جاء بصِدْق الوَعْد، لا بصدق الوعيد، والحضرةُ الإلهية تطلب الثناءَ المحمود بالذات، فيُثنى عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز: "فلا تحسبن اللهَ مُخْلِفَ وعدِه رًسُلَه" ولم يقل: "وعيدِه"

بل قال: "ويتجاوز عن سيئاتهم".

وقد نظم ابن عربي هذا المعنى اللطيف، فقال:

فلم يبق إلا صادقُ الوعدِ وحْدَه ...وما لوعيدِ الحقّ عينٌ تُعاين

وإنْ دخلُوا دارَ الشقاء فإنّهم ... على لـذّةٍ فيها نعيمٌ مبايـن

نعيم جِنان الخُلد فالأمرُ واحد... وبينهما عندالتجلّـي تباين

يُسمّى عذاباً من عذوبة طعمه ...وذاك له كالقِشر والقشر صائن

لقد سيطرت فكرة "الواحد" على فكر ابن عربي، ففسّر بها كل ما في الوجود من صور واعتقادات ومتغيّرات، فليس ثَمَّ إلا الحقّ، يتجلى في صور متعدّدة وعقائدَ مُتباينة ودياناتٍ مختلفة، أما العارفُ فيدرك أن وراءها جميعاً إلهاً واحداً:

عقدالخلائقُ في الإله عقائداً... وأنا اعتقدتُ جميع ماعقدوه

لمّا بدا صُوراً لهم متحـوّلاً... قالوا بما شهدوا وماجحدوه

ورأى أن الديانات على اختلافها واحدة في جوهرها، لأنها تدعو إلى الواحد الأحد:

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة... فمرعىً لغِزلان وديرٌ لرهبان

وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـفٍ ... والواحُُ توراةٍ ومُصحف قرآن

أدينُ بدين الحب، أنّى توجهتْ... ركائبُه فالحُبّ دِيني وإيماني

والحب سببه الجمال، والجمال هو الله، والله جميل يحب الجمال، فهو يحبّ نفسَه ومن أحبّ الجمال لم يحبب سوى الله، وإنما أخرج اللهُ العالمَ كلَّه ليكون مرآته يرى نفسَه فيها، وعلى المحب أن يُصمّ سمْعه إلاّ عن كلام محبوبه، ويُعميَ عينَه عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويُخرِس لسانه عن كل كلام إلا عن ذِكر محبوبه ويرمي على خزانة خياله فلا يتخيّل سوى صورةِ محبوبه، فبه يسمع وله يسمع، وبه يُبصر وله يُبصر، وبه يتكلّم وله يتكلّم.

يحب اللهُ الناسَ لهم ولنفسه، وللحب الإلهي –عند ابن عربيّ- وجهان حبُّ الخلق للحق، وحب الحقّ للخلق، والحق يبادل الخلق حباً بحبٍ واشتياقاً باشتياق، بل إن شوقه إلى المُشتاقين أقوى من شوقهم إليه، ومما جاء في "فصوص الحكم" قولُه تعالى: "ماترددتُ في شيء أنا فاعلُه تردُّدي في قَبْض عبدي المؤمن، يكره الموتَ، وأكره مساءته، ولابدّ له من لقائي".

وفي الختام لابد لي من الإشارة إلى أنّ عظمة فلسفة ابن عربي تكمن في روح الانفتاح والتسامح والحب، يشهد على ذلك أنها تلتقي بالكثير من العقائد الفلسفية عند غير المسلمين، فهي تلتقي بفكرة الفيدا عند الهنود التي تقول إن المعرفة الحقيقية تأتي من طريق الإشراق، وإن الهدف من الحياة هو الاتحاد ببراهمان، كما تلتقي بمبدأ الطاو عند أهالي الصين الذي يقول: إن الله يتجلّى في العالَم. كما تلتقي بالأفلاطونية الحديثة خصوصاً بفكرة الفيض القائلة إن العالَم قد فاض وبأن النفس الكلّية كنور الشمس المُشرق على غُرَف عدّةٍ، في كلٍ منها جزءٌ منه. وإن النفس الجزئية تستطيع أن ترجع –خلال حياتها- ولو لحظاتٍ معدودة- إلى النفس الكلّية لتنال السعادة، وهي تلتقي بالنصرانية في فكرة المحبّة. وأغرب من هذا أننا نجد اصداءً لفلسفة ابن عربي عند كثير من المفكّرين من أمثال سبينوازا في فكرة وحدة الوجود، وهيغل في فكرة الجدل (الديالكتيك) وبرغسون في فكرة الحدس والديمومة، وأغرب من هذا وذاك أننا نجد بذوراً من فلسفة ابن عربي لدى السريالية التي تقول: إن المتناقضات قابلة للانحلال. وإن الحقيقة تكمن في العقل الباطن مستودعِ الأسرار الكونيّة.. وإذاً ففلسفة ابن عربي تؤهّله بحقٍ أن يكون فيلسوفاً كبيراً ومفكراً عالمياً من الطراز الأوّل.

 

المصادر والمراجع

1-الفتوحات المكية –ابن عربي- تحقيق د.عثمان يحيى، مراجعة د.إبراهيم مدكور الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة 1972.

2-فصوص الحكم –ابن عربي- والتعليقات عليه بقلم أبو العلا عفيفي- دار إحياء الكتب العربية، مصر 1946.

3-ترجمان الأشواق –ابن عربي- دار صادر، بيروت 1961.

4-تاريخ الفكر العربي –د.عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت 1966.

5-تاريخ الأدب العباسي –تأليف ر.نكلسن- ترجمة صفاء خلوصي- المكتبة الأهلية، بغداد 1967 .

6 - ابن الفارض سلطان العاشقين ـ د.محمد= مصطفى حلمي ـ سلسلة أعلام العرب ، عدد )15)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ مصر 1963.

7-لقاء القيم في الفكر العربي –عادل العوّا- دار شمأل للطباعة والنشر، دمشق 1993.

8-المزاج الحضاري في الفكر العربي –عادل العوا- المطبعة الجديدة، دمشق 1992.

9-الطبقات الكبرى –سيدي عبد الوهاب الشعراني ج1، بلا مكان/ تاريخ.

10-مجلة "تراث الإنسانية" وزارة الثقافة والإرشاد القومي –المؤسسة العامّة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – المجلد الأول (2،3). مقال "الفتوحات المكية" للدكتور أبو العلا عفيفي.

1-دائرة المعارف الإسلامية، مادة "ابن [الـ] عربي" ص343.

12-دائرة المعارف البريطاني

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

(*) - رئيس قسم التاريخ في بجامعة حلب

 

المصدر: مجلة التراث العربي

مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 80


الحركة فـي الذكر (التمايل)

  الحركة فـي الذكر (التمايل) أحمد عبد المالك الحركة في الذكر أمر تناوله علماء الإسلام ما بين الإباحة والتحريم والتقييد بشروط وما زال لل...